كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ظاهرة العولمة، واكتسب تناول هذا المصطلح أهمية متزايدة سواء في العالم المتقدم أو النامي، لما سيترتب على هذه الظاهرة من تحولات جذرية في العلاقات الاقتصادية بين العالمين، ومع تبني هذه السياسة في الدول المتقدمة أخذت الدول النامية هي الأخرى في الإعداد للتكيف مع ما ستفرضه هذه السياسة من انعكاسات تتطلب في المقام الأول اعادة هيكلة اقتصاداتها حتى يسهل اندماجها في النظام الاقتصادي العالمي الجديد. فالعولمة تعني ازالة جميع القيود لا سيما تلك المفروضة على التجارة الخارجية سواء المنظورة السلع أو غير المنظورة الخدمات بما فيها الاتصالات والتكنولوجيا ونظم المعلومات كما تعني العولمة انفتاح الأسواق وتكاملها عالمياً بهدف تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد من خلال المنافسة العالمية بل وانفتاح ثنائي ربما فرضته التكنولوجيا. واذا كان العالم المتقدم سيستفيد، بل استفاد بالقطع من وراء الغاء جميع القيود والحواجز المفروضة على التجارة العالمية وهو ما وضح بالفعل منذ التوقيع على انشاء منظمة التجارة العالمية في عام 1995، فإن الخاسر الأكبر أيضاً من العولمة هو الدول النامية، بما فيها الدول العربية، التي وجدت نفسها مضطرة إلى تعديل هياكلها الاقتصادية والاندماج في السوق العالمية بمعطياتها وشروطها الجديدة، بل الاشتراك في اصدار نظم وسياسات على عجل ربما تؤدي الى ثغرات قانونية، فبيانات البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قدرت الوفورات والمكاسب التي ستجنيها المجموعة الأوروبية من تحرير التجارة الخارجية ما بين 61 و98 بليون دولار سنوياً اعتباراً من عام 2000، أما الولاياتالمتحدة الأميركية وحدها، فإن مكاسبها تراوح ما بين 28 و67 بليون دولار، وعلى الجانب الآخر قدرت زيادة الفجوة الغذائية في المنطقة العربية من 12.3 إلى نحو 15 بليون دولار سنوياً. تتطلب العولمة بادئ ذي بدء اندماج الاقتصادات العربية في الاقتصاد العالمي، والاندماج في السوق العالمية ليس بالأمر السهل، والدليل على ذلك ما أشارت اليه تقارير البنك الدولي التي تقيس درجة اندماج هذه الاقتصادات في السوق العالمية ونجاحها في عملية العولمة. وأشارت هذه التقارير إلى انه بين 93 دولة نامية نجحت 15 دولة فقط في أن تندمج في الاقتصاد العالمي وهي الدول التي سميت بحديثة التصنيع وذات الدخل المرتفع، أما الدول الأخرى فهي تواجه صعوبات جمة في كيفية الاندماج في الاقتصاد العالمي. وسنتعرض في ما يأتي لأهم المعايير التي تقيس مدى نجاح الدول النامية، ومنها العربية، على الاندماج في الاقتصاد العالمي وهو معيار نسبة مساهمة التجارة الخارجية لدولة ما في التجارة الدولية، ومعيار تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة وأثرها في خلق فرص عمل أو في زيادة معدلات البطالة. إن معيار نسبة مساهمة التجارة الدولية لدول ما في التجارة العالمية لهو من أهم المعايير التي تقيس درجة اندماج اقتصاد ما في الاقتصاد العالمي، فارتفاع درجة مساهمتها في التجارة الدولية وان كان يؤدي الى بعض الآثار الايجابية مثل ارتفاع معدل النمو في الناتج المحلي الاجمالي، فإنه من ناحية أخرى يؤثر على نمط توزيع الدخل لشرائح كبيرة من السكان وربما يؤثر سلبياً على مستوى معيشتهم، اذ يؤدي ارتفاع درجة مساهمة الدولة في التجارة الدولية الى تحويل الكثير من السلع التي يستهلكها الفقراء نحو التصدير، وظهر ذلك واضحاً ابان فترة الاحتلال الانكليزي والفرنسي للكثير من الدول العربية والأفريقية، إذ عمدا إلى ادخال الكثير من المحاصيل القطن مثلاً في مصر بغرض سد حاجة المصانع في الدول الاستعمارية، وكان ذلك على حساب المزارع الوطني والحاجات المحلية، أما الدول المصدرة للنفط، فمعدل النمو مرتبط بسعر النفط الذي يؤثر على معيار النمو مع أنه غير حقيقي. كذلك فإن ارتفاع نسبة التجارة الخارجية الى الناتج المحلي الاجمالي قد يعني زيادة الاعتماد على استيراد السلع الغذائية وهو ما يعني انخفاض درجة الاكتفاء الذاتي في هذه السلع، وذلك ينطبق على الكثير من الدول العربية ويؤثر سلباً على الشرائح الاجتماعية الفقيرة، ناهيك عن أن ارتفاع درجة المساهمة في التجارة الدولية قد يصاحبه تعريض الدول إلى درجة أكبر من التقلبات سواء في الدخل أو في سعر صرف العملة، ويقع العبء الأكبر من هذه التقلبات على الفقراء أكثر من غيرهم، وظهر ذلك واضحاً عندما انخفضت أسعار النفط منتصف الثمانينات وما صاحب ذلك من تغير