قرأت باستغراب ودهشة ما كتب توفيق الشاوي في "أفكار" يوم 27 نيسان/ ابريل 2001 رداً على فضيلة مفتي مكة الذي دان باسم الإسلام العمليات الانتحارية ضد المدنيين في إسرائيل. لكنه بدلاً من الرد الصريح على مفتي مكة كما فعل أنصار استخدام الإسلام لمصالح سياسية في صحف الإسلام السياسي التي لم تتورع كعادتها عن الزج بالإسلام الحنيف في حسابات سياسية تتنافى معه بل وتنفيه نفياً كاملاً، قال الشاوي إن فتوى مفتي مكة خاصة بالمدنيين في أوقات السلم لا في أوقات الحرب، وهو تحايل على نص الفتوى وروحها لأن فضيلة مفتي مكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ وصف العمليات الانتحارية في فلسطين بأنها "انتحار محرم شرعاً" وقد أصدر فتواه الموفقة رداً على العمليات الانتحارية التي قامت بها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في إسرائيل ضد مدنيين في إسرائيل كانوا ينتظرون في محطة باص. صنيع الشاوي مع فتوى فضيلة مفتي مكة كرره من دون أن يرف له جفن مع فضيلة شيخ الأزهر الدكتور سيد محمد طنطاوي، فقد زعم أن شيخ الأزهر أفتى بجواز العمليات الانتحارية، والمعروف أن الإمام الأكبر دان العمليات الانتحارية الغريبة عن روح الإسلام ونصوصه الطاهرة عندما كان يحتل منصب مفتي مصر، وقال أيضاً في مجلة "صوت الأزهر": "أما تفجير الإنسان نفسه وسط نساء وأطفال أو شيوخ غير حاملين للسلاح فليس هذا من ألوان الدفاع ولا يمكن قبوله". وفي عدد "الحياة" الذي نشر فيه مقال الشاوي فتوى شيخ الأزهر ضد العمليات الانتحارية في إسرائيل تحت عنوان: "شيخ الأزهر يعتبر العمليات الانتحارية استشهادية إذا وجهت الى الجيش الإسرائيلي وليس الى النساء والأطفال". فهي تحتمل هذه الفتوى تأويلاً للتلاعب بها؟ كلا. العمليات الانتحارية تكون استشهاداً في سبيل الله إذا كانت موجهة ضد الجيش الإسرائيلي الغاصب الذي ما انفك منذ 1948 يرتكب جرائم شنيعة ضد إخواننا الفلسطينيين، وقتل أفراده جائز شرعاً حتى يكفوا عن عدوانهم واحتلالهم واستيطانهم، وقتل الرجال من المستوطنين جائز أيضاً لأن الاستيطان احتلال لأرض الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه. لكن قتل المدنيين اليهود وقتل الأطفال والنساء جريمة ضد الإنسانية يدينها الإسلام الذي سبق معاهدة جنيف بأربعة عشر قرناً عندما أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيشه الفاتح: "لا تقتلعوا شجراً ولا تقتلوا راهباً...". حتى اقتلاع أشجار العدو حرام شرعاً فما بالك بقتل مدنييه ونسائه وأطفاله. والخلاصة أن فتوى كل من صاحبي الفضيلة مفتي مكة والإمام الأكبر شيخ الأزهر في تحريم العمليات الانتحارية الموجهة ضد المدنيين والنساء والأطفال اليهود تتفق مع مبادئ الإسلام الحنيف التي أحاطت حياة الإنسان بقطع النظر عن دينه بقداسة وحرمة لا نظير لهما حتى في القوانين الحديثة: "ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً" سورة المائدة الآية 32. فمن قتل إنساناً واحداً ظلماً هو كمن يرتكب جريمة ضد الإنسانية كلها "فكأنما قتل الناس جميعاً"، وأي قتل أشنع من قتل مدني أو امرأة أو طفل أخذاً بالثأر؟ والإسلام سبق القوانين الحديثة بأكثر من اثني عشر قرناً عندما نص لأول مرة في التاريخ الإنساني على شخصية الجريمة قطعاً لدابر الثأر القبلي الشائع آنذاك والذي يؤاخذ البريء بالمجرم فيقتل ذويه وعشيرته جرياً على العادات الجاهلية البغيضة. وهذا ما حرمه الإسلام قطعاً لدابر الثأر الجاهلي، فقد جاء في التنزيل "ألاّ تزر وازرة وزر أخرى" سورة النجم الآية الكريمة 38. يقول الإمام ابن جرير الطبري: "يقول الباري جل ثناؤه أنه لا يجازى عامل إلا بعمله خيراً كان ذلك ام شراً" أما قتل النساء والأطفال لأن الجيش الإسرائيلي يقتل هو أيضاً النساء والأطفال فهذا من باب أخذ الثأر الجاهلي الذي قضى عليه الإسلام وشدد النكران على مرتكبيه وكتب لهم في الآخرة عذاباً عظيماً. هذه هي الحقائق الإسلامية الدامغة في إدانة العمليات الانتحارية ضد المدنيين والنساء والأطفال التي تؤيد فتوى كل من مفتي مكة وشيخ الأزهر التي حاول الشاوي التلاعب بها بطريقة غريبة واستفزازية خدمة لأهداف سياسية توظف الدين في خدمة الدنيا. واستنجد الشاوي بفتوى للشيخ يوسف القرضاوي التي تبيح العمليات الانتحارية. أولاً، لا يحظى الشيخ القرضاوي بالصدقية الدينية التي يتمتع بها كل من مفتي مكة والإمام الأكبر شيخ الأزهر. وثانياً الشيخ القرضاوي انحاز كلياً لحركات الإسلام السياسي مستخدماً سلاح التكفير الذي نعرف أن الإسلام يأباه بل ويكفّر من يستخدمه بطريقة عشوائية "من كفّر مسلماً فقد كفر"، وأجمع فقهاء الإسلام على أنه إذا قال قائل قولاً يحمل من مئة وجه على الكفر ومن وجه واحد على الإيمان حمل على الإيمان لا على الكفر. ولم يبق لإثبات الكفر إلا "الكفر البواح" أي إعلان الكافر لكفره والإصرار عليه على رغم الاستتابة. لكن الشيخ القرضاوي لم يلتزم هذه القاعدة فكفر السنة الماضية المعتزلة والخوارج والرئيس جمال عبدالناصر وقيادة ثورة 23 تموز يوليو 1952 والروائي حيدر حيدر، بل كفّر حتى قراءه المعجبين بروايته لأن كل من يقول عن "وليمة لأعشاب البحر" انها إبداع فهو كافر. وكفر أيضاً شاعراً تونسياً هو محمد الصغير أولاد احمد، وأخيراً كفّر لعبة أطفال البوكيمون. فهل يحق للشاوي ان يستند للقرضاوي لنقض فتوى مفتي مكة والإمام الأكبر المستندة لآيات قرآنية قطعية الدلالة ولوصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجيشه التي تبنى اليوم مضمونها القانون الدولي واتفاقات جنيف، وهي جميعاً تحظر المس بالمدنيين في أوقات الحرب وتعتبر ان ذلك يشكل جريمة ضد الإنسانية. ولسوء الحظ فإن الشاوي لم يقرأ القانون الدولي ولم يسمع حتى باتفاقات جنيف التي تعتبر انتهاكها اقترافاً لجرائم ضد الإنسانية، والجيش الإسرائيلي ما انفك يقترفها بقتله هو أيضاً لنساء فلسطين وأهلها. * كاتب مصري مقيم في باريس.