لم تكن هناك أمة مكونة في الجزيرة العربية عندما نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء بل كانت هناك قبائل متناحرة. وكانت الكيانات السياسية على أطراف الجزيرة العربية مستغلة من قبل دولتي الروم والفرس، وعندما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ترك على مستوى الجزيرة العربية كلها أمة موحدة تدين بكتاب واحد، وتتجه الى قبلة واحد، وتعظم ربّاً واحداً، وتتبع شريعة واحدة. وتوسعت الأرض التي تعيش عليها هذه الأمة لتشمل بلاداً مجاورة ولتصهر في بوتقتها شعوباً اخرى مثل الفرس والترك والروم والبربر والكرد. ثم استوعبت هذه الأمة الحضارات والعلوم والثقافات التي كانت موجودة حيث توسعت وشكلت منها حضارة واحدة. واستمرت هذا الأمة موجودة فاعلة على مدار القرون وتعرضت في مسيرتها الى أخطار خارجية وداخلية، كحملات الفرنجة وحرب المغول. واستمرت حروب الفرنجة اكثر من قرنين، وساهمت فيها كل دول أوروبا وشعوبها من خلال سبع حملات، واحتل المقاتلون أراضي واسعة في قلب العالم الإسلامي، لكن الأمة استطاعت في النهاية التغلب عليهم، كما استطاعت ايقاف الغزو المغولي الذي اكتسح بلدان آسيا ودمر بغداد عاصمة الخلافة العباسية عام 656 ه ثم انتصرت عليه في معركة عين جالوت. وترافقت مع تلك الأخطار العسكرية الخارجية عناصر داخلية هددت وحدة الأمة من ذلك تشكيك الزنادقة في القرآن الكريم وإظهار تناقض آياته، مما ألزم عالماً مثل أحمد بن حنبل تأليف كتاب في الرد عليهم بعنوان "رسالة في الرد على الزنادقة والجهمية"، ومما اقتضى تشكيل ديوان الزنادقة في زمن الخليفة المهدي العباسي لدرء استفحال خطرهم. ومن الأخطار الداخلية الأخرى التي هددت وحدة الأمة، "الشعوبية". التي قامت على استصغار الجنس العربي والاستخفاف به، وعلى التهوين من شأن اللغة العربية والبيان العربي مما دفع كاتباً مثل الجاحظ الى تأليف أكثر من كتاب في الرد على هذه التهم وتفنيدها، كما في كتاب "البيان والتبيين" الذي أوضح أصول البيان العربي بالمقارنة مع بيان الأمم الأخرى، واعتدال الأسس التي يقوم عليها هذا البيان العربي. ومن الأخطار الداخلية أيضاً التشكيك في السنة. قامت بهذا فرق مختلفة ومنها المعتزلة، مما جعل الشافعي يخصص جزءاً من كتابه "الرسالة" لتفنيد رأي الذين يقولون بكفاية القرآن الكريم والاستغناء عن السنة والرد عليهم بقوله: إن القرآن الكريم الذي أوجب طاعة الله وجّه الى طاعة الرسول وأسس - بالتالي - الى وجود السنة وقيام شرعيتها. ومن الأخطار الداخلية أيضاً الفرقة السياسية التي تجلت بقيام كيانات عدة سياسية حتى في عهود القوة الاسلامية أثناء الخلافة العباسية، مثل: دول البويهيين، والسلجوقيين، والحمدانيين، والإخشيديين، والطولونيين، والمرابطين، والموحدين، والطاهرين. واستطاعت الأمة التغلّب على كل تلك المصاعب والهزات وتعززت وحدتها الثقافية التي قامت على دعامتين: الأولى: القرآن والسنة والعلوم التي ارتبطت بهما ونتجت عنهما. والثانية: العلماء والفقهاء الذين أفرزتهم الحياة الاسلامية وأعطتهم دوراً قيادياً في المجتمع. جاءت الدعامة الأولى للوحدة الثقافية من معاني القرآن والسنة وحقائقهما وقيمتهما ومبادئهما الداعية الى التوحيد والتطهّر وتزكية النفس ومكارم الأخلاق وإعمار الدنيا والخوف من مقام الله ونبذ الشرك واقامة شرع الله واتباع الأنبياء إلخ... وتطلبت سور القرآن الكريم والأحاديث الشريفة علوماً لحفظهما ولفهمها. ومن العلوم التي ارتبطت بالقرآن الكريم أسباب النزول، والمكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، وصور الإعجاز، ومدارس التفسير. ومن العلوم التي ارتبطت بالحديث الشريف علوم الجرح والتعديل، والرواية والدراية، ومصطلح الحديث، وطرق تصنيف كتب الحديث كما تطلبت سور القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الاهتمام باللغة العربية وحفظ اللسان العربي من اللحن وحفظ البيان العربي من الانحطاط، فكانت علوم النحو والصرف، وعلوم البيان والبديع، وعلوم العروض والقوافي، ومعاجم اللغة التي جمعت مفردات اللغة