واضح في الأداء الاقتصادي لكثير من الدول العربية، وما ترتب عليه من أثر في تحويلات العمالة وفي عدد العمالة نفسها التي عادت الى أوطانها حيث ساهمت في زيادة معدلات البطالة فيها. وظهر ذلك واضحاً في اليمن حيث اضطر أكثر من مليون عامل يمني يمثلون ربع اجمالي القوى العاملة اليمنية الى العودة، ما أدى الى ارتفاع معدل البطالة من سبعة في المئة إلى 25 في المئة بين عامي 1990 و1992. وتزامن ذلك مع انخفاض الطلب على العمالة في أوروبا، ما أثر في معدل الهجرة من الدول العربية في شمال أفريقيا الى غرب أوروبا وأدى بالتالي الى انخفاض مستويات الأجور. أما المعيار الثاني المؤثر في ظاهرة العولمة فهو حركة رؤوس الأموال الأجنبية سواء في صورة قروض أو استثمارات مباشرة، فهذه تؤثر في معدلات الاستثمار والنمو وبالتالي قد يرى البعض أنها تؤدي الى خلق فرص عمل جديدة، إلا أن البيانات تشير، في حالة مصر، إلى عكس ذلك، إذ نجد أن مجموع ما ساهمت به الشركات المنشأة طبقاً لقانون الاستثمار رقم 43 لعام 1974، وهي التي تمثل أهم نتائج سياسة تحرير الاستثمار في مصر وبدء الاندماج في الاقتصاد العالمي، يتمثل في خلق فرص عمل لا تزيد عن عشرة في المئة من اجمالي فرص العمل التي ولدها القطاع الخاص خلال الفترة 7819/1988. ولا تختلف تجربة مصر في هذا الصدد عن تجارب كثير من الدول العربية الأخرى التي تتوافر عنها البيانات. وعلى الجانب الآخر فقد تكون الاستثمارات الأجنبية المباشرة وسيلة للضغط على كثير من الدول الفقيرة والتأثير على صانعي القرار، وبالتالي انحسار دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع، فالحياة الاقتصادية والاجتماعية تخضع في ظل العولمة إلى تأثير قوى السوق وهذه بدورها تخضع إلى تأثير مصالح الشركات المحلية والدولية أكثر مما تخضع لأوامر الدولة، فكما أن مبدأ "سيادة المستهلك" آخذ في الانحسار تاركاً مكانه لتعاظم أثر المنتجين في أنماط الاستهلاك وفي أذواق المستهلكين، فإن "سيادة الدولة" هي أيضاً آخذة في الانحسار تاركة مكانها أكثر فأكثر لسيطرة منتجي السلع والخدمات، سيما وأن كثيراً من الدراسات أشار إلى أن القرن المقبل هو قرن الشركات الضخمة التي لا يتجاوز عددها ألف شركة التي ستؤثر في اقتصادات العالم بأكمله، وايضاً أرباح الاستثمارات الأجنبية تمثل ضغطاً على ميزان المدفوعات فلا بد أن يؤخذ في الاعتبار ما إذا كانت منتجات الاستثمار الأجنبي موجهة للسوق المحلية وبالعملة المحلية، وما إذا كانت الأرباح تحول بالعملة الصعبة بعد ذلك. كما أن دخول هذه الاستثمارات وما يصاحبها من ارتفاع الدخل لشريحة معينة من السكان دون غيرها قد يؤدي إلى ازدواجية اجتماعية نتيجة فجوة بين أنماط الاستهلاك للشرائح الاجتماعية المختلفة، وقد ظهر ذلك واضحاً في مصر عقب تطبيق سياسة الانفتاح خلال السبعينات وظهور طبقة الطفيليين مثل وكلاء الاستيراد وسواتر الاستثمار الخارجي. وختاماً نقول إنه إذا كان كثيرون يعتقدون أن النظر الى ظاهرة العولمة كظاهرة حتمية يجب الأخذ بها، فإن المطلوب عدم الاندفاع او التسرع في تقبل هذه الظاهرة، فالاندماج مع الاقتصاد العالمي يجب ان يتم تدريجاً، فظاهرة التخصيص، على سبيل المثال، والتي اجتاحت العالم اليوم، وكذلك منح الكثير من الامتيازات للاستثمارات الأجنبية استجابة لضغوط العولمة، لا يغني القبول بهما عن التفكير المتعمق في كيفية الاستفادة منهما وان يتم ذلك في الوقت المناسب وحسب ظروف كل دولة، فالسرعة أو الجرعة التي تعتبر مرغوبة في دولة ما قد لا تكون كذلك في دولة أخرى، وفي جميع الأحوال يجب أن يتم ذلك في ضوء دراسة ما يترتب عليهما من اعباء خاصة على الطبقات الفقيرة الأشد تأثراً وعلى ميزان المدفوعات ومسألة تشغيل الأيدي العاملة. وعلى الجانب الآخر قد يكون هناك دور للدول العربية ككل في مواجهة ظاهرة العولمة ومحاولة تحقيق الاستفادة القصوى منها وذلك من خلال الدخول في ترتيبات أو تحالفات اقليمية من شأنها أن تزيد من قدراتها التفاوضية والتنافسية مع الشركات الدولية متعددة الجنسية، من أجل تخفيف الآثار السلبية التي قد تنتج من دخول هذه الشركات سواء على مستوى العمالة أو على رفاهية المستهلكين أو حتى على البيئة والثقافات المحلية. وهنا نعود مرة أخرى إلى ضرورة وجود السوق العربية المشتركة كمخرج أصبح ضرورياً واتباع سياسات لدعم الصناعات المحلية لا تعترض عليها منظمة التجارة العالمية، كذلك إنشاء المدن الصناعية وتحمل أعباء التدريب وقصر التمويل المحلي على المشاريع الوطنية. * اقتصادي سعودي.