ذكر الانثروبولوجي المعروف مايكل كيرني Michael Kearny انه لم يعد من الممكن دراسة التصورات حول الثقافات في تكويناتها، والعلاقات في ما بينها، إلا بالاستناد في ذلك - وبخاصة في المسائل العلائقية - الى بحوث وفرضيات "رؤية العالم" او رؤاه. وكان هذا المصطلح: "رؤية العالم" Weltanschauung ظهر للمرة الأولى في كتابات الفيلسوف والمؤرخ الاجتماعي الألماني Wilhelm Dilthey 1833 - 1911. ثم شاع في اوساط الانثروبولوجيين والمؤرخين منذ القرن التاسع عشر، بحيث صار اليوم احدى المقولات الكلية التي تدخل في مضمون الثقافة. وقد صنّف السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر Max Weber 1864 - 1920 تلك المقولة في مستويين، درس استناداً إليهما ثقافات تاريخية عدة. يتعلق المستوى الاول بما يطلق عليه دلتاي اسم "الصورة الكونية" التي تؤلف الكتلة الاساسية للمعتقدات والمسلّمات الافتراضية عن العالم الحقيقي والواقعي. والتي يمكن في ضوئها الوصول الى اجابات شافية عن التساؤلات عن مغزى الكون والوجود، او ما يعرف بروح الحضارة. ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصوّري الواعي والإرادوي، الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها ضمن تقسيمات العالم الواقعية او المركّبة من النواحي الثقافية في الأصل، لكن ايضاً من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. وأحسب هنا اننا معنيون بالمستوى الثاني، المتعلق بالتركيبات الحاضرة للعالم، والتي ألجأتنا للعودة الى "الصورة الكونية" او الى المستوى الاول او الاساسي. اذ استناداً الى وعي الأفغاني وعبده والعظم ورضا وأرسلان لأحداث العالم وتركيباته وترتيباته، ومواقع المسلمين فيه، حددوا اشكالية المسلمين بأنها التخلّف في سائر المجالات، كما حددوا الحل وهو التقدم. على ان المفكرين الاسلاميين بدأوا يتخلّون عن هذه الفكرة، او عن هذا التحديد للإشكالية منذ الثلاثينات من القرن العشرين. وليس بالوسع القول ان هذا التخلي سببه عجز المسلمين عن التقدم، بل الأمر أعقد من ذلك. فالتقدم عند النهضوي الاسلامي يستند في مفهومه الى مقاييس غربية. وبتلك المقاييس يمكن القول ان المسلمين كانوا يتقدمون. لكن مرة اخرى، فانه بالمقاييس الغربية ايضاً، ما كان ذلك كافياً ولا شافياً، بدليل عدم المقدرة على الوصول الى حل لإشكالية المسلمين مع الغرب ضمن التركيبات العالمية التي كانت سائدة آنذاك، والتي تركت اثراً عميقاً في وعي المسلمين، وبالتالي في تكييفاتهم للأوضاع القائمة في العالم الاسلامي. وقد بلغت تلك التأثيرات احدى ذراها في ضياع فلسطين من جهة، وعدم نجاح التجربة الباكستانية من جهة ثانية. كان بالوسع طبعاً ذكر امثلة للنجاح: ظهور الدولة الاندونيسية التي لم تتوحد جزرها طوال التاريخ، وتوحدت في الخمسينات. كما كان بالوسع ذكر الدول الاسلامية الكثيرة التي ظهرت واستقلّت. كما كان بالوسع ذكر حركة عدم الانحياز التي وضعت المسلمين في قلب حركة عالمية كبرى، والتي اثارت فعلاً اهتمام ابي الحسن الندوي لفترة، واهتمام مالك بن نبي حتى الستينات. لكن مسارب الوعي لا تجري على نحو واقعي او مفهوم دائماً. ولذلك اتخذ ذلك الوعي مسارب اخرى أوصلت "رؤية العالم" لدى المفكرين الاسلاميين الى حدود المستوى الأول، حدود الصورة الكونية: مغزى الوجود والكون. فظهرت تصورات الاستخلاف والتكليف والحاكمية، التي وضعت الوعي الاسلامي في سياق العقائدية، سياق الهوية والرسالة والخصوصية. فما عادت مسألة التقدم كافية لمعالجة الإشكال، وصار مطلوباً "تحقيق الذات"، بالنضال المباشر، وبإعادة بناء التصور، وبتحديد خصائص ذلك التصور، سبيلاً للنضال من اجل انجازه على ارض الواقع. فعدم الارتياح الى الترتيبات والتركيبات السائدة في العالم على كل المستويات، انتج وعياً مزدوجاً: الانسياح باتجاه التاريخ من جهة، وعدم الاطمئنان في الوقت نفسه الى الطهورية الكاملة لذاك التاريخ. ذلك انه في الوقت الذي كان