من أجل الإيجاز في الحديث عن المعنى الرمزي لإقدام الحكيم جورج حبش على الاستقالة من منصب الأمين العام للجبهة الشعبية، هو التحرر من مسؤولية قد تكون مستنفدة في زمن كهذا، ليكمل مشواره بمسؤولية أكبر، تبدأ مع الذاكرة المجيدة، والوعي بإحاطة الزمن لتجربته التاريخية المحمولة على إشراق الماضي الثوري، والتأمل في مراجعة الذات، كي يصل الى صيغة التماثل مع الذات المفكّرة من خلال الإحساس بالتفاصيل. ثمة مقدمات تمهيدية، بدأها الحكيم جورج حبش لبلوغ الاستقالة. فمنذ سنوات صرّح بذلك، ثم أخذ يلوذ بالصمت، يحجم عن اللقاءات الإعلامية والمقابلات الصحافية، ومقلّ في الظهور إعلامياً، وكان يعتذر عن إجراء الحوارات للكثير من الصحافيين سواء كانوا عرباً أو أجانب، وبقي هكذا مواظباً على الصمت. لصمت الحكيم دلالة أبلغ من الكلام، إذ أقام في محراب التأملات، يسأل أكثر مما يجيب، يصغي الى الزمن أكثر مما ينطق بحكمة مجرّبة. ومع كل طريقة جديدة يبتكرها، يكون لديه رؤية جديدة. وميزة الحكيم، أنه منسجم مع ذاته، حتى في ظل تبدّل الأزمنة، مغمور بالعمل والمتابعة، يتمتع بصدقية، وعاطفة إنسانية مفرطة، وتتطبع شخصيته بالوقار والرّزانة وبملامح هادئة نبيلة، ينقل خطواته ببطء على عكازه، يتابع مهمته وهو الحالم بوطن محرر وعودة الى "اللد". وحلم الحكيم لا ينتهي بل يتجدد ويتتابع بإكبار مع تفكيره باستمرارية، وهو يعطي جُلّ حياته لبلوغ هدفه وتحقيق حلمه مع شعبه الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير الإنساني. وحدها الإرادة الإنسانية التي تمدّ الحكيم بحلم لا ينتهي، ونودّ ألا ينتهي، إلا بولادة جديدة، الحلم الذي يدمجه مع الواقع، ينال منا كل الإعجاب والتقدير. لنتوقف عند إطلالة الحكيم على الاستقالة، كيف نكتشف تواصله في منحى آخر لمهماته الكبرى، ومشاريعه المؤجلة والمقبلة والقابلة للتحقيق، فهو من حيث ما يعتليه من مكانة، بمثابة مرجعية تاريخية، لتجربة نضالية عميقة وممتدة منذ نصف قرن - حركة القوميين العرب مروراً بالثورة الفلسطينية المعاصرة. كما أنه يعتبر قائداً يتصف بالوفاء والإخلاص، وتفكيره العقلاني مفتوح على المجهول، فهو من جهة يتابع بانشغاله، إنشاء مركز أبحاث ودراسات استراتيجية، يطل بعلاقاته على المثقفين والباحثين والمفكرين والنقاد والأكاديميين، يعمل ما بوسعه على بلورة جهود جماعية، كي يضع مشروعه على سكة النجاح، مأخوذاً بالإنتاج المعرفي، يصغي لكل الملاحظات والاقتراحات. يمكننا أن نلحظ مرور ثلاثة أزمنة على الدكتور حبش وكان شاهداً عليها، الأول: يتلخص ببدايات النهوض الثوري، والتشكيل الاستثنائي للأحداث، في وتيرة متسارعة، والثاني: يبدأ مع الضرورات، متجاوزاً أية إعاقة موضوعية. وزمن ثالث: قوامه الالتزام بعقيدة مثالية وإرادة تتحدث بلغة القوة، ثم تصطدم بمعوقات. يأخذ الزمن الأول عند الحكيم صفة: صدمة المنفى - خارج الوطن، ثم العمل على تشكيل الوعي الجديد وإعادة تعريف بالهوية الفلسطينية وصوغ رؤية قومية بأبعادها. أما الزمن الثاني، فصفته الانطلاقة مع فضاء أكثر اتساعاً ويأخذ بالأبعاد الأممية المناصرة للقضية الفلسطينية والتنظيرات التي رافقت هذا الفضاء المتشكل، مما ابتنى لذلك رؤية مقاربة الهدف مع معرفة التناقضات والاختلافات على قاعدة الصراع. وزمن ثالث صفته أنه يتحدث بلغة واضحة لا تتوسط اللا ونعم ولا يعرف