هل كنا نجلس حول النار أم كانت النار تهرع لتدفأ من وهجنا؟ ما كنتَ تقول أكثر من صمتك الوفير، فكنت به تصمّ آذاننا وكنّا نجانب سماعك باللغط لأنك أصعب على احتمالنا من الحرب التي هرّبتنا اليك. حرب تطحن كل شيء، لا ضوء، لا مياه، لا دروب، كل خطوة لغم، كل فجر معجزة، كل لقمة كأنها الأولى والأخيرة، كل خلاص قيامة، وما من دبيب فوّار إلا غريزة البقاء. وفي ذلك الليل المدجج بالموت من كل حدب وصوب، كنّا، يقودنا نجمك الساهر، نأتي من كل حنايا الجرح الى بلسمك الغزير... في "غزير". وكنا دائماً نشفى، وكنا دائماً نتوب! ليتني لا أسألك اليوم، تباً لك يا يوسف لماذا متّ؟ الى هذا الحدّ، بعد 15 سنة، لا يزال دفنك محالاً، بل يخيّل إليّ مرّات انك سائر معنا في مأتمك، وانك تواسينا كأننا موتى. غير مسموح لبعضهم ان يختار موته، وغير ممكن لبعضهم ان يعتريه الموت، فهؤلاء هم الذين وإن ماتوا بقي حضورهم خافقاً في صدر الحياة. الذين زرعوا لنأكل والذين رووا لنشرب والذين كتبوا لنقرأ والذين رسموا لنرى، والذين عزفوا لنسمع. وأنت، يا يوسف، كنتَ في كل هؤلاء. وفي هذا الزمن الجاحد، زمن امحاء الذاكرة، زمن انكسار العصيّ التي تفرفطت في الوديان، انت بحق مغيّب، لأننا بحق "لا نرى سيّداً في الجمع". ولا يراك ولا يعرفك في هذه الحلكة اللزجة، حيث يتزلج المقاولون على الدموع هازجين - لا يراك ولا يعرفك يا يوسف إلا مارد التاريخ الذي لا ينام. كنا نجلس حول نارك، في سنوات الحرب، ونقرأ شعراً بأصوات غسلتها رياح الخوف. وكنت تستحث فينا شهوة الاطلال على ما وراء الأكمة، ما وراء سدوم، ما وراء العماهة التي كانت تزنر حياتنا. "أنت أيها التعس، ماذا في جعبتك اليوم؟" طالما طرحت السؤال مستثيراً فينا كلَّ ما دأبت على سحقه مطارق الحرب وكنت تسمع...ربّاه، بالمقارنة مع الراهن الأصمّ، كم كنت كأنك السّمْع كله، بل كم كان شاسعاً اصغاؤك، وكم كان صافياً نصل نصيحتك. علّمت فيما الجهل طافق كالجراد. وأعطيت فيما اليد تسرق أصابعها. وكنت أباً في زمن اليتم والسفاح. تبّاً لك يا يوسف لماذا متّ؟ * لعينك أن ترى عوليس صرّافاً على الرصيف والمرأة الخرقاء والرجلَ الأخرق وصباح الأكواخ والقصور لعينك أن ترى الشمس الفاجرة والبحر الراغي والجدران تضحك من بكاء السابلة لعينك أن ترى العين تنظر ولا ترى والشفاه تنطق ولا تقول والأذن تصغي ولا تسمع والأفواه تنهم ولا تشبع والرئات تشهق عارية خارج الصدور لعينك ان ترى الفضاء جمراً والفجر أميراً والسماء عرساً بلون الغدير والسيف معطى للملاك وما بقي لون في لونه والدمع فالتاً كالمطر لعينك ان ترى القفير شهداً تقطرت دماؤه على الجسور لعينك أن ترى الجمع تسوده الكسور الى أين من هنا، سل الى أين والطريق أعرج والمفازة جبٌّ والخبز ممسوح بالزيت الأسود وظل المتاهة أطول من قامة الفلاة الى أين والوعد مقطوع كالوريد وناعورة القهقرى يقودها ضرير والهمج الهائج يأكل الوعول المقدسة على موائد الصخور