"الحب، أعزك الله، أوله جد وآخره هزل. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل، وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير...". بهذه العبارات الواثقة الواضحة يبدأ ابن حزم واحداً من أجمل الكتب وأعمقها في تاريخ الأدب العربي. ونقول الأدب، لا الفلسفة مع أن المؤلف فيلسوف، لأن السمة الغالبة على هذا الكتاب صفة أدبية حتى وإن كان موضوعه اجتماعياً يلامس الفلسفة. إنه كتاب "طوق الحمامة"، الذي وضعه فيلسوف قرطبة في بدايات القرن الحادي عشر الميلادي، ولا يزال حياً حتى اليوم، يُقرأ ويهتدى به، ويحاول كثيرون تقليده، ويحُيّى من قبل الباحثين والمفكرين بوصفه كتاب تنظير وسرد تجربة في الحب، ذلك الشعور الانساني العميق الذي لا يفوت ابن حزم نفسه أن يلفت الى أنه موضوع عصيّ على الكلام. إن معظم الباحثين ينظر الى "طوق الحمامة" اليوم لذاته، ولكن أيضاً لما ينم عنه وجوده نفسه من ازدهار وتطور هائل في تلك الحضارة الأندلسية الذي يعتبر نتاجاً من نتاجاتها، وتعبيراً عن ازدهارها، وقدرتها في لحظة من لحظات تاريخها على الدنو من مناطق كانت إما حساسة أو تعتبر ترفاً. بل ان ثمة من بين الباحثين من يشير الى فرادة هذه التجربة التي يمثلها "طوق الحمامة" في مسيرة ابن حزم نفسه، ذلك الفيلسوف والمفكر المتقشف الذي يطغى على كتاباته الأسلوب الجاف والتأمل الفلسفي الجاد. ولا يكفي، طبعاً، لتفسير ظاهرة وجود هذا الكتاب بين مؤلفاته ان نذكر انه من كتابات شبابه، إذ وضعه وهو بالكاد بلغ الثلاثين. ففي نهاية الأمر لم يطلع هذا الكتاب من عدم، وإنما أتى في إطار ممهد لذلك وسامح به. إذاً، "طوق الحمامة" كتاب في الحب وعن الحب، قسمه مؤلفه الى ثلاثين قسماً، راح في كل واحد منها يتحدث عن الحب وعن الأمور المتصلة به، حديث العارف الخبير، ملخصاً آراء عصره والعصور السابقة في كل موضوع يتناوله. غير ان هذا ليس كل شيء: فالمهم هنا، هو أن ابن حزم وفي كل فصل تقريباً، وبصدد كل موضوع، ينهي حديثه بإيراد أمثلة حية من "تجاربه الشخصية في الحب"، ما يجعل جزءاً أساسياً من هذا الكتاب يبدو وكأنه سيرة ذاتية عاطفية للمؤلف. فإذا أضفنا الى هذا أن ابن حزم يزين معظم الفصول والفقرات بأشعار وآراء تصور مضمونها، صاغها هو أو نقلها عن آخرين، يصبح لدينا أيضاً ما يشبه "ديوان الحب" العربي. وابن حزم، في تقديمه للكتاب، يحدثنا عن تقسيمه له إذ يقول: "وقسمت رسالتي هذه على خمسين باباً، منها في أصول الحب عشرة. فأولها باب في ماهية الحب، ثم باب في علامات الحب، ثم باب فيه ذكر من أحب في النوم، ثم باب فيه ذكر من أحب بالوصف. ثم باب فيه ذكر من أحب من نظرة واحدة. ثم باب فيه ذكر من لا تصح محبته إلا مع المطاولة. ثم باب التعريض بالقول. ثم باب الاشارة بالعين فباب المراسلة ثم باب السفير". ويوضح ابن حزم بعد ذلك ان في كتابه 12 باباً في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة، وستة أبواب في الآفات الداخلة على الحب... الخ. ولئن كان ابن حزم يورد هذه القائمة بأبوابه فإنه في المقدمة يغض الطرف عن تجاربه التي يرويها للتأكيد على مضمون كل باب من الأبواب. ومع هذا فإن وصفه لتلك التجارب، وأكثر من نصوص الكتاب النظرية نفسها، يضعنا على تماس مباشر مع الحياة الاجتماعية في أندلس ذلك الحين، لأن هذا المفكر إذ يسهب في الحديث عن حياته العاطفية، لا يفصل هذه الحياة عن اطارها الاجتماعي، وهكذا نجد أنفسنا نتنقل من مجلس الى مجلس، من حياة الشعب الى حياة القصور، ومن غراميات القيان الى عالم المحظيات والجواري، في قرطبة القرن الحادي عشر، أيام خلافة المنصور. غير ان ما يلفت في هذا كله هو الصفة التي بها يصف ابن حزم هذا كله، واستنكافه عن كشف الأسرار العميقة، حتى ولو كانت نصوص الكتاب تهيئ لذلك. ولد ابن حزم العام 994 م. 383 ه. في قرطبة، وكان فقيهاً ومنطقياً ومؤرخاً وشاعراً ومتكلماً، وكان ابناً لوزير يعمل في خدمة الخلفاء الأمويين في الأندلس، ما جعله هو نفسه يتبع خطى أبيه حتى الثلاثين من عمره، وهكذا عاش التقلبات السياسية وأودع السجن حين أَفَلت الدولة التي خدمها. وبعد السجن كان هناك المنفى حيث من المعروف أنه أمضى سنوات كثيرة من حياته خارج قرطبة، ومات بالقرب من اشبيلية في العام 1064 م. 455 ه.. وهو وضع في المنفى كل كتبه باستثناء "طوق الحمامة"، وهي كتب عرفت على نطاق واسع ولعل من أهمها "الفصل في الملل والأهواء والنحل".