المناورة أو المنهج البراغماتي، في ظل كل العوامل التي غدرت بالقضية الفلسطينية، وصفة هذا الزمن الأخير أيضاً أنه لا يقارب النصر بالهزيمة، المقدمات بالنتائج ولا يمزج الأسئلة بالأجوبة، وكي يخرج الحكيم من الزمن الأخير، أخذ يركّز وينشغل بسؤال الهزيمة والمتغيرات بإيجاد معادل للإجابة، وكي يبدأ من هذا الهم ويتفرغ له، لما هو محدد في السؤال الكبير لماذا هُزمنا ارتأى بإصراره على الاستقالة أن يغادر الأمانة العامة، ويبدأ زمناً جديداً مكملاً لمهماته... وترافق ذلك مع هذه الفترة التي أنجزت فيها المقاومة اللبنانية انتصارها المتميز على الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، وذهاب الحكيم مهنئاً القيادة والشعب اللبناني وزيارته للرئيس إميل لحود، مثلما زار مقر قيادة حزب الله. ويكفي من أجل هذا السبب أن نتلمس صدقية الغاية المنشودة، ربما الغاية ذاتها التي انطلق منها مشروع الحكيم في إنضاج الوعي والظروف المحيطة بمهمة التحرير الصعبة والوحدة الوطنية على قاعدة الثوابت والميثاق. لنعترف قبل اختزال الأزمنة بأن الحكيم تحركه خلفية وجودية، أو كأنه يصوغ الأزمنة على معطى فلسفي وجودي، والسؤال هنا: أوَ لم تكن المرجعية المحرّكة للمأساة الفلسطينية برمتها، تقوم على معطى وجودي؟ اندراج الصراع مع العدو صراع وجود والحكيم راكم مع هذه الأزمنة الثالثة تجربة هي بحق فذّة وكانت أزمنة مفتوحة على المجهول، ربما طال عمرها لأكثر من نصف قرن. بوسعنا أن نستخلص من خلال التجربة المنطوقة لمجمل التراجيديا الفلسطينية، بلغتها الواضحة الممتنعة عن الإقصاء، أن الحكيم عمل من خلالها على صوغ قواعد عصية على الانكسار أو كأنه لا يعرف المستحيل، وتجسد ذلك برؤيته ولغته التي كان يرتجل فيها احاديثه وخطاباته وحواراته. هذه التجربة الفريدة للحكيم، عكست برنامجه الجمالي أكثر من السياسي، جمالية المنطق والتفكير، جمالية الفعل والسلوك والتطبيق، جمالية الحلم والهدف. ومع هذا التشابه الجمالي لصورة الحكيم، أخذ يتماهى مع تجارب عالمية تاريخية للفرد القائد المؤثر في كل ما هو جمعي. هذا الميل في تفسير الخلفية المحركة لمجمل تجربة الحكيم، وهي تحمل معها تعبيراً جمالياً يرافقه الإصغاء للزمن على نحو استثنائي، وفق جدلية السائل والمجيب، الصوت والصدى، التي وصلت حد التباهي، استطاع الحكيم من خلالها وبرزانته أن يجعل من سيرته الذاتية مثالاً يحمل كل جاذبية لجيل بأكمله. فهذا الإنسان الزاهد، دمج الفعل والممارسة مع النظرية ليكون أكثر تألقاً، وأعطى الزمن حركته الضرورية، وعقد ميثاقاً مع المبادئ والأخلاق والعقيدة الممتلئة، وذلك هو الزمن المستعاد في التجربة الفلسطينية تدين لجورج حبش بالكثير من البطولة والمحبة. المنتفضون على الذاكرة المحاصرة، يعرفون معنى الصعود الى القمم في رحلة الزمن، والحكيم بوصفه أقام مع كل لحظة استثنائية، فإنه عقد ميثاقاً مع روح العدالة. ومأثرة الحكيم تشير إليها تجربته الناضجة، تحاكي الأزمنة، وتجاوز التأملات وتستجمع هتافات الحماسة المتغلغلة في الجمهور الذي أصغى إليه طويلاً. وعلى سبيل المحاكاة مع الزمن والماضي، تذكّروا في المستقبل أن لهذا الحنين والصعود، وللتجربة والسيرة الذاتية والجماعية اسم جورج حبش، ولأننا نحبه سنكون على موعد معه، مع الإرادة الإنسانية العظيمة، مع كل تجربة مضيئة محيطة بالحكيم. * كاتب فلسطيني.