عندما قرر السيد محمد خاتمي المستقيل من وزارة الثقافة تحت ضغط قوى اليمين التقليدي المحافظ الخروج من عزلته، والاعتكاف في المكتبة الوطنية في ربيع العام 1997 م. والقبول بترشيح نفسه الى منصب رئاسة الجمهورية تحت ضغط والحاح من قوى اليسار الديني الراديكالي وتعهد قوى اليمين العصري المتحررة حديثاً من وطأة احتكار اليمين التقليدي لسلطة القرار ذهب الى مرشد الثورة آية الله علي خامنئي يستأذنه الترشح. وقال له ما مضمونه ان محور برنامجه الانتخابي وأساس مشروعه لإدارة البلاد، اذا نجح في الانتخابات، سيكون: "العمل بالقانون فقط وفي اطار القانون الأساسي قبل أي شيء آخر". وأضاف: "ان ذلك ان كان فيه أي ازعاج أو يسبب أي خبط في البلاد قل لي منذ الآن لأتراجع عن مثل هذا الترشح". لكن خامنئي المتضلع من تضاريس الوضع السياسي العام في البلاد وتشكيلات مطبخ صناعة القرار المتشابكة والمعقدة ليس فقط لم يثن الرجل عن الترشح وقتئذ، بل قال له ما مضمونه أيضاً بحسب المصادر المتواترة: "انني موافق على ترشحك في هذا الاطار، ولكن عليك أن تعلم ايضاً انني سأستخدم الكثير من صلاحياتي القانونية التي لم استخدمها كاملة حتى الآن". بعد ذلك وبعد ما أسفرت نتائج الانتخابات الرئاسية السابعة عن الفوز الشعبي الساحق للرئيس محمد خاتمي، وفي ظل ذلك الصعود الكاريزماتي لمرشح القانون وصناديق الاقتراع، حرص خامنئي اثناء تنفيذه لأمر الانتخابات كما هو متبع، بحسب قواعد الدستور، ان يذكر الرئيس الجديد بما سبق ان قاله له في جلسة الاستئذان للترشح وفي حضور سلفه الذي كان يستعد لتوديع الرئاسة فقال جملته الشهيرة: "لن يكون أحد بالنسبة إلي مثل هاشمي رفسنجاني". ما حصل في أروقة البرلمان السادس من مواجهة أو تحد أو لغط أو فوضى أو عراك وتالياً خلط للأوراق فريد من نوعه في صفوف القوى والتيارات السياسية في البلاد أثناء قراءة رسالة المرشد عن ضرورة اخراج مشروع قانون تعديل قانون الصحافة من دائرة المناقشات البرلمانية وما ترتب عليه من بلبلة ولغط قانوني، انقسمت بسببه ليس فقط جبهة الثاني من خرداد على نفسها، بل والنائب الاصلاحي على ظله، كما حدث مع كثر منهم وأبرزهم النائب الغريب الأطوار أحمديو رنجاتي رئيس لجنة الشؤون الثقافية في البرلمان. كل ذلك مرده بحسب قراءة بعض المحللين السياسيين الى عدم وجود قراءة واحدة ومنسجمة من جانب الاصلاحيين لمفاد الدستور، خصوصاً في ما يتعلق بمقولة ولاية الفقيه وصلاحياته. طبعاً إذا تجاوزنا ما يردده بعض "الخبثاء" من المحللين السياسيين والمراقبين عموماً أن الاصلاحيين لا يجهرون بحقيقة ما يؤمنون به، وانهم يبطنون غير ما يظهرون أو انهم يعرفون وينكرون، نقول ان المشكلة التي أوقعت البرلمان السادس في "حيص بيص" والتي يعتقد انها ستؤثر كثيراً في مستقبل عمل برلمان الاصلاحات ودوره في مناصرة الرئيس الاصلاحي الذي يستعد لمنازلة جديدة، هي في الواقع عدم استيعاب العبارتين الشهيرتين الواردتين على لسان المرشد اثناء الاستئذان الأول وأثناء تنفيذ أمر الانتخابات الرئاسية التي أفرزت مرشح القانون والدستور. كان رئيس البرلمان الاصلاحي مهدي كروبي الذي وصفناه لدى تسلمه هذا المنصب بصاحب القلب الاصلاحي الذي يتنفس برئة محافظة، ويبدو انه الوحيد الذي استوعب الدرس جيداً، واضحاً وصريحاً وشفافاً جداً مع جماعته ومع الرأي العام عندما قال لهم: "ان العمل بمر القانون والدستور كان يتطلب منكم تقبل الرسالة والخضوع لأوامرها الارشادية الحكومية باعتبارها حقاً قانونياً مدوناً في الدستور، يحق للمرشد استخدام صلاحيته في هذا السياق وغيره، ما دام وجد ذلك ضرورياً تماماً، كما كان يفعل سلفه المؤسس الامام الخميني. فأين تذهبون؟". وليس صحيحاً التحجج هنا بأن الامام الخميني لم يستخدم مثل هذه الصلاحية الا بسبب حال الحرب التي كانت تطبع البلاد بطابعها، وفي مرات نادرة، بل ان الشواهد والقرائن وتقارير المطلعين تفيد بما لا يقبل الترديد بأنه استخدم مثل هذه الصلاحية في أكثر من مناسبة، بل وعشرات المرات سلباً أو اثباتاً وفي مختلف الملفات السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، لا بل انه أوضح بما لا يقبل التأويل في رسالته الشهيرة الى آية الله علي خامنئي عندما كان رئيساً للجمهورية بأن ولاية الفقيه تعني في ما تعني ان "المصلحة الحكومية" قد تتطلب تعطيل أحد الاركان أو الفرائض الدينية، بل انه استخدم