- 1 - عرفتُ عبدالعزيز المقالح كتابةً، في مرحلة أُولى، وشَخْصاً في مرحلةٍ لاحقة، فعرفت فيه ظاهرةً أدبيّةً فكريّةً، على حِدة، أولا تَنْدرجُ في السّياق الثقافي العربي، كما كان يَرْتسم آنذاك، مُهيمناً وجارفاً. كانت الكتابة العربية في هذا السياق عائمةً في فضاءٍ سياسيّ - إيديولوجيّ، على غير هُدىً، وتتقاذفها أمواجُ التمذْهُب والتعصّب من كلّ صَوْب. وكان معظم المثقفين العرب، كتّاباً وشعراء، منخرطينَ في خِضَمٍّ إيديولوجيّ تصطرع فيه المصالح وتتضاربُ الأهواء حتّى لَيُخيَّل أنهم كانوا في تَهيّوء دائم لكي يَلْتهمَ بعضهم بَعضاً. ولم يكن الهَمُّ مركوزاً على اللغة والفكر، بقدْر ما كان مركوزاً على الاتجاه والانتماء. هكذا بدا لي أنّ الرابطة التي تصلُ بينهم وبين حركيّة اللغة العربية وعبقريتها، كانت رابطة من خارج، لا من داخلٍ، رابطةَ انتماءٍ بالعادة والاتّباع، أكثر منها رابطة استقصاءٍ وإبداع. كان يبدو أنّ بين الكاتب أو الشاعر، واللغة - الأمّ، فاصلاً وبعداً كبيرين بفعل الاستحواذ والاختزال الناتجين عن طُغيانِ النزوع السياسي - الايدويولوجي على وعيه وشعورهِ ومُخيّلته. وفي هذا كانت اللغة الكتابية تبدو كأنها تخرج من مشكلات ثقافةٍ نائية، غير مهضومةٍ وغير مكيّفةٍ، تجثُم ثقيلةً وجامدةً على كتفي اللغة - الأمّ، كانت، بتعبير آخر، تبدو لي، شخصياً، في أعْدل وَصُفٍ، كأنّها مجرّد عباءةٍ مُلْصَقةٍ على جسد اللغة وجسد ا لحياة. ولم تكن لغة الكتابة عند أهل التقليد إلا هيكلاً من الحروف، خاوياً، لا ماديّةَ فيه، ولا أفقَ له. بين هذين الحدّين، حدّ كتابةٍ بلا لغةٍ، وحدّ لغةٍ بلا كتابة، تعرفت على عبدالعزيز المقالح كتابةً وشخْصاً، في المدار الذي يرى أن اللغة، إبداعياً، هي في الكتابة، كينونة ثانية، أو لا شيء. ورأيت أنه، الى جانب قلّةٍ آخرين، يتحرّكُ في عالم آخر. وكان مكانه يَتّسع في نفسي، ويتوهّج، فيما أرَى كيف كان النضال من أجل بلده - اليمن، للتحرر من إقطاع الدين والسياسة، يتخذ بعداً عملياً لرؤيته الشعرية. وكيف كان الوجه الأكاديمي - الفكري والنقدي، في شخصه، يتحوّلُ الى ميدانٍ تتجسَّدُ فيه الأبعادُ التحرريّة التي تكشف عنها هذه الرؤية. وكيف أن رعاية الأجيال الأدبية الشابة في اليمن تتحول هي كذلك عنده الى نوع من هَمٍّ فنّي إنسانيٍّ لا ينفصل عن همّه الإبداعيّ العام. كنت أرى أن كتابته سيرة عامة لليمن، تتبطنها سيرته الذاتية الخاصة. الأرض، المجتمع، الذات، أو هوية اليمن وأفقُ هذه الهوية: ذلك هو المدار الذي يتحرَّك فيه، أساسياً، الفن الكتابيّ عند عبدالعزيز المقالح. - 2 - أقرأ عبدالعزيز المقالح، اليوم، فأحسّ كأنه يُصارع نفسه داخلاً، ويُصارعُ حياته خارجاً. غير أنه صراعٌ هادئٌ حتى الغرابة. كأنه صراعٌ ضد الصراع، بحيثُ يوشوشنا لكي نُطلق عليه اسماً آخر. كأنه صراعٌ لمزيد من الاستئناس بالبشر والأشياء، ولمزيدٍ من التآلف والوحدة. فليس في هذا الصراع أي شكلٍ من أشكال العُنْف. صِراعٌ بالهَمْسِ، بالصَّمْتِ، بالكلمات التي لا تملك غير السلام، وغيرَ أن تفتح أحضانها للإنسانِ وللحياة. وهو، الى ذلك، صراعٌ مع أشياء لامرئية هي سِرّه الأخير الذي لا يقدر، شأن الشعراء، أن يُفصح عنه. وهو إذن صراعٌ - سلامٌ مع الكون: يَحيا في الكون، يفكّر، يعمل، ويتبادَلْ معه غبطةَ الصَّمْت. بلى، إن الحياة شعرياً على هذه الأرض، أرض اليمن، قد تكون القصيدة الأكثرَ جمالاً. ولعلّ نضالَ الشاعر لكي تصبح الحياة شعراً، أن يكون قصيدته العُليا. وليس هناك نضال يفوقه بهاء. في هذا النضال شقّ عبدالعزيز المقالح طريقاً تتمثل في إرادة العلوّ أبداً. لقد تحوّل الى جبل يمنيّ آخر. وتنبسطُ تحت كلّ قصيدة يكتبها أرضٌ تنمو فيها أعشاب اليمن ونباتاته وأشجاره، وتجري فيها ينابيعه، وتمتدّ حقوله وشطآنه. الشمس حارسة الحروف، والأفقُ إيقاع المعنى. ربما لهذا صارت اليمن، بالنسبة إليه، البلدان كلّها. اليمن جسدهُ الآخر. جسَدٌ مسكونٌ بِشَطْح اللامعقول، مسكونٌ في الوقتِ ذاته، بطمأنينة التجربة الحياتية التي ترى الى البعيد، فيما وراء القريب الحاضر، ولا تكاد أن تعرف الخطأ. كأنّ حياته كمثل كتابته، أو كأنّ كتابته كمثل حياته، جسرٌ معلَّقٌ بين القَلق المطمئن، والغبطة المتسائلة: قلق اللحظة العربية التي تتواصل ولا تنتهي - تمزّقاً وعذاباً، فقراً وظلماً، تجزّؤاً وانقساماً، حروباً وطغياناً، هيمنةً وعدواناً - لكنّه القلق الساهر الذي لا يعرف اليأس، وإن كان يجهل الرِّضى، وغِبْطة الجالس أبداً في حضن صنعاء كأنه طفلٌ لا يريد أن يُفطم عن رضاع الطبيعة وثدييها لكن دون خمولٍ، وفي حركةٍ لا تهدأ. - 3 - اسمحوا لي، إذن، أيّها الأصدقاء أن أهمس لعبدالعزيز المقالح: مِن حَظّكَ أن تكون يَمنياً. أن تعيش كمثل شجرةٍ لا تفارق ترابَ اليمن، أو كمثل هواء عاشقٍ لا يريد أن يهبَّ إلا في صنعاء. للجبال والأودية والحقول في اليمن لغةٌ تخرجُ من شفاهٍ ليست سبأ وبلقيس فاتحتَها، وإنّما تذهب الى أبعد. لغة تضع الانسان وجهاً لوجهٍ مع البدايات - في هذه المنطقة العربيّة من العالم حيث يميل كلّ شيء فيها الى نهاياته. حيث يُهيمن الذُّعر على اللغة نفسها، فتستيقظ كلّ صباح تتلمّسُ أبجديّتها فيما تشاهد العذاب - اقتتالاً وتشرّداً وسجناً. كأنّما لم يعد للحقيقة وللانسان في الجزء العربي من هذا العالم، غير هذه الخِرقة البائسة التي نُسمّيها الكفن. لكن، أجدُ مِن حظّي أنا كذلك، أيّها الصديق، إنني لم أشعر مرّةً في أي بلد عربي بما أسميه، على نحوٍ مُفارقٍ، ب"القلق المطمئن" كما شعرت به وأشعر في اليمن. العقل في هذا البلد قلبٌ، والقلبُ ينبضُ بدمٍ آخر، أو بنوعٍ من شَطْح العقل. وتلك اللحظة التي ينتشي فيها الانسان، بسببٍ أو آخر، ويشعر أنّه ممتزجٌ بكل شيء، انه جزءٌ من التراب والعشب والشجر، إنما هي اللحظة التي تهيمن على الزمن اليمني. هذا الزمن لحظةٌ خاصة داخل الزمان العربيّ. الحكمة التي هي في الوقت نفسه نشوة، الشيء الذي يظهر في لباس اللاشيء، السُكْر الذي ليس إلا صَحْواً، الانخطافُ الذي ليس إلاّ استبصاراً، القريبُ الأقْصى، التوازنُ بين الريشة، والصّخْرة، تلك هي بعضٌ من الخصائص في هوية هذه اللحظة. تَرحَّلْ، إذن، في اليمن، وسوف تشعر كأنك تترحّل في موسيقى كينونةٍ تتنوعُ بين الألف والياء، بين المرئيّ واللامرئي، كأنها نَفَسُ الخالق مَبْثوثاً في صورٍ بلا نهاية. - 4 - قلتٌ، يا صديقي، كنت أراك تتحرك مع قصةٍ، في عالمٍ كتابيّ آخر - داخل هذه الغابة الآسرة، العظيم، المفردة، غابة اللغة العربية. ولست في هذه الغابة حارساً أو صياداً أو غازياً، إنما أنت فلاح يرتبط جلده ونبضه، وترتبط عروق جسده وخلاياه، بجِلْدِ هذه اللغة ونبضها، بعروقها وخلاياها. فلاّحٌ لا يرث الجذر وحده، وإنما يرث كذلك الهواء والغُبارَ، الشمسَ والليل، الجدولَ والكوكب، صدر الشاطئ ورأس الجبل، الغزالة والشجرة، وبقدر ما يزداد قارئك معرفة بك، ويرى إليك كيف تحرث الحقول التي تمتد زاهية أو كابيةً، أو بين بين، في وطن هذه اللغة، سيرى كيف تمتزج هذه اللغة بسيطة هادئةً بدمك وأنفاسكَ، بحركاتك وأهوائك، بانكساراتك وتطلعاتك، بخيباتك وآمالك، أو سيرى كيف أن هذه اللغة هي كينونتك الأخرى. أُحيّيك - أنا صديقَك الذي حَلُمَ ولا يزال يحلم أن يعيشَ وأن يموتَ فلاّحاً مثلك - أحيّيك، فيما أتخيّل الأفقَ اليمانيَّ وأرَى إلى أرضه تتفتح لكل قصيدةٍ تكتبها، كما تتفتح وردة الحبّ. برلين في 11-11-2001 * ألقيت هذه الكلمة في احتفال خاص أقيم لتكريمه في "معهد العالم العربي" بباريس، في 15 تشرين الثاني نوفمبر 2001.