فيه المفكرون الاسلاميون يرجعون الى استكشافات النهضويين للتاريخ الاسلامي، كانوا في الوقت نفسه يبتعدون عن افكارهم ومسلّماتهم باعتبارها ذات مرجعية غربية. ومن هنا كان لجوؤهم بإلحاح تأصيلي الى النص نفسه باعتباره كامل الطهورية والعصمة. وبذلك اكتمل خطاب الحتميات لدى الاسلاميين في الوقت الذي كان يكتمل فيه ذلك الخطاب لدى القوميين والاشتراكيين في تناغم غير واعٍ مع السائد عالمياً في الحرب الباردة. فالقوميون والاشتراكيون على رغم وجودهم في السلطة في العالم الاسلامي او على مقربة منها، كانوا محبطين ايضاً لعدم الاطمئنان الى متانة اوضاعهم في الترتيبات الواقعية للعالم. وهكذا فان البنية الاساسية لوعي العقائديات والحتميات لدى سائر التيارات الفكرية والسياسية العربية والاسلامية كانت واحدة، وظلّت كذلك حتى مطالع التسعينات من القرن العشرين. اما الصراعات بينها فهي صراعات على ساحة السلطة او السلطات، وعلى المواقع في دولهم ومجتمعاتهم - وليس نتيجة الاختلاف في رؤية العالم. كانوا جميعاً يناضلون من اجل الانفصال عن العالم بعد اذ عجزوا عن الوصول الى حالة من الرضا عن مواقعهم فيه. لقد رأى الإحيائيون الاسلاميون دائماً ربما باستثناء مالك بن نبي الذي كان يملك على اي حال تصوراً استقلالياً آخر ان الترتيبات العالمية، التي تبدو على درجة كبيرة من الانقسام، ليست منقسمة في الحقيقة، بل هي موحّدة في مواجهتهم. اما القوميون واليساريون فوضعوا انفسهم في صف احد الانقسامين لفترة قصيرة، ثم ما لبثوا ان تحولوا باتجاه النضال الشامل مثل الاسلاميين من اجل "تحقيق الذات" التي لم تجد هويتها إلا في الانفصال مركز دراسات الوحدة مثلاً وتصوراته للمشروع الحضاري، وللتنمية المستقلة، في الثمانينات. ... وبدأ المشهد يتغير ويختلط في مطالع التسعينات: انهار الاتحاد السوفياتي، ونشبت حرب الخليج الثانية، وازدادت علائق المسلمين بالعالم سوءاً بحيث ظهرت مقولة هنتنغتون حول صراع الحضارات، وحول التخوم الدموية للإسلام. ثم توالى ظهور المشروعات الاستراتيجية ذات الابعاد الثقافية: حوار الحضارات، والنظام العالمي الجديد، وثقافة السلام، والتعددية الثقافية والسياسية... والعولمة. واعتبر الاسلاميون والقوميون والبقية الباقية من اليسار ذلك كله لغير مصلحتهم، وبخاصة تلك الهيمنة الاميركية الطاغية في الاستراتيجيا والأمن والقيم السياسية والثقافية. لكنهم بعكس ما فعلوه حتى الثمانينات اقبلوا على مناقشة الامور كلها، وإعادة النظر في المسلّمات، وطرح الأسئلة على أنفسهم وعلى العالم. انفجرت الحتميات في احضان كل التيارات، وبدأوا يغادرون ساح المعارك الايديولوجية، ولذلك انعزلت القلّة المتشددة من دعاة الحتميات القديمة او الجديدة. وتضم تلك القلّة راديكاليي الليبراليين الجدد، وراديكاليي الاسلاميين. يصرّ الليبراليون الجدد على أدلجة ظواهر العولمة، كما يصرّ خصومهم من راديكاليي الاسلاميين على الطهورية والانفصال. وبين هذا الطرف وذاك تنفتح البيئات الفكرية والثقافية والأدبية على آفاق شاسعة من التغيير تشكل مخاضاً ضخماً حافلاً بشتى الاحتمالات والإمكانات. وشأن المخاض العربي والاسلامي في ذلك شأن كل مخاض تختلط فيه وجوه وخطرات وخطوات التقدم والتراجع والتردد والتشبّث والقلق. لكن في ما عدا تلك القلة المطمئنة من الراديكاليين، فان الظاهر هو الاقبال الشديد على التغيير والتجدد والتجديد. فأقبل الاسلاميون منذ السبعينات على اصدار الدساتير والإعلانات الاسلامية لنظام الدولة، ولحقوق الانسان، وحقوق المرأة والطفل. وصارت تلك الاعلانات في التسعينات شأناً عربياً وإسلامياً عاماً. صحيح ان تلك البيانات والإعلانات تحفل بالشروط والتحفظات والملاحظات على الإعلانات العالمية، لكنها من ضمن وعي الهوية السائد تعتبر مراجعة نقدية لوعي القطيعة السابق، كما انها تطلّع غلاّب للمشاركة في قيم العالم والعصر، وفي جدول اعماله او اولويات اهتماماته. وعاد الاسلاميون للحديث في "مقاصد