منذ سنوات ومنظمة "أوبك" تشتكي من دون جدوى، من أرتفاع أسعار الضرائب على المشتقات البترولية في الدول الصناعية وبالذات اوروبا واليابان. فقد أعتبر المسؤولون الغربيون هذا الأمر موضوعاً سيادياً لا يحق للدول المنتجة مناقشته او التطرق اليه. وفجأة ومن دون مقدمات هيمن هذا الموضوع على الساحة السياسية الاوروبية من خلال الاعتصامات والاحتجاجات حول مصافي النفط ومحطات تخزين الوقود. ويمكن القول الآن ومن دون مبالغة إن ضرائب الطاقة وصلت وستبقى في قمة جدول اعمال الدول الاوروبية في المرحلة القادمة. هناك أسباب عدة معروفة وراء فرض الضرائب العالية على المنتجات البترولية. منها: - زيادة الموارد المالية للدولة. - الحد من أستهلاك النفط. - حماية البيئة. - استقطاع اعلى ريع مالي ممكن من النفط لمصلحة الدول المستهلكة بدلاً من السماح به للدول المنتجة. لقد كان واضحاً للجميع منذ فترة طويلة ان السعر النهائي للمشتقات البترولية في الدول الاوروبية واليابان عال جداً. وهناك أسباب عدة وراء هذه الظاهرة. فقد أنتهزت هذه الدول القفزات الكبيرة في أسعار النفط بين فترة واخرى، وبالذات عند الأزمات السياسية، من أجل رفع قيمة الضرائب على المستهلكين ولكن من دون تقليصها أو حذفها بعد أنتهاء الأزمات. وقد تعمدت هذه الدول احلال الضرائب على المستهلكين بدلاً من الشركات النفطية العملاقة التي تعمل في بلادها. فمن المعروف، مثلا ان لبريطانيا أسخى نظام ضرائبي على شركات النفط المنتجة في بحر الشمال، حيث تجبي منها أقل ضرائب ممكنة مقارنة بأي دولة منتجة اخرى، وذلك لتشجيعها على العمل في بحر الشمال. بينما تفرض في الوقت نفسه أعلى ضرائب بترولية ممكنة على المستهلكين. كذلك أنتهزت هذه الدول مرونة الطلب على المشتقات النفطية، خصوصاً البنزين والديزل ووقود الطيران ووقود التدفئة، واستطاعت ان ترفع من مستوى الضرائب تدريجاً من دون ارباك الاقتصاد المحلي او ميزان العرض والطلب او تنكيد معيشة المواطنين. وتبين للدول الصناعية انها مهما فرضت من ضرائب على المشتقات البترولية فأن الطلب يبقى مرتفعاً مما أفسح لها المجال لفرض المزيد منها. وكذلك ساهم بروز حركة الخضر ومؤيدي تحسين وضع البيئة في الدول الصناعية في السنوات الاخيرة، وفوزهم في انتخابات برلمانية عدة بحتى أصبحوا يشاركون في حكومات عدة اوروبية مثل المانياوفرنسا وغيرها. وهكذا فرضت هذه المشاركة السياسية نفسها على الحياة الاوروبية المعاصرة وكذلك على القوانين الاوروبية الحديثة ومنها ضرائب البيئة على المشتقات البترولية. لقد استمر المستوى العالي من الضرائب على المشتقات البترولية لفترة طويلة من دون مسائلة او معارضة نتيجة لانخفاض أسعار النفط الخام. فكما هو معروف، فأن القيمة الحقيقية لأسعار النفط الخام اليوم تعادل تلك التي كانت في النصف الاول من السبعينيات. لكن الأسواق العالمية لا تعير اي أهمية لهذا الأمر، فهي تتطلع الى سعر النفط اليوم ومقارنته بما كان عليه امس او السنة الماضية. وهنا ايضاً نرى ان أسعار النفط أستقرت على أسعار منخفضة نسبياً خلال السنوات الماضية لا تزيد في معدلها عن حوالى 18 دولاراً لبرميل نفط برنت. وأنتهزت