ضغطت الصحراء بلطف على خاصرة الفرات الطرية، فانحنى قليلاً وضاق، شريط المراعي وحقول الحنطة وبساتين النخيل والحمضيات بمحاذاته. غير ان الصحراء لم تجرؤ - مع ذلك - على ملامسة النهر الجليل مباشرة أو تقبيله، بل تركت بينها وبينه حصيراً عريضاً من أرض تميل تربتها الى اللون الأحمر كأنها أرض الحمادة مفروشة بالحصى والحجارة الصلبة تناثرت بفوضى وسلام. أفلتت "جميلة" تنهيدة بدت حَرَّى، ولا مكان لها في ذلك الصباح الباكر والوديع كقطرة ماء باردة تتشرب الضوء، ثم راحت تشد عباءتها جيداً على هيئة مئزر حول وسطها، والتحقت بصاحباتها اللاتي شرعن في التقاط الكَمْءِ من تحت التربة الرطبة ووضعه في سلالهن الخوصية الصغيرة. كانت الشمس قد تسلقت مقدار قامة نخلة على حبل السماء الزرقاء الوضيئة، وبدت النسيمات الباردة القليلة المتبقية من برهة الفجر، تنافح بشراسة ضد اشارات الصهد الواردة ممزوجة بالضوء الأشقر الباهر. الفتيات الأربع القادمات من قرية "أم شامات" يعملن بحماسة وجدّ ظاهرين، وعلى مسافة رمية حجر، راحت مجموعات أخرى من الفتيات والفتيان تلتقط الكمء. إنهن يؤلفن فريقاً واحداً من مجموعة فرق تعمل في هذه المكمأة المترامية الأطراف خلال موسم قصير يستغرق بضعة أسابيع. قبل سنين طويلة، حين لم يكن ثمة حصار مفروض على البلاد، كانت هذه البطحاء أرضاً مشاعاً ومطرحاً لجني الكمأة وزرع الفرح والبهجة يشارك فيه سكان القرى القريبة. كانوا يقضون هنا ساعات وأياماً تتخللها الاحتفالات العفوية والولائم العائلية الدسمة اللذيذة، بل ان الكثير من الكهول والشباب كانوا يعودون من قراهم بعد أن يوصلوا أسرهم الى البيوت ليمضوا الليل هنا بين أسراب المواويل والكؤوس المبردة بشظايا الثلج الثمين. يتذكر الكثيرون كيف ان موسم الكمء غدا موعداً لنسج الصداقات الجديدة أو لترميم ما تمزق وانسلت خيوطه منها، بل ان الموسم كان يثمر غالباً زيجات تكون حديث القرى القريبة من سهل "الكامي" طوال عام بحاله. هبت ريح يتيمة لثوان قليلة ثم تلاشت. اقتربت "رسمية" من "جميلة" وهي لما تزل منحنية تتابع الجني، وهمست لها بصوت متآمر وهي تريها حبة كمء كبيرة وبحجم قبضة فلاح كهل: - عليها اليوم؟! نظرت "جميلة" الى رفيقتها نظرة قصيرة وأقرب الى اللمح، ثم عادت بنظرها الى التربة تبحث عن الانتفاخ المبارك المنتظر وقالت بنبرة قلقة: - ليش لا؟ عليها! إلا اذا... طمأنت "رسمية" زميلتها وفندت مخاوفها من أن تكون الفتاتان الأخريان: "سليمة" و"صندل"، قد تراجعتا عن الاتفاق الذي أبرمنه يوم أمس. كن اتفقن على اعداد وليمة خاصة وباذخة وسرية لهن فقط. وهنا لحظت "جميلة" كثيباً منفرداً الى اليمين قليلاً، وكأنه يدعو مدى وسكاكين اللقطات واللاقطين اليه، فمالت ناحيته بخطوات رشيقة ومتمهلة ثم انحنت وأجتثت حبة الكمأة بحركة محكمة وأسقطتها في سلتها الخوص، وراحت تبحث عن أخرى. ككل شيء قابل للبيع والشراء، تحولت الأرض المشاع لسهل "الكامي" الى محمية مملوكة لواحد من أولاد كبار المسؤولين، وبقرار، قيل انه صدر عن أعلى سلطة في البلاد، أصبح السهل الغني بالكمء مزرعة مسيجة بالأسلاك الشائكة ولها بوابة وادارة وحراس غلاظ يرأسهم شاب طويل القامة يدعوه الجميع "جمعة الطنطل". وهكذا تحول سكان القرى القريبة والمحيطة بالسهل، والذين تمتعوا بثمار الكمء اللذيذة العجيبة سنيناً طويلة، الى عمال أجراء يجنون الكمأة ويكدسونها في سلال وبراميل خشبية عملاقة في مقابل دنانير معدودة ذَهَبَ الحصارُ بقيمتها وألوانها وهيبتها. كانت فتيات "أم شامات" الأربع قد اتفقن على اخفاء ما