يتزايد في لبنان عدد محترفات تصنيع الخيزران البامبو، فيعكس حنيناً الى ما هو أبعد من الأثاث، هذا الذي يتسم اكثر من غيره بسمات عالمية، ويتنوع في خاماته وأشكاله وطرائق صنعه، والمقاصد واحدة: رفاه الانسان. بين هذه المفروشات المتنوعة خامات وأشكالاً، تستقل مفروشات الخيزران بسمات، فهي نتاج عمل يجمع بين الحرفة والفن، بما يوفره الخيزران المطواع للنار من امكانات تشكيل، وامكانات تنويع في الاثاث، بين مقاعد للجلوس، وخزائن للثياب، وأسرّة للنوم، ومكتبات وصناديق ومرايا، وما شئت من أدوات. وهو - هذا الخيزران الرشيق الأنيق - شاهد على أمرين: تفاعل الأمم واقتراضها عناصر حضارة تمعن في عالميتها، وهامش ابداع له ملامحه المحلية. والحرفة بين هذا وذاك دليل على ان الانسان في تكيفه مع البيئة استدرك، منذ البدايات، وسائل التكيف من محيطه حجراً وشجراً وغير ذلك. والارجح انَّ حرفة الخيزران نشأت حيث ينبت الخيزران فكان اثاثاً، وكان سلاحاً، وكان منازل ووسائل نقل. وعن الأمم التي صنعته ابتداء اخذته امم اخرى متاجرة او غازية او مغزوَّة. من اندونيسياوسنغافورةوماليزيا، وما جاورها، يستورد الحرفيون اللبنانيون خيزرانهم، وفيه الدقيق، وفيه الثخين. وهنا، في محترفات لبنان، تلبَّى حاجات استهلاكية وحاجات كمالية، وتراعى في الصنع اذواق وحاجات، ويتيسَّر لطالب الخيزران ان يشارك في التصميم، فيرسم او يوافق على رسوم، او يختار نماذج مما في الكتب والصور، مرتاحاً الى ان الحرفي فنان قادر على تشكيل المطلوب. والاقبال على الخيزران اليوم تفسره عودة الفنادق وتكاثرها، وظهور المسابح البحرية التي تقلص باستمرار رقعة "السان بلاش"، وتكاثر المطاعم، غير ميل ربات البيوت الى تنويع ما في البيت من اثاث واضافة اثاث رخيص الى حدٍ ما، رشيق جميل كما يشاء الزبائن ان يكون جميلاً. ومفروشات الخيزران في لبنان شائعة منذ القرن التاسع عشر، الا انها شهدت طفرة في الخمسينات من القرن العشرين، ولا سيما في المدن الساحلية، وفي المقاهي. وما زلتَ تستطيع العثور في بعض المنازل ومحلات العاديات الأنتيكا على اثاث قديم صنع من خيزران، فإذا قرنته الى الاشكال الشائعة اليوم وجدت ان التشكيل بالخيزران غير متناه، تماماً كما يشكل الفنانون نحتاً ورسماً. والخيزران اثاث يقتنيه الموسرون ومتوسطو الحال، ويمكن للفقراء الحصول عليه من محلات الانتيكا، والحاكم في هذا وذاك كمية الخيزران في "القطعة"، ومدى التزويق فيها وابتكار النمنمات والرسوم. الا ان طواعية الخيزران للفن لا تمنع ان ينتج الحرفيون اثاثاً لمحض الاستهلاك، يُبذل فيه وقت اقل، وتقل فيه اللمسات الحميمية. بين الحرفيين، العريقين في الحرفة، رجل لا يزال اميناً لتقاليد الحرفة بما هي "ذوق وفن" كما يقول، هو جميل الجوهري الذي تعلمها وزاولها منذ كان في العاشرة، وحين اشتد عوده وعرف من اسرارها ما عرف، استقل بمحترفه وعشق ما يعمل. يتحدث جميل الجوهري باعتزاز عن انه "معلم اجيال" في هذه الصنعة، ويقول ان اكثر الحرفيين في هذا المجال "تلاميذه او تلاميذ تلاميذه" يقولها لمحض الاعتزاز لا التبجح... ففي هذا الميدان يُقاس الحرفيون بما يملكونه من طاقات ابداع. هو في المهنة منذ نحو اربع وخمسين سنة: "نزلت من عرمون، واشتغلت في معمل خيزران يملكه آل ربيز، وكنت في العاشرة. وفي العام 1953 انفصلت عن آل ربيز الذين أقفلوا معملهم... ومنذ ذلك التاريخ علمت الصنعة ما يزيد عن مئة وخمسة وستين معلماً بين لبناني وسوري وأردني... بعضهم يملك اليوم محترفه، والله يوفقهم". ماذا تعرف عن نشأة هذه الحرفة؟ - نشأت في الصين والفيليبين وهونغ كونغ... في الهندالصينية اجمالاً. وأظن انها اكثر ما تطورت في ماليزيا وأندونيسيا. من هناك تأتون بالخامات؟ - من سنغافورة... عندهم مرفأ يصدر الى العالم كله... ومن بلدان اخرى غير سنغافورة. وفي لبنان؟ - اعتقد انها لا ترجع الى اكثر من مئتي سنة... تطورت في الخمسينات. تعني منذ استقلالك بالمحترف؟ - لا انسب الفضل اليّ... المهم اننا في لبنان نصنع اثاث الخيزران باتقان ومتانة. متى تعتمد على "الكاتالوج" ومتى تبدع؟ - انا اطّلع على الكتالوجات... احب الاطلاع على الابتكارات في العالم، وأستطيع تنفيذ التصاميم التي فيها. ولكنني اضع غالباً تصاميمي، وأنفذ بدقة التصاميم التي يريدها الزبون، وأنصحه احياناً. اين الفن في حرفتك؟ - هي الفن في ذاته... هي كالرسم. اذا لم يعشقها الحرفي لا يستطيعها... نحن ننقل الى قضبان الخيزران ما يرسم في رؤوسنا... نصنع اي شيء، علماً أننا لا نملك قوالب ولا بخاراً ولا آلات ضخمة... ادواتنا بسيطة: شاكوش وكماشة ومقص تقليم ومعدلة خشب. نحمل هذه الخيزرانة ونسخنها على "بابور" الغاز... نريدها "طارة" فتكون "طارة"... نجعلها "فوتيه" لا كما يفعلون بالخشب... المسألة ليست كبسة زر وكفى... نحن نعمل بجهد، ولا شيء يأتي ببساطة. تدوم الحرفة؟ - ستصل الى المريخ. ما دام عندنا شباب طيبون ستصل الى المريخ.