مثل هذه الصلاحية في وقف العمل بفريضة الحج للمواطنين لسنوات عدة دفاعاً عن المصلحة العليا. المشكلة، كل المشكلة، في رأي المحللين السياسيين من جماعة الاصلاح الواقعي في عقلية الطفولية اليسارية التي تهيمن على البعض أقطاب اليسار الديني الراديكالي الذي يحتفظ بذاكرة ضعيفة أو ملتبسة ومتقطعة للتاريخ والحريص أشد الحرص على التميز بسلوكية حرق المراحل اثناء معالجته كل قضية، والنظر الى كل ما يدور حوله من تحولات غير مؤاتية بعين المؤامرة ومنطق الانقلابات، نافياً حيوية التحولات الاجتماعية وحركيتها السيالة وتأثيرات ذلك في عملية صناعة القرار في بلد عالم ثالثي محافظ ومجتمع متدين اعتدالي مثل ايران، لا يزال الافراد فيه، بمن فيهم عتاة اليسار الديني الراديكاليون، ينتظرون ظهور الحجة صاحب العصر والزمان لانقاذ العالم من طغيان الظلم وتطبيق العدالة. لا أحد من العقلاء يستطيع غمط حق الفرد المواطن أو النائب من التصريح برأيه والتعبير عنه، ولو كان مختلفاً مع ولي أمر المسلمين، وان تذكير اولياء الأمور بواجباتهم ووظائفهم هي من حقوق الناس التي ينبغي صيانتها والدفاع عنها حتى النهاية مهما كلف الثمن. لكن الانكار على الحاكم استخدام حقه القانوني المدون في الدستور في عهد رئيس تعاهد مع الرجل الأول في البلاد على أن يكون محور برامجه العمل بالدستور، سلوكية قد تكلف رئيس الجمهورية المنتخب ومشروعه الاصلاحي كله. فالمادة ال57 من الدستور واضحة لا لبس فيها، إذ تقول بالحرف الواحد: "ان القوى التشريعية والتنفيذية والقضائية تعمل تحت أمر الولاية المطلقة وامامة الأمة...". والمادة العاشرة بعد المئة تقول أيضاً: "ان تعيين السياسات الكلية للنظام... هي من صلاحيات المرشد بعد التشاور مع مجلس تشخيص مصلحة النظام". وفي بند آخر منها "ان حل معضلات النظام التي لا تجد سبيلاً لها من الطرق العادية، سيكون عن طريق مجلس تشخيص مصلحة النظام". من يؤمن بغير هذا كما يقول أحد اقطاب المحافظين الذي يميل الى برنامج اصلاحات الرئيس خاتمي عليه ان يطالب صراحة بتعديل الدستور، لا أن ينكر على المرشد حقه في استخدام صلاحياته التي يقر له بها الدستور صراحة. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه تكتل الاصلاح والتغيير بعد "الخبطة البرلمانية" التي عاشتها ايران على هامش مناقشات مستقبل الركن الرابع للديموقراطية كما يقول أحد المحللين السياسيين من جماعة المجتمع المدني الاسلامي الحديث. كان رئيس البرلمان مهدي كروبي واضحاً عندما قال لحلفائه من الاصلاحيين الراديكاليين: "هذه هي ولاية الفقيه المطلقة التي وقعتم على التزامها". لكنهم لم يكونوا صريحين معه في المقابل، ولا مع جمهور الرأي العام الذي انتخبهم، وظلوا يتأرجحون بين أحاديث الدوائر الحزبية المغلقة ودهاليز السياسة الماكيافيلية من جهة، ومناقشات الجلسات غير العلنية للبرلمان ومتطلبات الجلسات لعلنية فيما العارفون ببواطن الأمور يعرفون انهم يتبعون المبدأ القائل: "ان قائد النظام... يتم انتخابه وعزله من الشعب. انه مخلوق الدستور خلافاً للقائد المؤسس الذي هو بمثابة خالق القانون، لذلك لهو لا يحق له ممارسة التشريع فوق هذا القانون... وان رأي جمهور المسلمين هو صاحب المشروعية. ... وانه ببيعته مع القائد من خلال الانتخابات بالواسطة أي انتخاب مجلس الخبراء الذي ينتخب بدوره القائد انما ينقل هذه المشروعية منه الى القائد...." كما ورد في كتابه الشهير المعنون ب"الجمهورية". بعد مضي عام كامل على احداث الحي الجامعي الشهيرة والاضطرابات الطالبية التي رافقتها صيف العام 1999م، تعود اليوم قضية الخلاف والاختلاف الاساسية التي هزت طهران ستة أيام انذاك، لتطل برأسها من جديد ولكن عبر أروقة برلمان الاصلاحات هذه المرة. ان تكون مع هذا الدستور الذي يقول بهذه الصلاحية للولي الفقيه أو مرشد الثورة والنظام، أو أن يكون لك رأي آخر فيه فتقرأه قراءة أخرى، فما عليك عندها، على ما يبدو، سوى ان تطالب بتغيير الدستور بدلاً من الاصطدام بعقبات كثيرة لا تحصى وقد لا تحمد عقباها على الجميع. هذا هو السؤال والتحدي الواقعي ليس فقط أمام اليسار الديني الراديكالي على الظاهر، بل وأمام تكتل الاصلاح والتغيير، وفي مقدمه الرئيس محمد خاتمي الذي يستعد لمنازلة جديدة على رئاسة ثانية ستكون بالنسبة اليه والى جماعته في نظر كثر من المراقبين، على أي طريق اختار، كالمشي على حد السيف.