لا يمكن لموقف التبرؤ البسيط من تهمة الارهاب الذي احتمى وراءه الرأي العام العربي، الرسمي والشعبي، أن يكون أساساً لبناء سياسة عربية عقلانية ومقنعة تجاه الدول الصناعية الغربية التي يستهدفها الارهاب اليوم،. ولا تجاه مستقبل العلاقات الدولية، ولا من باب أولى تجاه مستقبل المجتمعات العربية ذاتها. ومثل هذا الموقف لا يدل على النضوج السياسي والأخلاقي اللازم لتحمل المسؤولية. على قدر ما يعكس موقفاً طفولياً يعبر عن الخوف، ويقوم على دفع التهمة عن النفس، ولا يطمح الى القيام بأي مبادرة ايجابية يستدعيها الواجب من باب المشاركة في معالجة الأزمة الدولية، من جهة، والعمل على درء المخاطر الناجمة عنها بالنسبة للعرب، من جهة ثانية. ولا يغير من هذا الوضع كون المجتمعات العربية الضحية الأولى للارهاب الخارجي منه، ومثاله الارهاب الاسرائيلي الرسمي والاستيطاني والحرب والحصار الأميركي المستمر لشعب العراق ولشعوب عربية أخرى، أو الداخلي الذي تقوم به أجهزة أمن تحولت الى ميليشيات لا هدف لها سوى ترويع المواطنين وردعهم واخضاعهم بالقوة حتى يقبلوا التخلي عن حقوقهم والاستسلام لمصيرهم. فتعرضنا للارهاب لا يعني اننا لسنا مسؤولين عن صنعه وانتاجه وتطويره وتصدير بعضه الى الخارج، كما لا يغير من هذا الوضع تجاوز الدول الكبرى للقوانين والشرائع الدولية. فلا يلغي خرق القانون، أو استخدام معايير مزدوجة من قبل أطراف أخرى في التعامل مع القضايا الدولية، بل مع قضايانا ذاتها، ولا ينبغي له أن يمنعنا من التمسك بقاعدة الحق والقانون في النزاعات الدولية، ورفض تبرير الخروج الجماعي عليها أو الاستهتار بها. وإذا نظرنا الى الموضوع من هذا المنظور أدركنا في سهولة أنه إذا كانت الولاياتالمتحدة أو غيرها قدمت، بسياساتها غير العادلة وغير الإنسانية، الذرائع التي دفعت الحركات المتطرفة الى توجيه العنف اليها، فإن أصل هذا العنف ومنبعه هما الظروف الاستثنائية التي تعيشها مجتمعاتنا والتي نحن مسؤولون مسؤولية مباشرة عنها. وقبل ان يتوجه العنف نحو الخارج، فتك ولا يزال يفتك منذ عقود بأسس الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية في هذه المجتمعات. وهو الذي يفسر موقع الهامشية الاقتصادية والاستراتيجية الذي وصلنا اليه، وتدهور شروط الحياة الانسانية، وانحطاط قيم الممارسة العمومية والخاصة معاً. فالسياسات التي اتبعناها في العقود الماضية، أعني النخب الحاكمة في شكل خاص، عملت على تنمية العنف، على قدر ما فجرت داخل مجتمعاتنا من تناقضات، وغذت من توترات، وهيجت من أحقاد، وهمشت من جماعات. فعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، عملت السياسات التنموية الخاطئة، أو غير الموجودة، وانتشار الفساد الذي لا حدود له ولا مثال في العوالم الأخرى، على تخريب المجتمعات وتدمير توازناتها الاجتماعية والاقتصادية، وتشريد جماعاتها وتركهم من دون أمل أو أفق. وقد شجعت هذه السياسات نمو العنف الذي تتطاير شراراته الى الخارج. وزرعت ولا تزال تزرع اليأس والقنوط والعدمية في أجيال تلد من دون أن تعرف ماذا سيكون مصيرها. فالكثير من الأنظمة العربية تنتج على نطاق واسع قيم الارهاب والعنف، بل تجعل منه الأفق الوحيد المفتوح ليس للعمل السياسي ولكن حتى للارتقاء الاجتماعي. ولم يعد لوجودها أي مقوم أو مبرر سوى حماية مجموعة قليلة من الخائفين على أنفسهم من الوقوع تحت طائلة القانون، لدى أي تحول أو تبديل محتمل لقواعد الحكم. ان المجتمعات العربية المنزوعة الإرادة والحرية تبدو اليوم، أكثر من أي حقبة أخرى، رهينة نظم سياسية جامدة ومتكلسة وفاسدة تغذي اليأس والاحباط. وهذه النظم هي نفسها