تثير ظاهرة العنف في الملاعب تساؤلات وتعليقات في مختلف الأوساط السياسية والإعلامية بسبب تناميها، وهي قد تتحول أداة لاستمرار عنف الجماعات الإسلامية المسلحة. وعلى رغم قدم هذه الظاهرة إلا أن تطورها في شكل عنيف خلال المرحلة الماضية دفع الكثير من الأوساط المعنية بقطاع التربية والرياضة الى البحث عن حلول عاجلة وإقحام مصالح الأمن والشرطة فيها، خصوصاً أنها باتت تكتسي أهمية خاصة. تعود جذور العنف في الملاعب الجزائرية الى المراحل الأولى للاستقلال، إذ اضطرت الحكومة الى التدخل لوقف أولى الموجات التي هزت البلاد انطلاقاً من هناك. وشهدت بعض المباريات أحداث عنف مأسوية كما حدث عام 1962 خلال مشادات بين المشجعين انتهت بإصابة العشرات منهم ومن اللاعبين بجروح. وتولت الفدرالية الجزائرية لكرة القدم، على رغم حداثتها آنذاك، اتخاذ العقوبات في حق مشجعي الفرق بحرمانهم متابعة بعض المباريات التي أجريت على ملاعب مغلقة الأبواب أمام الجمهور آنذاك. وعام 1966، وعلى رغم النظام السياسي الصارم الذي كان يقوده ا لرئيس الراحل هواري بومدين، والذي منع أي تجمع غير مرخص له، أياً تكن مبرراته، إلا أن أحداث العنف في الملاعب لم تتوقف إذ أصيب العشرات من المشجعين بجروح خطرة عقب مباراة بين فريق مولودية الجزائرة ومولودية وهران غرب الجزائر تقرر على إثرها تعليق نشاط الفريقين طول الموسم، وأجريت بقية مباريات الدوري بعيداً من الجمهور. وعام 1978 عادت موجة العنف لتضرب بقوة في مناسبة المباراة التي جمعت المنتخب الجزائري لكرة القدم، مع نظيره التونسي وتواصل عنف الملاعب كظاهرة اجتماعية تعودتها الحكومة وكانت تتكيف معها بتطورها. كان لفظياً فأصبح واقعاً يومياً مر عنف الملاعب بمراحل عدة على اختلاف الظروف والمتغيرات التي شهدها المجتمع الجزائري، إلا أن جوهر هذا العنف لم يتغير وبقيت سمته المشتركة استعمال عبارات التهديد إذا ما قورنت بالأعمال العنيفة التي عرفتهات الملاعب خلال المراحل الماضية. بدأت أعمال العنف خلال الستينات ببعض الشعارات العنيفة التي كان هدفها الأساسي إخافة الفرق الزائرة، إذ كان يعمد جمهور فريق مولودية العاصمة الى ترديد بعض الشعارات العنيفة مثل "الدخلة دخلتم والخرجة من أين" لإبلاغ أنصار الفرق الضيفة ولاعبيها أنهم لن يكون في مقدورهم الخروج من الملعب بسلام. أما أنصار فريق "جيل صلب جيجل"، شرق الجزائر، ففضلوا إخافة الضيوف على طريقتهم الخاصة بترديد شعارات غاية في الخطورة مثل "رابحين قاتلينكم خاسرين ذابحينكم"، أي أن الضيوف لن ينجوا في كل الحالات. ولا يتردد أنصار الفريق من استعمال العنف في حال الهزيمة أمام بعض الفرق المنافسة سواء لاعتبارات جهوية، خصوصاً أمام فريق القبائل البربري أو أمام الفرق الأخرى القريبة من الحي حيث يقيم الأنصار. ومع بروز التعددية السياسية، فضل أنصار غالبية الفرق الترديد الساخر لشعارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة مثل "عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد" أو مثل "يا علي يا بلحاج الجبهة راهي لا باس" و"لا ميثاق لا دستور قال الله قال الرسول" و"مسمار جحا لا بد أن يتنحى"، في الإشارة الى الرئيس المستقيل الشاذلي بن جديد. إلا أن "التوبة" الساخرة للجماهير سرعان ما ضعفت مع بدء أعمال العنف وعاد غالبية أنصار الفرق الى استعمال عبارات السب والشتم البذيء ما دفع بعض عناصر الجماعات المسلحة الى قتل بعض رموز أنصار الفرق الرياضية مثلما حدث مع