طريق التراث وطريق الحداثة، هل يلتقيان؟ يقال إن هذا ممكن، إما عفوياً وتلقائياً، وإما عمداً وتدبيراً، ويصبح هذا اللقاء أو ذاك الالتقاء بمثابة عملية تهجين في طور النشأة. ويُستدل الى صحة هذا التوجه بتجربة الهند حيث توجد جماعات قبلية تمتلك تقنيات وخبرات قديمة في مجالات متنوعة، كالزراعة على قمم التلال وكالطب والرعاية الصحية والتعليم والرعاية الاجتماعية. هذه الجماعات القبلية في الهند تبدو توجهاتها، في ظاهرها وكأنها معادية للتحديث بينما يمكن للنظرة الفاحصة المدققة أن تكشف لنا عن مدى استيعاب هذه الجماعات القبلية للتقنيات الحديثة والنظم السياسية، أو مدى استيعابها لعموم التطور من خلال عملية معقدة - مقصودة أو ربما غير مقصودة - من الدمج والمواءمة والتوفيق. بمعنى أن هناك توجهاً من جانب هذه الجماعات القبلية في الهند الى تحديث قواعد المجتمع الأساسية أو التأسيسية لكي تتواءم مع الغايات السياسية الحديثة أو الطارئة، وبذلك يمكن الجمع بين الدور الذرائعي والدور التأسيسي للثقافة. ومثل هذا الوضع يدعو إلى التأمل ثم إلى التساؤل عن إمكان الجمع بين هذين الدورين في الدول النامية، علماً بأن الوضع المعروض أو المطروح أعلاه يستند إلى دعوة تنصب على الجمع والدمج وليس إلى دعوة لإحلال ما هو حديث محل ما هو قديم، أي أنها ليست دعوة إلى استبدال الحديث بالقديم بمعنى أنها ليست دعوة إلى نبذ القديم وتبني الحديث. وهو أمر يبدو منطقياً ومقبولاً إزاء ما نعرفه جميعاً من أن التراث في أي مجتمع إن هو في الواقع إلا ناتج التراكم المتواصل لكل ما يملكه المجتمع من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات ومعارف وعلوم... عموماً. فالدمج هنا مقصود لحماية القديم حتى لا يتعرض إلى التبديد والإهدار، إذ أنه يمكن اعتبار هذا القديم أساساً يمكن استخدامه للبناء فوقه، وذلك باعتبار أن ما سبق للمجتمع تكوينه أو تأسيسه إن هو في الواقع إلا نوع من التراكم المعرفي - بالمعنى الواسع للمعرفة - يعتبر كله أو بعضه منهلاً ينهل منه الراغبون في المعرفة من دون التجمد عند القديم، ولكن أيضاً من دون التنكر له. ولعل من المفيد أن نقارب بين هذا الوضع وبين ما يقوله علماء الاقتصاد ورجال الأعمال في مجالاتهم من أنه لكي تستمر عجلة الإنتاج في الدوران يتعين أن يكون هناك تكوين أو تراكم رأسمالي Gapital Formation/Accumulation إنطلاقاً من الرغبة في تحصين ما تجمع على مدار الزمن من رأسمال ثابت لتسخيره لعملية الإنتاج لكي يصبح قادراً على توليد عائد متجدد يعود على صاحب الثروة بالمزيد لكي يتسنى له أن يحافظ من جديد على جزء منه في شكل إدخار يتم بعد ذلك توجيه هذا الجزء المدخر من الدخل إلى الاستثمار في أوجه الانتاج السلعي أو الخدمي فتتسع القاعدة الإنتاجية شيئاً فشيئاً بفضل هذا الاستثمار المتراكم ويستمر النمو والإزدهار. وبالمثل فإن ما لدى الشعوب المتخلفة من تراث قديم قد يمكن اعتباره رأسمالاً قد سبق تكوينه وتراكمه على مر السنين، ومن ثم فإنه يتعين على الشعوب في هذه الدول المتخلفة أن تواصل الاستفادة من