رهينة لمجموعة لا يتجاوز عددها الآلاف من الذين يحتكرون لأنفسهم جميع موارد البلاد، ويخضعونها لتصرفهم ومصالحهم وحدهم بالطرق غير الشرعية وغير القانونية. وعلى المستوى الوطني، يدفع عجز الدول عن بلورة استراتيجية عسكرية وسياسية وديبلوماسية ناجعة وفاعلة ضد الاحتلال، الى استشراس الاستيطان الاسرائيلي في فلسطين، ويترك للأفراد، وللمنظمات، بل اليوم للأطفال وحدهم مهمة مقاومة احتلال ارهابي من أسوأ وأعتى ما شهدته البشرية. ففي الاستقالة الأمنية هذه، وهي عززها التقاعس عن التعاون الاستراتيجي بين البلدان العربية، وتوحيد القوى، وضمان الدفاعات الأساسية لحماية الفلسطينيين والدفاع عن الأرض، أي في فشل سياسات النخب العربية الوطنية وضعف شعورها بالمسؤولية تجاه شعوبها وحماية أراضيهم وحقوقهم ومصالحهم، تكمن أيضاً بعض مصادر نمو العنف والارهاب الأعمى في المجتمعات العربية. وبينما يراهن العرب، وقد فقدوا حتى القيادة العادية، على أطفالهم والحجارة التي يرمونها بنقيفاتهم البدائية لمواجهة اسرائيل مصممة أكثر من أي وقت آخر، ووراءها الولاياتالمتحدة الأميركية، على استكمال استيطان فلسطين التاريخية، وطرد شعبها منها، يقضي مئات الضباط الكبار والصغار أوقاتهم في كش الذباب أو الفساد والترف والمجون والبحث عن تعظيم استثماراتهم وتجاراتهم، وتكبير حصصهم في الشركات والمؤسسات التي سطوا عليها، أو سيطروا على مواردها. وعلى المستوى السياسي، نعرف انه، باستثناء حالات قليلة، ليس من المسموح به في الحياة العربية السياسية للشعب لا بالتظاهر، ولا بالاضراب، ولا بالتنظيم السياسي المستقل، ولا بنقابات حرة، ولا بصحافة وإعلام حر، ولا حتى بعقد ندوات وتبادل النقاش في بيوت مغلقة، ومعظم النظم السياسية لا تستمر إلا بفضل قانون الطوارئ الذي يشكل سيفاً مسلطاً على القانون ذاته، قبل ان يسلط على الأفراد. ومع استئصال جميع الطرق السياسية للعمل والتعبير والدفاع عن الحقوق والمصالح، وحرمان المجتمعات منها، تدفع النظم العربية الأفراد المتضررين والناقمين دفعاً في اتجاه استخدام العنف. ولأنه من غير المتصور ان يحلم هؤلاء بالحصول على توازن في القوة العسكرية، فهم مدانون حتماً باستخدام العنف الأعمى. وان من يحرِّم على المجتمعات الطرق والوسائل السياسية للعمل، سلمياً، على الدفاع عن حقوقها المعرضة يومياً للانتهاك، من قبل نخب مفترسة لا تحلل ولا تحرم شيئاً، يخلق التربة الأخصب لنمو الارهاب، كقيم وكتقاليد وكمشاريع سياسية منتشرة ومقبولة من الرأي العام، أو من قبل جزء كبير منه. ومن يستهتر بحياة المواطنين وحقوقهم وحرياتهم وكراماتهم يجعل قتل الأفراد، وانتهاك حقوقهم، أمراً عادياً وشائعاً لا يثير أي رد فعل، ولا يعكس أي خرق لمحرمات. ان استبعاد أي منطق في العلاقات الداخلية بين الحكومة والمجتمع، غير منطق القمع والقهر وحرمان الناس من حقوقهم وحرياتهم، يؤدي الى تكوين أقسى أنواع الديكتاتورية، وكل ديكتاتورية مدرسة كبيرة للارهاب. وعلى المستوى الأخلاقي، بينما لا تكف أجهزة الإعلام العربية عن نقد استخدام معايير مزدوجة من قبل الدول الكبرى، ومنظمات الأممالمتحدة، وهي في ذلك على حق تماماً، يكرس كثر من دساتير هذه البلدان استخدام معايير مزدوجة، بل مربعة، للتمييز بين المواطنين في الوظيفة والعمل والقيمة والمعاملة، بل في حق الحياة. فتبرر اعتقال وسجن وقتل من تشاء، وتبيح حرية عمل أي شيء لمن تشاء، حتى لم يعد هناك في العالم العربي من يؤمن بقانون، أو يعتقد وجود قيم انسانية قابلة للحياة. وهكذا أصبح العنف القيمة الأساسية التي تنتظم حسبها العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد العربية. ففي فساد النظام العربي، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي، أي في فساد النخب الاجتماعية التي تقيمه وتديره، يكمن أصل الخراب الذي ينتج العنف. وينمو انعدام الإيمان، وفقدان الأمل، وزوال الشعور الذي يسمح بإنتاج الارهاب وتوسيعه على أوسع نطاق. وهذا يفسر أن معظم الارهاب اليوم عربي، ويمارس داخل البلاد العربية ذاتها من قبل النخب الحاكمة، والمنظمات والمجموعات المسلحة وغير المسلحة المتطرفة المناهضة لها. وما يسقط منه في الخارج ليس إلا النزر اليسير. هذه هي الحقيقة المرة التي ينبغي علينا ان نواجهها، مجتمعاتنا اليوم مجتمعات عنف محض، لأنها محكومة بنظم قائمة على العنف والارهاب لا على التراضي والتفاهم والتعاقد الجمعي والحوار. وهذه النظم التي تقوم على العنف، ولا يمكن ان تستمر من دونه، هي التي تفرض قاعدة العمل. ان يخرج بعض هذا العنف ويتطاير الى الخارج، وان تكون الولاياتالمتحدة هي المتلقي لهذا العنف بسبب سياساتها اللامسؤولة وغير العادلة تجاه قضايانا الوطنية والقومية، لا يؤثر كثيراً في مضمون المسألة. فلا يتعلق الأمر، لسوء الحظ، بالولاياتالمتحدة والتضامن معها أو مساعدتها على الانتقام لنفسها في أفغانستان وغيرها، ولا يقتصر عليها. ولكنه يمس الأسس السياسية والأخلاقية التي تقوم عليها الحياة الجمعية العربية ذاتها. فلا يخفف استهداف الارهاب دولة كالولاياتالمتحدة الأميركية، نعتبرها المسؤولة الرئيسية عن تأزيم الأوضاع في المشرق العربي وربما في العالم، من مضمون الارهاب ومعنى العنف المتزايد والمتفجر في مجتمعاتنا. ولا ينبغي أن يخفي عنا التفكير فيه. والمشكلة الكبرى ليست في وجود منظمة ارهابية تستهدف الولاياتالمتحدة أو الدول العربية. ولكن في وجود رأي عام عربي أصبح الارهاب لديه أمراً طبيعياً وعادياً يكاد يكون بديهياً. وهذه هي بداية الطريق لإلغاء الحياة القانونية والسياسية داخل المجتمعات العربية ذاتها. والرد على هذا التحدي، وايجاد الحلول الناجعة له، ليسا من مسؤولية الولاياتالمتحدة، ولكنه، أولاً، من مسؤولية النظم التي لم تهتم إلا بمصالح أزلامها على حساب مصالح المجتمع بأسره، وحولت، بضعفها وتخاذلها، اسرائيل والولاياتالمتحدة الى وحوش مفترسة لشعوب من دون حراسة ولا قيادة ولا دفاع ولا مصير. كنت أنتظر أن ترى الحكومات العربية في حوادث مانهاتن وواشنطن منبهاً كبيراً لضرورة أخذ الأمور بجدية، والقيام بإصلاحات حقيقية قبل أن يأكلها غول العنف الأعمى، ويأكل مجتمعاتنا معها، بعد أن يكون قد حقق نصره الساحق في الخارج. ولكنني فوجئت، مع غيري، انها أرادت فقط ان تضع نفسها موضع الضحية، أي أن تسلك سلوك النعامة التي تدفن رأسها في الرمل كيلا ترى الخطر، أعني خطر الانتقام الأميركي. والحال ان الولاياتالمتحدة، والدول الكبرى التي وجدت في الرد على الارهاب أفضل ذريعة لإعادة ترتيب مواقعها وصوغ استراتيجيتها، سوف تحملها، سواء ذكرت ذلك اليوم أو لم تذكره. المسؤولية الكاملة عن الارهاب. وحتى لو لم تكن مسؤولة فعلاً عن جزء منه، فلدى الدول الكبرى من القوة وميزان القوة ما يسمح لها بتدفيع ثمنه للدول الضعيفة التي تبدو تربة سهلة لنمو وعبور الارهاب. ولا ينفع في اتقاء هذا الانتقام البحث عن ضمانات لفظية، ولا التزامات شكلية. فما ان تنجح واشنطن في احتواء القضية الفلسطينية وهذا لا يتضمن الحل العادل بالضرورة وهي أدركت انها هي القضية الرئيسية التي تعبئ الرأي العام العربي وتدفعه للتساهل مع الارهاب، وحتى ترتد على النظم التي تنظر اليها بوصفها المصدر الرئيسي للفوضى والخراب المادي والمعنوي، أو المستنقع الذي يفرخ فيه الارهاب وينتشر