اذا كان للمرء ان يذكر الكآبة، كواحد من العناصر المكونة للابداع، لا سيما في سمته الاكثر رومانسية فإن العمل الابداعي الاول الذي يخطر على البال هو عمل سابق على بزوغ النزعة الرومانسية: انه محفورة للألماني ألبريخت دورر عرفت دائماً باسم "الكآبة 1". و"الكآبة" هي التعبير الذي نستخدمه هنا لترجمة كلمة MELANCHOLIA اليونانية - اللاتينية، التي تحمل في الواقع من القوة ما يفوق ترجمتها العربية بكثير. ولعل هذا الفارق هو الذي جعل الحس الشعبي، في مصر مثلاً، يستخدم الاصل الصوتي اللاتيني محرفاً بعض الشيء للتعبير عن الحال فيقال "مناخوليا" ولا يقال "كآبة". ولوحة دورر التي نتحدث عنها هنا تحمل الكآبة في كل زاوية من زواياها، وفي كل غرض من الاغراض التي تملأها. ولكن اية كآبة هي هذه؟ الحقيق، انها وكما يعبر دورر بكل وضوح، كآبة ناتجة من المعرفة. فبالنسبة الى ألبريخت دورر، ابن عصر النهضة وصديق ابرازموس، وأحد اقطاب النزعة الانسانية في فنون ذلك الزمن، لا يمكن العقل الواعي، اذ يترك امام افكاره ومصيره، الا ان يشعر بالكآبة. وتزداد هذه الكآبة كلما ازداد علماً ومعرفة. فهل يمكننا، انطلاقاً من هذا، ان نقول ان دورر يدعو الى الجهل وعدم التفكير كوسيلة لبلوغ السعادة؟ ابداً، كل ما في الأمر ان دورر، الكاتب والشاعر والباحث والمهندس، عبر عما كان شاعرنا العربي يعبر عنه حينما قال: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله. انطلاقاً من محفورة دورر هذه، ولكن ايضاً انطلاقاً من السمات التي تطبع معظم اعمال هذا الفنان الذي تقارن عبقريته عادة بعبقرية ليوناردو دافنتشي ولا سيما محفورات "يوم الحشر" و"الفارس والملك والموت" و"القديس جيروم" وما شابه، قيل دائماً ان هذا العمل يعبر عن استحواذ القلق الروحي على العقل الجرماني منذ وقت مبكر. وقائلو هذا يذكرون، في طريقهم، أن العقل الجرماني هو الذي اخترع التحليل النفسي. على غرار معظم محفورات دورر، تبدو محفورة "الكآبة 1" شديدة التعقيد، ولكن في الوقت نفسه يبدو واضحاً ان دورر لم يترك للعفوية ان تملي عليه رسم اي شيء داخل اللوحة. كل شيء هنا موضوع في مكانه وفي علاقة مع الاشياء الاخرى. كل شيء يرمز الى بعدما. وكل الاشياء، على تنوعها واختلافها، تبدو في الصورة، وكأنها تقود الى مركزها الاساس: نظرة المرأة الجالسة، تلك النظرة التي تحفل بالحزن العسير على الوصف، وهو حزن ترفده حركة اليد اليسرى على الخد، واستسلامية اليد اليمنى قابضة على البيكار. ولئن كان دورر قد رأي نفسه مجيراً على وضع عنوان للوحة يحمله ذلك الطير الناعق، فإن كل ما في الصورة يحمل ذلك العنوان. ولكن ماذا في الصورة؟ ادوات حسابية وهندسية، ميزان وجرس، مسامير وأخشاب، آلة لقطع الخشب وأخرى لصقله، جدول ارقام يضم 16 رقماص وضعت في ترتيب يجعل مجموع كل عمود 34... وعدد من الاشياء الاخرى. للوهلة الاولى يبدو كل ما في اللوحة، الى حال الانتظار المكتئبة التي تعيشها المرأة، يبدو كل هذا مؤشراً الى حال عجز عن الابداع يعيشها الفنان، ذلك ان بعض الاشياء والاجواء المرسومة هنا، يستخدم عادة في تحقيق المحفورات. وفي تلك الفترة من حياته كان دورر مهتماً بالحفر على الخشب اكثر من اهتمامه بالرسم الزيتي. غير ان مسألة الابداع وانسداد آفاقه لم تقنع الباحثين الذين لم يكفوا منذ اربعة قرون عن مساءلة هذه المحفورة ومحاولة استقراء تفاصيلها لايجاد تفسير لما رأوا انه الغازها. والحال ان التفسير تبدل دائماً بتبدل العصور. والحال ان مؤرخ الفن الايطالي فازاري الذي كان من كبار المعجبين بدورر، تنبأ باكراً بأن هذه اللوحة ستثير دهشة الناس واعجابهم واسئلتهم زمناً طويلاً. في