مع بداية هذا القرن، وفي عام 1905 تحديداً، طلب السير هنري كامبل بنيرمان رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت، من أبرز العلماء المتخصصين في مجالات الاستشراق والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك، إجراء دراسات ميدانية وافية عن مستقبل المنطقة الجغرافية الواقعة بين افريقيا وآسيا وأوروبا، منطقة بلاد الشام، وعن الطريقة التي توفر السيطرة عليها والهيمنة على خيراتها الطبيعية الوفيرة، والإفادة من موقعها الاستراتيجي. وبعد جهود شاقة، ودراسات مستفيضة، تمخّضت أدمغة العلماء في عام 1907 عن آراء ومقترحات اهمها على الإطلاق زرع جسم غريب الصهاينة على موجة اليهود وسط المحيط في فلسطين تحديداً، ودعمه بأسباب القوة بأشكالها المختلفة ليكون متفوقاً في كل الأحوال، وهمزة وصل بين ضرورة بقائه ونموه وقدرته على السيطرة، وبين تحقيق مصالح الغرب من خلاله. وكان من الضروري تحقيق ذلك على مراحل وبخطوات بطيئة حيناً وسريعة أحياناً، بالقوة حيناً وبالسياسة حيناً آخر، وتحت شعارات ومسميات مختلفة، آخرها الشعار الاستهلاكي الأكثر ضراوة "عملية السلام". ليست قرارات التقسيم، ووعد بلفور، وموجات الهجرة، ومشاريع المستوطنات والمستعمرات، والاحتلالات الصغيرة والكبيرة، والحروب إلا علامات على طريق تحقيق ذلك. وهذا ما يفسر، بجلاء، الدعم غير المحدود، الذي يحظى به الكيان الصهيوني ليس من اميركا فقط، بل من أوروبا أيضاً. وأشدّ صور الدعم وضوحاً ذلك السكوت المشبوه عن الممارسات الوحشية والظالمة التي تجري على أرض فلسطين، تحت سمع العالم وبصره، والإصرار على رفض مجرد الإشارة أو التلويح اللفظي بالإدانة، ولو من باب إدانة "الإفراط في استعمال القوة". وفي قراءة بسيطة وموضوعية للأحداث الجارية الآن نستطيع ان نقرر ان الانتفاضة التي يعيشها شعبنا العربي الفلسطيني الآن هي حلقة في سلسلة نضال وكفاح متواصل لاسترداد وطنه المغتصب، وتحقيق حريته واستقلاله على ترابه الوطني، ابتدأت من قاعدة شعبية بشكل عفوي لكنه محدد الأهداف منذ ثورة الشيخ الجبلاوي، عزّ الدين القسام 1933 على أقرب تقدير، مروراً بال1936- 1937 وحرب 1948 والحروب اللاحقة 1956 و1967 و1973 و1982، وما بينها من حروب صغيرة وكبيرة، تسير على خط بياني يرتفع تارة ويخبو تارة اخرى، لكنه لم يتوقف ولم يحد عن هدفه. وهو بذلك يعلن في كل مناسبة رفضه الحلول الجزئية التي تنتقص من أمانيه وآماله، والتي دفع من اجل تحقيقها تلالاً من الشهداء وأنهاراً من الدماء". الى أن جادت انتفاضته الكبرى في عام 1987. وهي جاءت على صورة غير مسبوقة، مبتكرة اشكالاً جديدة للنضال، جعلت من الحجر رمز رفض لا يساوم، واستطاعت ان تبدّل موازين الصراع، وتفرض على العدو القبول بمبدأ التفاوض. وكان مؤتمر مدريد الذي اخترق باتفاقيات أوسلو، وما تبعها من اتفاقات أجهضت الانتفاضة الى حين. ولم تحقق كل الاتفاقات والمؤتمرات الصغيرة والكبيرة، السرية والعلنية، وعلى مدى سبع سنوات وأكثر إلا مزيداً من الاحتلال، ومزيداً من المماطلة، مؤكدة مطامع الصهاينة وإصرارهم على تحقيق مشروعهم المركّب على تذويب الشعب الفلسطيني، وكسر إرادته واحتلال أرضه، والسيطرة بطريقة أو بأخرى على الشعب العربي بكامله، ببشره وأرضه وخيراته وثرواته. وجاءت زيارة "شارون" الأخيرة لحرم المسجد الأقصى، بصلفها وغرورها واستهتارها بقيمنا وديانتنا القشة التي قصمت ظهر البعير، فقدحت الشرارة المطلوبة لمواصلة الانتفاض من جديد في 28 ايلول سبتمبر 2000 تحت عنوان كبير "انتفاضة الأقصى"، قارعة جرس الخطر في آذان العرب والمسلمين قاطبة. وعلى ضوء ما يجري الآن على أرض فلسطين، ومن خلال تحليل بعيد عن الانفعالية نطرح سؤالاً قد يبدو سخيفاً، ولكنه يحمل شرعيته، ولا بد لنا ان نطرحه: ترى عن أي سلام يتحدثون؟ يقول الجنرال ايهود باراك: "ان إسرائيل ليست بلداً فحسب، إنها فكرة ومثال... وعلى رغم الصعوبات، فأنا أؤمن اننا لن نثبت فقط وإنما سنسود، ونحقق إرادتنا لأجل جيل صهيون القادم، وسوف نغنم السلام والأمن ولا بد لنا من ذلك. إنه زمن المشروع الصهيوني الجديد، المشروع الذي يجعل من إسرائيل رائدة في التعليم والتكنولوجيا ليس في حدود اقليم واحد فحسب، ولكن في عالم الاقتصاد الشمولي الواحد". ويقول باراك في محاضرة علنية: "نحن لا نستطيع ان ننسحب الى حدود 1967 ولن نفعل ذلك! فهذا المطلب يبدو وصفة لنصف قرن آخر من الحروب. وسوف نصر على القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، ولن يحدث ابداً ان يجد اليهود انفسهم منفيين ثانية من قلب تاريخنا ووطننا. سنصر على أن يبقى مستوطنو السامرة ويهودا تحت السيادة الإسرائيلية، إذ يجب ان يكونوا المستفيدين من السلام وليس ضحاياه، كما سنصر على رفض انتشار أي جيش اجنبي على الضفة الغربية لنهر الأردن، فأية تسوية لا بد وأن تجسد درعاً لإسرائيل، وليس خنجراً مشرعاً لطعنها. سنتشبث ايضاً بكلتا الحمايتين، حماية انفسنا في مواجهة الإرهاب، وحماية مصادرنا المائية التي تمثّل اكسير الحياة بالنسبة لإسرائيل". وأعود قليلاً الى وقت ذهب فيه "باراك" الى شرم الشيخ الأول لتوقيع اتفاق خرج عن اتفاق سابق قال: "أشعر بالحزن الشديد لأنني سأوقّع تنازلاً للفلسطينيين عن أرض لدولة إسرائيل". لقد مرّت على بلادنا، منذ قبل الميلاد، ثقافات غازية اكثر من ان تحصى، مارست علينا أقصى ما تستطيع من أشكال القمع وعنصرية العرق المفرطة. لكنها لم تتمكن من العبث قيد شعرة بأهم ركائز حضارتنا، لغتنا العربية التي كرّمها الله سبحانه فكانت لغة القرآن الكريم. هذه اللغة الأساس، إضافة الى عوامل اخرى هامة كالأرض والتاريخ المشترك والقيم والعادات والدين والمناخ وطبيعة العلاقات... تجمعنا تحت مظلة واحدة على رغم تقسيمات سايكس بيكو المفتعلة. وتأتي انتفاضة اهلنا في فلسطين اختصاراً لهذه المعلومات التي تبثت بشكل قاطع بطلان ادعاءات الصهاينة ومن يحالفهم، والتي نخلص منها الى الحقائق الآتية: ان الانتفاضة الشعبية قدرنا الذي لا مناص منه، وأن هذا الشعب العظيم لا بد ان ينتزع نصره، ويحقق ذاته، وهو بذلك يعلن للعالم ان الحركة الصهيونية ومن يواليها لا تستهدف الشعب الفلسطيني وحده بل الشعب العربي بأسره وفي أقطاره المختلفة، وأن المقاطعة بكل أشكالها واجب وطني وقومي، وسلاح فعّال ومجد، ليس ضد الكيان الصهيوني وحده بل ضد كل القوى التي تواليه وتقدّم له الدعم العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي... وعلينا ان لا ننسى ان الغزاة انكفأوا على أعقابهم في اكثر من موقع، وعلى أكثر من صعيد حين استهدفوا بمقتلين، أفرادهم ومصالحهم الاقتصادية. ان منطق التاريخ لا يقبل الخلط، كما ان مراكز القوى العالمية قابلة للتبدّل، والحق يبقى هو المحرّض، والانتصار للصابرين الصامدين. دمشق - عدنان كنفاني