الشاب "ياماها" وهو أحد أبرز مناصري الفريق الجزائري وفريق شباب حي بلوزداد في العاصمة، وكان عنصراً مهماً في تحريك الأنصار وترديد الشعارات في الملاعب. وقد دفع العنف اللفظي للمشجعين وتهديداتهم مسؤولي الفريق الوطني المتعاقبين الى تفادي إجراء المباريات في العاصمة بعد تدني الأداء الرياضي خلال السنوات الماضية. وهكذا تقرر منذ عام 1996 إجراء مباريات الفريق الجزائري على ملعب عنابة أقصى شرق البلاد لتفادي غضب أنصار الفريق في العاصمة، وكل ما من شأنه أن يعرض حياة لاعبي المنتخب الجزائري للخطر. أسباب شجعت تنامي العنف بحسب بعض المتابعين فإن تنامي ظاهرة العنف في الملاعب تعود في الدرجة الأولى الى بروز توترات اجتماعية وسياسية في البلاد تزامنت مع التعددية السياسية الناشئة ومتاعب التحول من الاقتصاد الاشتراكي الى اقتصاد السوق وما أفرزه من بطالة ويأس اجتماعي. ويقول أحد المتخصصين في علم الاجتماع إن لجوء الأنصار الى استعمال العنف يعد أساساً شكلاً من أشكال التعبير ورفض الإقصاء الاجتماعي، ويتغذى أساساً من اليأس وتنامي ظاهرة البطالة. ومع مشاطرته هذا الاعتقاد يرى السيد سعيد سلحاني مدير صحيفة "الشباك" الرياضية أن عنف الملاعب يعود في الدرجة الأولى الى العدد الكبير للمشجعين مقارنة بحجم الملاعب، وكون غالبية الأنصار من فئات متقاربة اجتماعياً وتميزها نسبة البطالة التي تتجاوز ال90 في المئة. إلا أن ثمة اعتبارات أخرى ذات أهمية خاصة مثل عامل الجهوية أو الصراع بين الأحياء، وهي عوامل ظلت تغذي هذا العنف من حين الى آخر. وهكذا أصبح أنصار فريق مولودية الجزائر وسط العاصمة يعرفون باسم "الشناوة" وهي الترجمة الفرنسية لكلمة الشعب الصيني لكثرة عددهم وخروجهم العشوائي من الملاعب. .. وعنف يخرج من الملاعب وخلافاً لما كان الوضع سابقاً، انتقل العنف في الجزائر من ميادين كرة القدم الى المدرجات قبل أن يستقر في الشوارع حيث يعمد مشجعو الفرق الرياضية الى كسر واجهات المحال وتخريب المنشآت العمومية مثل محطات الحافلات والقطارات. فعام 1994 عمد أنصار فريق اتحاد الحراش جنوب شرقي العاصمة بعد هزيمته أمام فريق شبيبة القبائل البربري على ملعب هذا الأخير، الى كسر كل المنشآت التي صادفتهم في طريق عودتهم، مثل محطة القطار بالثنية التي حطمت عن آخرها، ونتجت عن ذلك خسائر كبيرة أضيفت إلى الخسائر التي أحدثها الإرهاب ضد قطاع النقل العمومي. والسيناريو نفسه كان حصل فيها بعد هزيمة الفريق نفسه في مواجهته فريق وداد بوفاريك جنوب العاصمة حيث قام أنصار ما يعرف الآن بفريق "الكواسر" الى توقيف القطار الذي كانوا فيه كل 200 متر للهجوم على البساتين المجاورة للسكة الحديد وسرقة البرتقال. إلا أن مثل هذه الأحداث لا تقارب في المقابل مع أحداث أخرى كان آخرها السنة الماضية حين توفي حكم فريق مولودية العاصمة مع اتحاد العاصمة متأثراً بالجروح التي أحدثتها في وجهه لعبة نارية قذف بها أحد الأنصار من المدرجات. ظروف تتحكم بنوعية العنف وأشكاله يعتقد السيد سعيد سلحاني، وهو متابع قديم لشؤون الرياضة في الجزائر، أن بروز ظاهرة العنف المسلح في الجزائر أثر في حجم أحداث العنف في الملاعب في شكل كبير، ومع تحسن الوضع الأمني عادت موجة العنف الرياضي للبروز وأصبح كثر من المشجعين يتخوفون من الذهاب الى الملاعب لشدة العنف ومخاطر متابعة المباريات أمام جمهور لا يعرف له مستقر. وإذا كانت الأسباب الكامنة وراء أحداث العنف غامضة لدى البعض ومعقدة بالنسبة إلى البعض