أمكنهن من كمء في جيوب سرية خطنها لثيابهن لهذا الغرض، وتهريبه الى خارج سياج المحمية. لقد كان ممنوعاً على الجميع العودة بشيء من الكمء الى بيوتهم. وحين اقترح بعضهم على "جمعة الطنطل" - كبير الحراس - أن يأخذوا اجر عملهم ثمار كمء بدلاً من تلك الدنانير الذابلة فقد رفض "جمعة" اقتراحهم وصرخ بهم وذراعاه الطويلتان ترقصان في الهواء استنكاراً: - الله أكبر! قلنا لكم ممنوع يعني ممنوع! رفعت "صندل" حبة كبيرة عثرت عليها لتوها وأرتها لصاحباتها وغمزت لهن غمزة ذات مغزى، فردت عليها "سليمة" بهزة استنكار من رأسها. لقد كانت الحبة الأخيرة مغرية جداً في عيني "صندل"، وكادت الفتاة السمراء النحيلة القوام أن تدسها في جيبها السري حين غمزت للفتيات، ولكن رد الفعل الرافض عبرت عنه هزة رأس من "سليمة". لقد اتفقن على البدء في اخفاء الثمار المختارة خلال الشوط الثاني من عملهن، أي بعد استراحة الغداء. تحت ظلال أشجار السدر القليلة، تجمعت الفتيات والفتيان وراحوا يلتهمون طعامهم الفقير الذي جلبوه معهم بلذة وسرعة وهم يتبادلون التعليقات والطرائف والتي غالباً ما كان محورها "جمعة الطنطل"، رائحته غير المستحبة أو طريقته الغريبة في الكلام. كانوا يزدردون طعامهم وهم ينظرون الى السيد "رئيس الحراس" وعماله يعبئون الكمء في السلال والبراميل ثم يحملونها في شاحنة عسكرية ستنقله الى أماكن أخرى بعيدة، بعيدة جداً ليُقدم طعاماً للسياح القادمين الى دول مجاورة. والكمأة: تلك الثمرة الغامضة وغريبة الهيئة والتي لا يعرف احد كيف تنمو ومن أين تأتي، ولكنها كما يؤكد الجميع، لذيذة الطعم. ومع ذلك فلا يستطيع من يتناولها مطبوخة ان يجزم ان كان ما يأكله لحماً أم نباتاً. الكمأة التي كانت في هذا الموسم زائرة لطيفة ينتظرها الجميع بشوق وألفة، صارت غريبة وأسيرة تباع في أسواق بعيدة لأناس غرباء لم يروا أهلها ولا أرضها. ها هم أهلها يلوكون لفات الخبز والبصل والطماطم وينظرون اليها تعبأ في السلال والبراميل وترحل بعيداً. لم تكن الكمأة طعاماً وحسب، لم تكن سلعة في يوم ما. ولم يُشاهد قط من وزنها بميزان أو قبض عنها ثمناً. لقد كانت هدية لطيفة تثير مشاعر شتى، ومفاجأة تسر الخاطر وتجبر الروح الكسير. كانت خلاصة لذكريات عرس بهيج وبذرة عيد جميل يغسل صدأ الايام عن أرواح الفلاحين والفلاحات في هذا السهل الحزين. إنها كما تقول العجائز العارفات: ثمرة من ثمار الجنة مَنَّ الله بها على أحبابه الفقراء الانقياء في دار الدنيا! زأرت الشاحنة العسكرية زئيراً حاداً ومزعجاً وحرك سائقها المدني يده مودعاً الحارسين عند البوابة، ثم ابتعدت متجهة نحو الشمال الغربي. اقترب جمعة الطنطل من الفتيات والفتيان تحت الأشجار، وقبل ان يفتح فمه بكلمة، كان الجميع قد نهضوا وغادروا المكان عائدين الى جنى الكمء، فلم يجد كبير الحراس - كما اعتاد أن يقدم نفسه معرفاً الى الآخرين - سوى ان طعن جذع سدرة قريبة منه بقرباجه الغليظ طعنة فخمة وهو يتمتم: - الله أكبر! الدنيا حظوظ. حين انتهى العمل عصراً واستعدت الفتيات لعبور البوابة بجيوبهن السرية المملوءة تطوعت رسمية للعبور أولهن، ولكن جميلة احتجت بأنها الأكبر سناً والأحق بالتضحية، وأخيراً وافقن على طلب صندل على العبور في البداية لأنها كما قال: - أنا خوّافة، وتموع روحي من شوفة البطة! وأخيراً عبرت سليمة آخر الفتيات أمام حارس البوابة وهي تعرض عليه سلتها الفارغة. المسافة الممتدة بين بوابة المحمية وبين أول بستان يصادفه القادم من جهة الغرب لا تتجاوز الميلين ولكنها كانت كما خيل للفتيات المرعوبات