أطلق الدارسون اسم "الصحوة الاسلامية" على أفعال عدة ومظاهر اسلامية برزت في سبعينات القرن الماضي، وارتبطت بالتدين عموماً مثل ارتداء المرأة المسلمة الحجاب، وإعمار الشباب للمساجد، وظهور بنوك اسلامية ومؤسسات تجارية لا ربوية، وانتشار الكتاب الاسلامي، وظهور جمعيات اسلامية تقود العمل الخيري في آسيا وأفريقيا، والاقبال على التصويت للاسلاميين في الانتخابات البرلمانية في أكثر من بلد عربي واسلامي ما أدى الى إشغالهم عدداً كبيراً من مقاعد البرلمانات الخ... ولم تقتصر الصحوة على بلد واحد أو منطقة واحدة بل شملت بلداناً متعددة ذات ظروف تاريخية مختلفة تمتد من أقصى الشرق الى أقصى الغرب، منها: تركيا، الأردن، مصر، فلسطين، تونس، الجزائر، السعودية، الكويت الخ... وأعاد أولئك الدارسون تلك الظاهرة الى أسباب عدة منها: 1- هزيمة حزيران يونيو: ذكر بعض الدارسين أنّ الصحوة الاسلامية جاءت نتيجة هزيمة 1967 وعلّلوا ذلك أن الشعوب تلجأ الى القيم الدينية لمواجهة الانتكاسات وللتهرب من الواقع المرير. ومن الذين روّجوا لهذا التحليل حسين أحمد أمين في عدد من مقالاته. لكن هذا التعليل غير صحيح لأن هناك بلاداً ظهرت فيها صحوة اسلامية ولا علاقة لها نهائياً بالنكسة مثل تركياوتونس، ولكننا يمكن أن نقبل القول أن هزيمة حزيران 1967 تصادفت زمنياً مع ظهور الصحوة وذلك لاضطرار الحكام الى تخفيف قبضتهم عن الشعوب الاسلامية بسبب هزيمتهم أمام اليهود، واضطرارهم الى السماح بهامش من الحرية ما جعل الشعوب تستفيد من هذا الهامش وتعبّر عن الحقيقة الكامنة في داخلها ووجدانها. 2- حاجة بعض الحكام لمواجهة التيارات اليسارية: علّل بعض الدارسين اليساريين وجود الصحوة أنها ثمرة اطلاق الحكام ليد الاسلاميين في العمل السياسي من أجل مواجهة الحركات اليسارية، وأشاروا في هذا الصدد الى اطلاق أنور السادات يد الحركة الطلابية في مصر لمواجهة الشيوعيين واليساريين في الجامعات المصرية بعد عام 1970، وأشاروا كذلك الى سماح بورقيبة للاسلاميين العمل في تونس من أجل الحد من نفوذ التيار الشيوعي هناك. إن هذا الكلام الذي يقوله اليساريون قابل للنقاش، ولا يسلم به على اطلاقه، ولكن لنفترض جدلاً صحة ما يقوله اليساريون، فهذا يعني أن الحكام أرادوا الاستفادة من ظاهرة موجودة، ولم يوحدوا هذه الظاهرة، وهذا ما نريد أن نصل اليه وهو أن الصحوة الاسلامية حقيقة منبثقة عن واقع حياة المجتمع المسلم ومرتبطة به، وذات جذور وأصول بعيدة وليست من صنع الحكام. 3- الظروف الاقتصادية السيئة: أشار كثير من الدراسين، وبالتحديد الغربيين، الى أن الصحوة الاسلامية ثمرة الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها بعض بلدان العالم الاسلامي، وأن القيادات الاسلامية تستغل الظروف الاقتصادية السيئة للزج بالشباب في "أتون الأصولية"، ومما ينفي زعم أولئك الدراسين أن الصحوة الاسلامية لم يقتصر انتشارها على البلدان التي تعاني أزمات اقتصادية، بل امتد انتشارها الى البلدان المستقرة والمزدهرة اقتصادياً مثل الخليج العربي عموماً والكويت خصوصاً، وربما كان العامل الاقتصادي سبباً في تسريع انتشارها لكنه لم يكن عاملاً أساسياً في ايجادها بحالٍ من الأحوال. 4- الثورة الايرانية: عزا بعض الدراسين انبثاق الصحوة الاسلامية الى قيام الثورة الايرانية في 1979، والى تأثيرها الاعلامي في محيطها الاسلامي، ونسي أولئك الدارسون أن الثورة الايرانية شيعية المذهب، لذلك فمن الصعب أن يكون لها تأثير في محيط سني المذهب، وإذا كان لا بد لنا من الإقرار بالتأثر والتأثير فهو أن الثورة الايرانية حركت مشاعر المسلمين، وأكدت أملهم بامكان الانتصار، ودفعتهم الى حلبة التنافس والتسابق مع اخوانهم الآخرين. 5- انتشار المد الأصولي: رصد بعض الدراسين أصولية متنامية خلال الفترة الماضية على مستوى الكون لدى مختلف الأديان والمذاهب اليهودية والكاثوليكية والهندوسية والبوذية الخ... وعلّلوا تلك الظاهرة الأصولية بسقوط الاتحاد السوفياتي الذي يقوم على الإلحاد، وهو خصم لكل الأديان، واعتبروا الصحوة الاسلامية جزءاً من تلك الظاهرة، ونسي الدارسون أنّ الصحوة الاسلامية غير الأصولية الاسلامية فلكل ظاهرة سماتها المستقلة المختلفة عن الأخرى. والآن بعد أن فندنا الأسباب التي توهم بعض الدراسين أنها كانت وراء الصحوة الاسلامية، فما أسبابها الحقيقية إذاً؟ ولكي نرد لا بد من استعراض الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية التي سبقت "الصحوة الاسلامية". شكلت الحضارة الغربية التحدي الأكبر الذي واجه الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وانتهى الصراع بسقوط الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى، وبتفكيك ولاياتها وسقوط معظمها في قبضة الانتدابين: البريطاني والفرنسي، ارتفعت أصوات تنادي بالتغريب، ومن أجل اللحاق بالحضارة الغربية. وكان كمال أتاتورك أبرز من حمل لواء التغريب فألغى الخلافة الشريعة الاسلامية، وأعلن النظام العلماني والآذان باللغة التركية، وكتب اللغة التركية بالحرف اللاتيني وأوجب السفور وألغى كل التشريعات الاسلامية المتعلقة بالأسرة الخ... ذلك ما قام به كمال أتاتورك على الجانب التركي من الخلافة العثمانية. اما الجانب العربي فتنكر قادة الفكر القومي فيه للدين الاسلامي واسقطوه من عوامل تكوينها. وكان ساطع الحصري أبرز من رسخ ذلك الفكر القومي العربي الذي يقوم على العلمانية في كل من العراق وسورية. ونتيجة المعطيات السابقة جعلت القيادات القومية العربية الحضارة الغربية قدوتها ومثالها، وشرعت في تغريب الانسان والمجتمع العربيين، فأحلت الرابطة القومية محل الرابطة الدينية، ونقلت التشريعات الغربية وقوانينها في كل مجالات الحياة التجارية والزراعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخ... ولم تستثن من ذلك إلا قوانين محدودة تتعلق بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق، ونقلت النموذج السياسي الغربي من دون أدنى تغيير أو مراعاة لأية ظروف خاصة، ونسخت النظام الاقتصادي الغربي القائم على النظام الربوي بكل شروره وآثامه، أدى كل ذلك الى اصطراع عنيف بين النموذجين الغربي والحضاري التاريخي لأمتنا الذي عرفته لقرون طويلة. والسؤال ماذا كانت نتيجة محاولات القيادات القومية لتغريب بلادنا منذ الحرب العالمية الأولى؟ وهل أصبحت قيم الغرب وعاداته وتقاليده ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية متجذرة في حياة الأمة وجزءاً من كيانها؟ لا. لم تصبح بدليل "الصحوة الاسلامية" التي قامت في مختلف أنحاء العالم العربي من تركيا الى سورية الى الأردن الى مصر الى تونس الى الجزائر الخ... مستندة الى الوحدة الثقافية التي تمثلت في مفاهيم مستمدة من أحكام الحلال والحرام والواجب والمندوب المطروحة في كتب الشريعة الاسلامية، وظهرت في تقاليد وعادات وأعراف مستندة الى سيرة الرسول صل الله عليه وآله وسلم وبانت في سلوكيات معتمدة على قيم الاسلام وأخلاقه وتوجيهاته، وتجلّت في أفكار مأخوذة من عقائد الاسلام ومبادئه، وقامت على أشواق وأذواق مرتبطة بحديث القرآن عن الجنة والنار الخ... شكل القرآن الكريم والسنة المشرفة أساس الوحدة الثقافية لأمتنا، فهما أعطيا المسلمين تصوراً واحداً عن الكون والحياة والإنسان، ورسما لهم أهدافاً واحدة تزاوج بين التطلع الى الآخرة وإعمار الدنيا، وحدّدا لهم قيماً واحدة تقوم على التطهر والتزكي، وأوجبا عليهم واجبات واحدة تعود على الفرد والمجتمع بالخير في الدنيا قبل الآخرة، وأفعما قلوبهم بتعظيم الله ورجائه وحبه مما أورثهم غنى نفسياً وامتلاءً معنوياً تجسد في أوقاف بلغت ثلث ثروة العالم الاسلامي، ووجَّها عقولهم الى التفكر والتدبر والأخذ بالتجريب والابتعاد عن الأوهام والظنون مما جعلهم يبتكرون مخترعات تغني الحياة البشرية في مختلف العلوم والمجالات. شكلت الوحدة الثقافية التي استندت اليها "الصحوة الاسلامية" أبرز مظهر من مظاهر الأمة الواحدة في وقتنا الحاضر بعد أن نجح أعداء الأمة في تمزيق مظاهر الوحدة الأخرى: السياسي والاقتصادي منها، وتبين أن هذه "الوحدة الثقافية" أقوى وأعصى على التذويب والتغييب والتفتيت مما يتصورن. فالصحوة الاسلامية جاءت تعبيراً عن رفض الأمة للتغريب من جهة، وقامت استناداً على الوحدة الثقافية للأمة من جهة ثانية. * كاتب فلسطيني.