منه. لكن الخطر، بالنسبة للشعوب العربية، في هذه الحال هو أن تكون نتيجة التدخل الأميركي في بلادنا مشابهة لما حصل في أفغانستان بعد طرد النظام القريب من الاتحاد السوفياتي، وأن تنتقل بلادنا في سرعة من نظم تفرضها الولاياتالمتحدة، وتضع على رأسها عملاء مباشرين، الى نظم للحرب الأهلية الدائمة والمتعددة الأطراف. ان مواجهة الارهاب والمخاطر الكبيرة الناجمة عن تصديره للخارج، وهي مخاطر تشبه تلك التي قادت في القرن التاسع عشر الى احتلال كثير من البلاد العربية بذريعة وقف القرصنة، تستدعي من الحكومات العربية العمل في سرعة لتغيير الأوضاع الراهنة وتجاوز المشكلات الخطيرة التي تعرفها مجتمعاتنا. 1 - الانتقال السريع والفوري من العمل الفردي الى العمل الجماعي الذي يحول العالم العربي الى فاعل في الساحة العالمية، ويعيد الى البلاد العربية مجتمعة بعض الصدقية السياسية والاستراتيجية في العلاقات الدولية. وهذا يعني بلورة سياسات عربية مشتركة، وتوحيد الدفاعات والقوى الاستراتيجية العربية، والاعداد لقمتين، عربية - أميركية وعربية - أوروبية، تطرح فيهما كل المشكلات العالقة، وتوضع فيهما كل الدول المعنية أمام مسؤولياتها الخاصة في الخروج من مستنقع الأزمة الشرق أوسطية التي تستمر منذ عقود. بهذا وحده تستطيع البلاد العربية أن تخرج من وضعية الهامشية والضحية، وتتحول الى فاعل اقليمي حقيقي، وبالمناسبة تحمي نفسها من الاستفراد المؤكد لبعضها في المستقبل وتخرج من الحلقة المفرغة التي وضعت نفسها فيها في مسألة مواجهة التوسع الاستيطاني الاسرائيلي عندما سلمت للقوى الخارجية مسؤولية ايجاد حل عادل، وفرضت على نفسها العطالة والانتظار، أي اعتقدت ان في امكانها الاعتماد على الآخرين للقيام بالجهد المطلوب منها. وبهذا تستطيع، من دون خوف، أن تعلن التزامها الثابت، وسيكون هذا الالتزام واقعياً، اتخاذ جميع الاجراءات السياسية والديبلوماسية والمالية الكفيلة بتدعيم المقاومة الفلسطينية حتى تحقيق الاستقلال. 2 - القطع أخيراً، ونهائياً، مع أساليب الحكم الديكتاتورية والوصائية ومواكبة المعايير الإنسانية في تنظيم المجتمعات السياسي والاجتماعي، أي اعلان عهد الحرية والأمان في عموم البلاد العربية. ان التحضير لقيام حكومات ديموقراطية حرة منتخبة من الشعب ومعبرة عن ارادته هو الوسيلة السياسية الرئيسية لتفريغ التوترات الخطيرة التي تدفع المجتمعات العربية الى التفجر، وخلق المناخ الذي يسمح للشعوب العربية بالدخول في عصر المشاركة الايجابية، على الأسس، وبحسب المعايير ذاتها مع بقية شعوب العالم، في حضارة عصرها. انه بداية الخروج النفسي والفكري والروحي من الهامشية. ومن النافل القول ان مثل هذا الخيار الديموقراطي سوف يسهم في تحصين البلاد العربية أمام نزوع بعض الدول الكبرى الى القيام بمغامرات سهلة في البلاد العربية، باسم محاربة الارهاب، وذلك لما يقدمه الالتزام الديموقراطي من تعاطف كبير لدى المنظومة الغربية الديموقراطية ذاتها، ولما يبعثه ثانياً من مناخ الشفافية الذي يفقد أي هجوم عدواني مبرر وجوده وصدقيته. 3 - توقيع عقد جماعي عربي للأمن والتنمية الاقليمية تشارك فيه الفاعليات السياسية والادارية والفكرية والاقتصادية كلها، ويحدد التزامات ومسؤوليات وواجبات كل طرف في اطار مشروع عمل تنموي موحد، وخطة اصلاحات اقتصادية وادارية مشتركة لمحاربة كل أنواع الفساد المستشري في جسم الدولة والمجتمعات الاقتصادية العربية، والدخول في مفاوضات جدية بين الدول العربية الرئيسية في سبيل دفع عملية الاندماج الاقليمي يساعد في خلق مناخ جديد مشجع على العمل والاستثمار. * كاتب وجامعي سوري مقيم في فرنسا.