الشريعة" في حين كانوا غادروا هذا المبحث او هذا المنحى منذ عشرينات القرن العشرين. ويعني ذلك طموحاً لإعادة النظر في مكوّنات المستوى الأول من مستويي "رؤية العالم"، مستوى معنى الوجود والرسالة. صحيح ان الاسلاميين تحدثوا في الستينات من القرن العشرين عن الاسلام باعتباره البديل الديني والحضاري، لكنهم كانوا يريدون وقتها اعادة فرضه في عالم الاسلام، وليس في العالم. اما اليوم فان الاسلاميين البارزين الذين يتحدثون عن "مقاصد الشريعة" انما يريدون من وراء ذلك الدخول في منافسة مشروعة من ضمن القيم العالمية الكبرى. والاسلاميون الذين ازعجتهم صورة هنتنغتون السلبية عن الإسلام، وهي الصورة التي تغذّيها وسائل الاعلام العالمية كل يوم، ما عادوا للتحصّن وراء اطروحات الهوية المتعملقة، بل عالجوا - وإن بنقدية مشروعة على اي حال - قضايا حوار الحضارات والثقافات على قاعدة التقابس والتجاوز والتعددية والنسبية، آخذين حوار المسيحية والإسلام للمرة الأولى مأخذ الجدّ والتفهم. اما العاملون في اطار "اسلامية المعرفة" فانهم يخرجون تدريجاً من الاشتراط على النفس والعالم، معتبرين الاشكالية المعرفية اشكالية انسانية ينبغي التفريق فيها بين الحيادية والموضوعية. هل يعني ذلك كله تغييراً في رؤية العالم لدى الاسلاميين؟ الاجابة على هذا السؤال الكبير تتطلب اموراً عدة، الأمر الأول ان ما نشهده منذ عقد من الزمان انما هو مخاض هائل في مجالنا الثقافي، وفي العالم. ولذلك فانه لا يملك ملامح محددة او نهائية، وبرما لن يحدث ذلك في المدى المنظور، بل ربما ما كان ذلك مطلوباً. والأمر الثاني ان الرؤية السائدة للعالم لدى الاسلاميين كانت تتمحور حول الهوية، وتتسم: بالقطيعة والقطعية والطهورية، وما عاد الأمران الأولان متحققين. اما الأمر الثالث وهو مطلب الطهورية، فلا يزال ظاهراً، وإن لم يكن سائداً. والأمر الرابع الملحوظ هو الانزعاج القوي لدى الإسلاميين المعتدلين والمتطرفين، والقوميين، واليساريين، من الترتيبات على المستوى العالمي. وهي ترتيبات تحول في وعي هؤلاء جميعاً دون الانفتاح المرغوب على عالم تهيمن فيه وعليه قوى غاشمة. ان الامر الذي لا يمكن تجاهله ان وعي الهوية لا يزال قوياً. وهو وعي يؤدي مباشرة الى مشاعر وإحساسات الطهورية والتمايز والانفصال، التي تقول بالغزو الثقافي وبالتجدد الذاتي. وهاتان مقالتان غير تواصليتين. كما انهما تفرضان عقائدية معينة في مجال الفكر ومجال الثقافة نتيجة لذلك الوعي. فليس في الثقافات ولا بينها غزو او استتباع - كما ان التجدد لا يمكن ان يكون ذاتياً. فالذات المتجددة هي الذات المنفتحة التي تُصنع وتتشكل باستمرار في حوارية مع الآخر. والوعي لا ينتظم ويتواصل ويتجدد نتيجة حوارية داخلية بين نصوصه ومقدساته ورموزه وتاريخه، بل يتسق وينتظم عندما يتجه الخارج المتنوع والمتكاثر لمحاورة ذلك الوعي المزوّد بتلك العناصر، اي بالثقافة. ان هذا التوق لتحقيق الذات يحدث في العالم الواقعي، الذي تتشابك عناصره وتتكاثف وتتكاتف، فيتأثر بها الوعي المباشر تأثراً مباشراً. ولذلك فان صراع الاتصال والانفصال لا يدور في الثقافة بل يدور في الوعي. فالحديث عن ثقافة الهوية المتأزمة حديث فيه الكثير من التجاوز، والأدق الحديث عن وعي الهوية المتأزم، نتيجة الترتيبات غير الملائمة للعالم الواقعي. وهكذا فان الحلول لتلك التأزمات انما تُلتمَس ايضاً في مجال الوعي بالواقع، وليس في مجال الثقافة التاريخية التي يجري اللجوء اليها كثيراً من اجل اجتراح الحلول. قد لا تكفي كل ظواهر التغيير التي تحدثنا عنها للوصول الى ان تبدلاً في "رؤية العالم"، اي في عالم الثقافة، حدث. لكن الحتميات سقطت، ونحن نخرج من الأزمة، ونتجه الى البحث عن امكانات اخرى للتحقق والتحقيق. * كاتب لبناني. والنص محاضرة ألقيت في مؤتمر "تيارات الفكر الإسلامي المعاصر: إشكاليات الإصلاح والتجديد" في المعهد العالي للدراسات الإسلامية في بيروت يومي 16 نيسان ابريل و17 منه، 2001.