الآخر، فإن مسؤولي الفرق الرياضية يركزون في تحاليلهم على معطيات أساسية لها صلة بمحيط المباريات. وترى غالبية مسؤولي الفرق أن الأسباب التي تؤدي الى أحداث العنف في الملاعب مختلفة ويصعب التحكم بها في سهولة على رغم ترابطها وتقاربها بعضها من بعض. وفي هذا الإطار، يرى السيد السعيد عليق مسؤول فريق اتحاد العاصمة أن "الأخطاء المتكررة التي يرتكبها الحكام من العوامل الأساسية التي كانت وراء أحداث مؤلمة شهدها بعض الملاعب". أما السيد محمد العايب وهو مسؤول سابق لاتحاد الحراش فيرى أن الأشخاص الذين يجلسون الى جانب أرضية الملعب يكونون عادة شرارة أعمال العنف. وخلافاً لهذه الرؤية يرى السيد رشيد بو عبدالله مسؤول فريق شباب باتنة أن نوعية الهياكل الرياضية تعد عنصراً مساعداً على بروز أحداث عنف في إشارة الى صغر بعض الملاعب التي توكل إليها مهمة احتضان مباريات ساخنة تستقطب جماهير كثيرة. "الكواسر" يتحدون الحكومة وفي خطوة لوقف ظاهرة العنف في الملاعب في الموسم الرياضي 98/99 قررت الحكومة إجراء المباريات ذات الأهمية المحلية على الملاعب الكبرى. وهكذا تم تحويل المباريات الساخنة الى ملعب 5 جويلية لتمكين مصالح الأمن وأجهزة مكافحة الشغب من التحكم بأي أعمال عنف. وقررت الحكومة حرمان بعض الفرق إجراء المباريات على ملاعبها كإجراء عقابي ضد المشجعين، إلا أن هذا القرار سرعان ما تحول "شرارة" غضب لأنصار بعض الفرق مثل اتحاد الحراش، وسرعان ما أصبح يعرف باسم فريق "الكواسر" بعد لجوء أنصاره الذين اجبروا على الانتقال الى ملاعب أخرى، الى تخريب كل المحال وتكسيرها عقب كل مباراة مع ترديد شعارهم المفضل "كواسر... كواسر" وهو المقطع المستلهم من المسلسل العربي الذي بث في الجزائر قبل سنة. وقد أجبر سلوك "الكواسر" الحكومة على إلغاء الإجراء العقابي المسلط عليهم بعد فشل كل محاولات الأمن الجزائري في وأد أعمال الشغب التي يقوم بها أنصار اتحاد الحراش. في بموازاة ذلك، شكلت لجنة وطنية مهمتها الأساسية مكافحة العنف في الملاعب وهي تتشكل أساساً من مسؤولين في الأمن ووزارة الداخلية ووزارة الشباب والرياضة، إلا أن اللجنة لم تخرج بنتائج ملموسة إذا ما استثنينا بعض الإجراءات الوقائية مثل توزيع توقيت المباريات على يومي الخميس والجمعة لتفادي الخروج الجماعي للمشجعين من الملاعب في توقيت متقارب، ما يخفف من احتمال حدوث أعمال عنف في الشوارع القريبة من الملاعب. الأمن يلجأ الى الحكام لتفادي العنف وبحسب مسؤولي الأمن في العاصمة فإن شروط عقد المباريات الساخنة غير متوافرة في غالبية الملاعب الجزائرية الأمر الذي يؤدي الى أحداث مأسوية. وتذكر شهادات ثقة أن في الكثير من الأحيان يطلب ضبط قوات مكافحة الشغب ومسؤولي الأمن من الحكام الذين يديرون المقابلات مساعدتهم في التحكم بالوضع من خلال تفادي إعطاء ضربات الجزاء في آخر لحظة، أو طرد أحد اللاعبين من المباراة ما لم يكن ضرورياً، وهي إجراءات "مهدئة" لغضب أنصار الفرق الذين يعمدون في كثير من الأحيان الى مباشرة أعمال العنف بعد شعورهم بالظلم من حكم المباراة أو اعتداء لاعب من الفريق الخصم على أحد عناصر الفريق الذي يدعمونه. وفي الكثير من الأحيان كانت الحكومة تتخوف من أن ينتقل عنف الجماعات الإسلامية المسلحة في الجبال والمدن الى عنف الشوارع عبر أنصار فرق كرة القدم وجماهيرها الى تأجيل المباريات أو إلغائها، إذا تزامنت مع استحقاقات انتخابية أو مواعيد اضطراب اجتماعي مثل اضراب العمال أو الطلبة.