تراكم ما يكون قد تكوّن فيها من تراث على مر الزمن لكي تبني على أساسه ما تشاء من صور الحداثة في زمن الحداثة وفي زمن ما بعد الحداثة. إذن فإن التوجه إلى الحداثة بأي سرعة أو بأي بطء لا يعني بالضرورة إهمال التراث أو إغفاله أو تحييده أو إهداره أو تبديده، بل على العكس يعني وبالضرورة أن تنطلق الشعوب التراثية الذرائعية استناداً إلى هذا التراث واعتباره قوة دافعة وليست قوة مانعة للحداثة. إذ أن دفن التراث في التراب معناه أن يجد أهل الفقيد الميت أنفسهم في العراء بغير تراث والتراث وكلاهما لا يصح ولا يليق ألا يكون رأسمالاً حياً لشعوب تلك الدول يتجددون به ويتجدد بهم ويستخلصون منه أسباب الحياة في كل عصر يأتي عليهم أو يأتي إليهم. ومن ثم لا بد أن تتوجه عملية الحداثة وما بعد الحداثة إلى استغلال التراث واعتباره تكويناً أو تراكماً رأسمالياً بمنطق علم الاقتصاد وعلمائه فيمكننا بذلك بناء المجتمع وتعلية هذا البناء على قدمين اثنين: قدم تعتمد على الأوضاع التقليدية الذرائعية أو تستلهمها... وقدم أخرى تعتمد على الانطلاق نحو المستقبل على أسس تجديدية متطورة. هاتان القدمان هما في الواقع نقطتا الارتكاز اللتان يجب الاستناد اليهما لتعلية البناء ولسوف نرى انه كلما علا البناء كلما زاد إعجابنا بالاساسات التي احتملت وستظل تحتمل كل هذه التعليات بصلابتها ومتانتها. مثل هذا الاحساس سوف يضيف مزيداً من الثقة في النفس، ويكفينا تدليلاً على ذلك أن ندرك أن عمر الفرد منا حين يكبر لا يلغي ما سبق من أعمار بلغناها واحرزناها لأننا لا يمكن ان نتجاهل أعمارنا السابقة ونحن نسير في الطريق من عمر الطفولة الى عمر المراهقة الى عمر الشباب الى عمر النضج الى عمر الشيخوخة أو الكهولة، فكلها تراكمية. واننا في كل عمر من هذه الاعمار وفي كل مرحلة عمرية لا نعيش عمراً واحداً بل نعيش عمرين متلازمين، احدهما هو العمر الزمني، وثانيهما هو العمر المعرفي، أولهما يقاس بتراكم السنين، وثانيهما يقاس بتراكم المعرفة. إذن فإن التطور او حتى الطفرة لا يسلب الانسان بل يضيف إليه معرفياً إذا هو رغب واختار وأراد ويضيف إليه زمنياً وهو أمر لا خيار للمرء فيه لانه يتم بمشيئة الله وحده فليس للإنسان في تراكم السنين أي خيار. وسواء كنا نحب ان نلعن الماضي أو أن نترحم عليه فإن الحاضر لا يمكن ان ينسخ الماضي أو يلغيه بل إنه يستبقيه ويستضيفه ويضيف إليه، وهو بذلك يمكن أن يختلف عن الماضي ولكنه لا يمكن أن يلغيه أو ينفيه تماماً، كمراحل الشباب التي لا تلغي مرحلة الطفولة أو اليفوعة ومرحلة الكهولة او الشيخوخة لا تلغي مرحلة الشباب ولكنها تتلوها، وهكذا تتوالى المراحل العمرية تضيف كل مرحلة منها الى سابقتها اضافات زمنية ومعرفية. فالماضي يظل دائماً داخلنا لا يختفي لا في الحاضر ولا في المستقبل، بل قد نقول إنه لا يصح ان يختفي من هذا الماضي إلا ما لا يناسب الحاضر اللهم إلا إذا كان الحاضر اقل نضجاً من الماضي، وهذا ما يجب أن يؤسف له. فالحاضر لا بد أن يكون أكثر نضجاً من الماضي، والا فإنه لا يستحق ان يحل محل الماضي لكي لا