العربية. واقتضت حركة المجتمع ومستجدات الحياة اصدار أحكام شرعية جديدة وتطلبت هذه الأحكام علوماً شرعية تساعد على تقنينها فانبثق علم أصول الفقه ثم علم مقاصد الشريعة ليكونا أبرز علمين الهدف منهما المساعدة في ضبط عملية الاجتهاد. ساهمت حقائق القرآن والسنة التي أشرنا اليها سابقاً في توحيد عادات الأمة الاسلامية وتقاليدها في مشارق الأرض ومغاربها، وساعدت على توحيد الأذواق فيها، وشاركت في توحيد بنائها النفسي والعقلي، وأسهمت في توحيد نظرتها للأشياء المحيطة بها، وساعدت في توحيد ميزانها القيسي، وشاركت في توحيد تفسيرها لأمور ما قبل الحياة وما بعدها، كما ساعدت العلوم التي ارتبطت بالقرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية والتي ذكرنا بعضها في حفظ نصوص القرآن والسنة من جهة، وفي ايجاد طريقة موحدة لاستنباط الأحكام الشرعية وتقنينها ضمن منظومة الحلال والحرام والمكروه والمندوب من جهة أخرى. أما الدعامة الثانية للوحدة الثقافية فهم العلماء والفقهاء. ومعروف ثناء القرآن على العلماء، وحض الرسول صلى الله عليه وسلم على التعلّم، واتخاذه صلى الله عليه وسلم مواقف عملية تترجم ذلك في اكثر من مناسبة كما حدث مع أسرى بدر حين جعل فداءهم تعليم الكتابة لعدد من المسلمين. ووُجدت أوقاف غنية تنفق على العلماء وعلى طلبة العلم وعلى دور العلم وعلى نسخ الكتب وعلى إنشاء المكتبات العامة، وقام العلماء والفقهاء بحراسة وحدة الأمة الثقافية وتحصينها والسهر عليها وايجاد اللحمة الثقافية التي تدعمها وتنميها وتوسع ساحتها. مخاطر جديدة تتعرض وحدة الأمة الآن الى أخطر تهديد على مدار القرون الماضية وهو جاء من الكيانات القطرية التي تسعى الى تأسيس ثقافي مستقل بها، مما سيؤدي الى تقسيم الأمة الى أمم متعددة مختلفة. هذا التأسيس الثقافي للقطرية مرّ بمرحلتين: الأولى: مرحلة تقسيم الأمة الواحدة الى أمتين: عربية وتركية. جاء ذلك على يد دولة الاتحاد والترقي عام 1908 من الجهة التركية. وعلى يد الثورة العربية الكبرى عام 1916 من الجهة العربية. ولم تستطع الثورة العربية أن تجمع ما كان متفرقاً، بل فرقت ما كان مجموعاً في اتفاقية سايكس - بيكو وغيرها، ثم جاء التنظير القومي على يد ساطع الحصري ليرسخ القطرية ليس لأنه أراد ذلك، بل لأنه جعل الأمة تقوم على عنصري اللغة والتاريخ واستبعد الدين من عناصر تكوين الأمة، وهو في ذلك كان متابعاً النظرية الألمانية، ولكنه نسي أننا لا نستطيع ان نفهم واقع الأمة في العالم العربي الا بالاسلام لأن الاسلام دخل كل تفصيل في حياتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وأننا اذا أردنا ان ننتقل بهذه الأمة من واقع التجزئة الى الوحدة فلا بد من الاعتراف بدور الاسلام في بناء الأمة وتفعيل عناصره، وهو ما لم تقم به القيادات القومية فكان بروز القطرية وترسخها، وصار الظن عند عامة الناس أن التجزئة هي الأصل والوحدة هي الطارئة، مع أن العكس هو الصحيح. الثانية: مرحلة التأسيس الثقافي المستقل لكل قطر: اتخذ دعاة القطرية من "عدم التقدم باتجاه الوحدة" خلال القرن الماضي، حجة من أجل اعتبار الوحدة خيالاً ووهماً، واتخذوا ذلك أىضاً ذريعة من أجل الترويج للقطرية والتأسيس الثقافي لها الذي تجلّى في عوامل عدة، منها: طباعة كتب المؤرخين الذين تناولوا تاريخ القطر، وابراز الرحالة الذين مرّوا به وكتبوا عنه، وتعظيم رموز الأدب والشعر المرتبطين به، وتزكية تاريخه السابق على الاسلام كالتاريخ الفرعوني والبابلي والكلداني والآشوري والبربري والسرياني والفينيقي، وانشاء مراكز ومؤسسات ترعى ذلك التاريخ. ويرافق كل ذلك الاهتمام باللغة العامية المحكية وبالشعر الشعبي والاهتمام بالعادات والتقاليد والفولكور الخاص بكل قطر وانشاء المتاحف الخاصة به. لا شك في ان هذا التأسيس الثقافي المستقل لكل قطر على حدة، يقطع الوحدة الثقافية التي عرفتها الأمة على مدار تاريخها السابق. وهو في حال استمراره ونجاحه سيؤدي الى أخطر ما واجهته أمتنا على مدار تاريخها السابق، وهو تحويل الأمة الواحدة الى ثقافات متعددة. * كاتب فلسطيني.