البداية رأى الباحثون ان مزاج اللوحة له علاقة برغبة دورر في التعبير عن حزنه على موت امه. وفي القرن الثامن عشر، فسر الدارسون اللوحة بأنها تعبر عن القلق المعتمل داخل شخصيتها الرئىسية. وآخرون رأوا في القرن التاسع عشر ان للكآبة علاقة بالكتاب المغلق الذي يبدو ان المرأة كانت تقرأه للتو وها هو الآن في حرجها مهملاً. اما باحثو العصور الحديثة فاهتموا اكثر بتفسير دلالات الاشياء المرسومة كما كان الفكر ينظر اليها في العصور الوسطى، وفي مجالات علم الفلك والفلسفة والرمزية المعبرة عن النزعة الانسانية. ويرى هؤلاء ان الاشياء المرسومة ترمز الى "الفنون السبعة الحرة" في الدراسة القروسطية: القواعد، القانون، الموسيقى، المنطق، والهندسة والحساب والفلك... ودورر نفسه، على اية حال، لم يكن تفسيره بعيداً من هذا، وألمح كثيراً الى انه، في محفورته، استند الى روح كتابات الفيلسوف الافلاطوني الايطالي مارسيليو فيتشينو. فهذا الاخير كان يرى ان "كل انسان يبرع في فن من الفنون لا بد من ان يكون كئيباً". والمرجح هنا هو ان دورر في هذه المحفورة الغريبة، انما شاء ان يمزج بين كآبته الشخصية، وبين الاعتقاد المرتبط بالنزعة الانسانية، والذي يرى ان اعلى درجات النشاط الذهني، هي تلك المركبة والمنطلقة من مزاج مكتئب. وهذا التفسير لم يكن غريباً عن دورر، الذي لا نراه في اللوحات التي رسمها لنفسه، الا كئيباً حزيناً عميق التفكير. ولقد كان دورر 1471-1528 واحداً من ابرز فناني عصر النهضة الاوروبية. وهو كان واحداً من فناني الشمال الذين قاموا بالرحلة الى الجنوب لتعزيز ملكاتهم الفنية، فزار البندقية في العام 1494 بعد ان تلقى دروسه الفنية الاولى في مسقط رأسه نورمبورغ. ومن هنا نلاحظ ذلك التمازج الخلاق لديه بين اساليب عصر النهضة الجرمانية والاساليب الايطالية، ولا سيما من ناحية التعامل مع الاحجام والمنظور وهو وضع نظريات ثاقبة مكتوبة حول مسألة المنظور. ولقد رأى الباحثون دائماً ان اعمال دورر تعبر في شكل عام عن تلك الثقافة الانسانية التي كانت في مرحلة بزوغ في ذلك الحين، وترتكز على التاريخ والفلسفة، مرتبطة مباشرة بما كان سائداً في هذين المجالين في العصور الاغريقية. ومع هذا رأى كثيرون ان تعبير دورر، في معظم اعماله كان يتوجه نحو منظور ديني الالهام، اكثر مما يستقي من تجربة تاريخية حقيقية. وهو كان يرى، ان العصور القديمة كانت زمن الدين القائم على الفكر العميق والالتقاء بالطبيعة والرموز، ولكن هذا كله اضحى اليوم - في زمنه - امراً لا يمكن الوصول اليه الا عبر تجربة الايمان، وعبر النظر في شكل دائم الى عالم الموت والخطيئة المقلق. والحال ان دورر الذي بدأ حياته الفكرية مرتبطاً بنزعة ايرازموس الانسانية، سرعان ما تحول الى الاصلاح اللوثري. غير ان هذ التحول زاد من حيرته وقلقه. وهكذا في الوقت نفسه الذي كتب في الفكر وحلل الفن، ووصلت به عبقريته الى درجة ابتكار فنون هندسية ولا سيما في مجال التحصينات، كان منشغل البال دائماً في قضايا مثل معنى الوجود وفردية الانسان والدين كخلاص. وهو ما عبر عنه في لوحات ومحفورات، حققها خلال عقود من السنين، كانت الحياة خلالها تتقلب به، حتى وان كان من المعروف انه امضى جل سنوات حياته في مسقط رأسه نورمبورغ التي ولد فيها ومات. ومن المعروف ايضاً انه كان يستدعى بين الحين والآخر، الى القصر الامبراطوري ليكلف اعمالاً. ومن بين هذه الاعمال، وأغربها، القوس الكرتوني الذي حققه لمناسبة أحد اكبر انتصارات الامبراطور ماكسيميليان. ولقد عرف عن دورر دائماً ان اعماله المحفورة تضاهي في قوتها التعبيرية والتشكيلية اعظم اللوحات والمنحوتات وغير ذلك.