طويلة جداً ولا نهاية لها أبداً. وهناك في البستان أفرغن محتويات جيوبهن السرية ورحن يصرخن ويرقصن ويتحركن على غير هدى فرحات مبتهجات ثم شرعن باخراج الأشياء التي خبأنها في زوايا البستان صباحاً. أخرجن القدر المسود القاع ومنه أخرجن كيس الرز وحبات البصل وقنينة صغيرة ملئت الى منتصفها بالدهن الحر وهناك أيضاً أشياء أخرى. صنعن موقداً مرتجلاً وجمعن الحطب... كانت ثمار الكمأة قد قشرت وغسلت جيداً في ساقية البستان ثم قطعت قطعاً صغيرة. بعد ذلك حمست تلك القطع في الدهن الحر مع شرائح البصل وتصاعدت الرائحة الشهية والعطرة للمزيج المقلي. أضافت جميلة الرز المغسول وخلطته جيداً ثم أغلقت القدر بغطائه الثقيل. - هذا يكفي عشيرة! علقت رسمية وهي تعين جميلة وسليمة على حمل القدر ليضعنه على الموقد. فيما انشغلت صندل في دس عدة حبات من الكمء تحت وبين الحطب المشتعل في الموقد لشيها. رحن يقشرن الحبات المشوية ويأكلنها باستمتاع ولذة فائقة وبانتظار ان ينضج الطعام في القدر تمددن على عشب البستان ليأخذن قسطاً من الراحة. كن قد قدرن ان الطعام سينضج قبل غروب الشمس فيتعشين ويرجعن الى قريتهن غير ان ما حدث لم يدر بخلد واحدة منهن: لقد أغفين أربعتهن... أزت رصاصة تبعتها رصاصات عديدة أخرى. حين افاقت الصبايا كان الظلام يلف البستان كخيمة من السمرة والحنان. النار تحت القدر انطفأت وضاعت رائحة الطعام في هواء البستان. مضت ثوان ثقيلة من الحيرة والرعب ثم شقت الصمت هلهولة طويلة مرحة أعادت شيئاً من التماسك الى أرواح الصبايا وهدأت من روعهن. بادرت جميلة الى الكلام وأكدت لصاحباتها بأنهن لم يتأخرن كثيراً وما ثمة داع للخوف. تشجعت صندل وذكرتهن بأن عرس "علي بن مونس" قد بدأ. ومن دون كثير كلام، وكأن الفتيات قد اتفقن وخططن مسبقاً لما سوف يفعلن، جمعن حوائجهن ووضعن في عروتي القدر أغصاناً قوية وحملن القدر وتقدمن بحذر خارج البستان. سرن جنوباً بمحاذاة الفرات الذي بدا لهن كشيخ متصابٍ يغمزهن بمويجاته الفضية الماكرة. القمر الشاحب كبير جرم كان خير معين لهن في طريقهن. حين بلغن "أم شامات" قصدن الحوش الذي جعل مطبخاً في ليلة العرس. وضعن قدر الطعام أمام "أم علي" والدة العريس وهربن يبحثن عن مكان يفرغن فيه مثاناتهن المضغوطة بالرعب! حان وقت تقديم الطعام للمدعوين. كانت "أم علي" قد وزعت ما في قدر البنات من رز وكمأة في صحون جميلة من الصيني ووضعت كل سبعة صحون في صينية. حملت كل فتاة صينية وتقدمتهن أم العريس في حركة غريبة لم يشهدها أحد من قبل. توسطت "أم علي" وفريقها دائرة المدعوين وراحت هي والبنات يوزعن أطباق الطعام على الحضور. أمسكت "رسمية" بآخر طبق في صينيتها ورفعت رأسها فإذا بها امام العريس "علي" وخلفه يقعي "جمعة الطنطل". نقلت الفتاة بصرها في تردد واضح بين الرجلين ثم مدت الصحن الى "جمعة" وانحنت بحركة مباغتة على العريس وطبعت على خده الأيسر قبلة واثقة ثم استقامت: وجهها باتجاه القمر وكفها مرفوعة كمظلة صغيرة على فمها و... أطلقت هلهولة طويلة وناعمة كضوء القمر حين يمتزجُ بعطر الكمأة. جنيف 23/2/2001 الكمء بسكون الميم وتلفظ خطأً بفتحها: كَمَأ. وفي "لسان العرب": الكمء نبات ينقض الأرض والجمع أكمؤ وكمأة. وقال سيبويه الكمأة ليست جمع كمء لأن فعلها غير مكسور، وقال أبو خيرة كمأة للواحد وكمء للجمع، وقال أبو زيد الكمأة تكون واحدةً وجمعاً. ووردت في القصة كلمات من لهجة عرب العراق، هذه معانيها: تموع روحي = يُغمى عليَّ، الدهن الحر= السمن البلدي، هلهولة = زغرودة. * كاتب عراقي مقيم في سويسرا.