الدول الصناعية هذه الفرصة وجيرتها لمصلحتها، إذ أستطاعت ضرب عصافير عدة بحجر واحد: زيادة موارد الدولة، والحد من استهلاك النفط، وتمويل مشاريع بيئية واجتماعية على حساب النفط. وتمكنت هذه الدول من القيام بذلك بادعائها ان كلفة استخراج النفط من الحقول لا يزيد عن بضعة دولارات من دولار الى 5 دولارات في الشرق الاوسط ومن ثم فان الارباح التي تجنيها الدول المنتجة كافية لها، وانها ستحصل ما يمكن تحقيقه من أرباح من بيع المشتقات البترولية في بلادها. لذلك نجد ان الدول المنتجة لا تحصل الا على حوالى 20 في المئة من السعر النهائي للبرميل الذي يباع للمستهلك، والشركات حوالى 5 في المئة، بينما تحصل وزارات المال في الدول الصناعية على حوالى 75 في المئة. وهذا الأمر معروف منذ وقت طويل لدى الدول المنتجة الا انها بقيت عاجزة عن التأثير في هذه القرارات. وتغير الوضع الآن بفضل ارتفاع أسعار النفط الخام. وحدث هذا الارتفاع ليس لأسباب سياسية بل لأسباب اقتصادية وصناعية بحتة، منها تقلص الطاقة الانتاجية وشحة الناقلات وقلة عدد المصافي الجديدة. هذه العوامل، مع سنوات من الازدهار الاقتصادي في الغرب، والانتعاش الاقتصادي السريع في آسيا، دفعت بالأسعار الى ما هي عليه الآن. وأرادت الحكومات الاوروبية، من خلال النهج الضريبي الذي تفرضه على مواطنيها، استغلال هذا الوضع مرة اخرى، إلا أن الكرة ارتدت الى ملعبها هذه المرة. وتغير الوضع اليوم بعد تظاهرات الاحتجاج الاوروبية، ولكن بالطبع لا يتوقع ان تبادر الحكومات الاوروبية إلى تقليص الضرائب على الطاقة، فهي عاجزة عن ذلك لأسباب سياسية داخلية التوازنات الحزبية داخل الحكومات، ولأسباب اقتصادية النسبة العالية لهذه الضرائب في الدخل المالي للدولة والذي لا يمكن تعويضه بسهولة، ولأسباب بيئية الحملة الطويلة الهادفة إلى تقليص استهلاك النفط واحلال بدائل طاقوية أخرى محله. ماذا ىمكن ان يحصل الان؟ من الواضح ان الحكومات الاوروبية تحاول اولاً وقبل كل شيء انهاء حملة الاضرابات القائمة وذلك من خلال وعود بسيطة، مثل الخفض الهامشي للضرائب في فرنسا، او الوعد بمراجعة الموضوع بعد شهرين في بريطانيا. الا ان من الواضح ايضاً أن من الصعب جداً هذه المرة اهمال الموضوع او التكتم عليه بعد الآن. فمن المتوقع ان يستمر اهتمام الجمهور بهذا الموضوع. كما يتوقع ان تستغل الأحزاب المعارضة قضية الضرائب وطرحها شعاراً لتأليب الناخبين ضد الحكومات الحالية. وأياً يكن الأمر، فمن الثابت ان من الصعب جداً منذ الآن وصاعداً ان تفرض الحكومات الاوروبية الضرائب البترولية بسهولة وعلى نحو روتيني كما كان يحصل في السابق. لقد أثبتت حملة الاعتصامات الاوروبية ان اضراب سائقي الشاحنات لم يكن امراً نقابياً محصوراً بفئة قليلة من العمال او أصحاب المهن الحرة. أثبتت الاضرابات أن هناك تأييداً شعبياً واسعاً جداً لحملة الاعتصامات - على رغم المصاعب والمتاعب التي لحقت بالمواطنين نتيجة شل الحركة الاقتصادية في البلاد - لا يمكن أي حكومة ديموقراطية تجاهله او غض النظر عنه. وهذا هو الدرس الأهم الذي يمكن استنتاجه من التحركات الاخيرة. * كاتب في شؤون النفط.