يحيط بنا في حاضرنا الا ما تم نضجه واكتماله، أو على الاقل ما هو في سبيله الى النضج والاكتمال. والماضي - أي ماضٍ - له قطعاً ثوابته، ولكن له ايضاً متغيراته، والثوابت عادة لا تنعدم إلا بالهدم المدبر أو المقصود، ولكن بعض ثوابت الماضي قد تنجح في الإفلات من الهدم فتستمر إلى الحاضر والمستقبل على رغم كل المعاول الفاعلة، اما المتغيرات التي هي قابلة - بطبيعتها - للتغيير فإن من بينها ما قد يتعين استمراره من دون تغير لكي يتم فوقه بناء الحاضر والمستقبل، ثم يتم التغير بعد ذلك في ما اضفناه الى الماضي الثابت. دليلنا على صحة هذا الظن هو العمر. فالعمر لا حاضر له الا بماضيه، لأن سنوات العمر لا يمكن إلغاوها بل هي مخزونة، داخل الإنسان ينتقل بها وتنتقل معه شهراً بشهر وعاماً بعام، ما دام في العمر بقية. ليس من المقبول إذن ولا من المنطقي أن نقول أو ان نزعم بأن الماضي لا بد من نسخه أو إلغائه في الوقت الذي يجب أن ندرك أن الماضي كله بمتغيراته بل أيضاً بثوابته يمكن أن يكون عرضة للتطوير والارتقاء. فالأهرامات وأبو الهول في مصر، والكعبة والصفا والمروة في السعودية، وبابل في العراق كلها ثوابت، نعم، ولكن ليس هناك ما يحول أو ما يمنع أن تكون محل صيانة ثم محل تجويد أو تحسين أو تجديد وتطوير ولو من منطلق الحرص على المحافظة كرموز ثابتة أو كثوابت رمزية. تماماً كالعمر المتغير عند الناس، يحتمل الزيادة والمضاعفة بتراكم السنين وبفعل التطوير والارتقاء بمرور هذه السنين، لأنه في تزايده إنما يمثل نقلات متتالية الى مراحل مختلفة، من البلوغ والنضج والرشد والحكمة وهو بذلك - أي العمر - لا يمكن أن نزعم أنه يعوق حرية المرور الى حافز افضل أو مستقبل افضل. إذن فإن المناداة من جانب البعض بهدم الماضي يكاد يشبه - في نظري - المناداة بهدم المعبد فوق رؤوس اصحابه. ويكفي لبيان خطورة هذا التوجه أننا ننسى في ثناياه ومن خلاله أن الماضي هو الذي بنانا وأن حرصنا على التباهي بنعومة الطلاء الخارجي لأي بناء لا يصح أن ينسينا أن هذا الطلاء الناعم الجذاب لا يمكن أن يظل ويبقى لو لم يكن محمياً ومحمولاً على أساسات خشنة مدفونة تحت الارض. هذه الاساسات هي التي تحمل هذا الحائط ذا الطلاء الناعم، وهي التي تحميه من الترهل والسقوط. وبالمثل فإن الحاضر يكون معرضاً للسقوط والانهيار اذا لم يكن تحته ماضٍ يسنده ويحميه. كما أن التنكر لأي ماضٍ مهما كان نوعه هو بداية النهاية لأي حاضر لقيط فما بالك بمستقبل تتضاعف فيه الرغبة العارمة الى التعامل مع كل ما هو لقيط مما ليس له في مجتمعاتنا أي جذور. هذه الجذور هي بمثابة الأساسات لأي بناء، وهي العنصر الوحيد الكافي لبعث الطمأنينة في النفوس على أن يبقى البناء عالياً بلا تنكيس مهما اضيف اليه من طوابق علوية إضافية. هذا البناء يمكن أن يتغير طلاؤه ودهاناته وألوانه، ويمكن ان نعمل على تجديد واجهاته وأبعاده، ويمكن أن تتغير نوافذه وأبوابه، ولكن تظل الجذور هي الجذور، والاساسات هي الاساسات، مهما تنوعت وتعددت جراحات التجميل، وهذا ما يجب أن يكون عليه المجتمع. * كاتب مصري.