الجدل في عمان في شأن الإصلاح والوحدة الوطنية وغيرهما من القضايا العامة كان محل اهتمام كُثُرٍ من المعلقين السياسيين داخل الأردن، وتطور إلى نقاش في ضرورة تحقيق المساواة بين الحقوق والواجبات لمواطني الأردن من أصل فلسطيني وشرق أردني. بداية أن محاولات الإصلاح الجذرية في أي دولة تستثني المراجعة السطحية وتدعيم الحقوق الأساسية للمواطنين، هي من مميزات دول العالم الثالث. فهذا على الأقل هو رأي منظمات عدة في الأممالمتحدة المعنية بدعم دول العالم النامي وتطورها، لأن أي تقدم اقتصادي خال من عدالة اجتماعية موازية هو تدعيم للتسلطية الإقتصادية والسياسية. فثقة المواطن بعدالة مؤسساته العامة القادرة على ضمان حقوقه الدستورية الكاملة وإنتمائه النابع من إيمان غير مغبون بسيادة القانون، ركيزة أساسية لتقدم المجتمع الأردني والعربي. لكن ثمة ملاحظات على رواد الطرح الأخير من جهة، وكذلك على مبالغات السلطة التنفيذية وعدم حساسيتها في التعامل مع هذه القضية الحساسة من جهة أخرى. الإنتقاد على الطريقة التي عبر فيها رواد هذه الدعوات عن طروحاتهم يكمن في أن قصر برنامج الإصلاح السياسي الأردني على مطالبة أحادية برفع سقف حقوق الأردنيين من أصل فلسطيني في الوظائف العامة، طرح لا يجانب العدالة، إذ أنه يستثني ضمناً المطالبة الموازية برفع سقف حقوق الأردنيين من أصل شرق أردني في وظائف القطاع الخاص. كذلك الطريقة التي جاء بها هذا الطرح آخذاً مظهر الأقلمية في التعامل مع أبناء الأسرة الأردنية الواحدة، هو أيضاً مرفوض جملة وتفصيلاً لأنه جاء في غالبيته من أفراد، وعلى شكل إرتجالي ومفاجئ وحتى استفزازي لقطاع عريض من أبناء الوطن الواحد. فلو كانت هناك مثلاً حركة شعبية عريضة ممثلة لقطاعات الأردن السياسية، اسلامية أم قومية أم يسارية، تشترك في أن أفرادها هم شريحة حقيقية عن المجتمع الأردني، لكانت هذه المطالب أقرب الى الحس الأردني العام وأقّل عرضة لإثارة البلبلة. كذلك من الخطأ ربط مسألة الإصلاح المنهجي وهي أساساً عملية ميكانيكية وموضوعية تتم وفقاً لمعايير تكتيكية واستراتيجية محددة مسبقاً مع مداخلات الرواسب العاطفية والوجودية لديناميكية علاقة الأردنيين من شرق النهر أو غربه. فهذا الخلط أصلاً شائك تاريخياً من خلال العجز التركيبي المجتمعي في الأردن، لجهة الفهم السطحي لدور القانون وأثره في تحديد معنى المواطنة، على أنها اكتساب قانوني بحكم الأعراف المعاصرة أو تجدد لانهائي لفكرة الإمتداد الجغرافي الضيّق. فغياب الدور التعليمي المؤسسي في طرح هذا المفهوم الأساسي لأحد أهم مرتكزات المجتمع الأردني، وتوضيحه، ولدَّ أجيالاً غير قادرة على تحديد مدى ارتباطها العاطفي والسياسي مع حدود المملكة الأردنية الهاشمية قبل حرب حزيران يونيو 1967 وبعدها وفي هذا الشأن، لا يستثني لوم الحكومات الأردنية المتعاقبة على هذا التقصير، لوم مثقفي الأردن، سواء كانوا من أصول شرق أردنية أم فلسطينية من حيث عجزهم عن صوغ مفهوم جماهيري لفكرة المواطنة يعبّر عن تطلعات مواطن الشارع الأردني وطموحه. ومن جانب آخر فإن السلطة التنفيذية الحالية وإعلامها الرسمي إفتقرا الى الارتقاء الى حجم المسؤولية، من حيث الطرح الموضوعي الذي يتجاوز مهاترات كلامية بالية لا تحمل أي معنى واقعي عملي ولا تمت بصلة الى احتراف العمل الحكومي وجديته في القيام بواجبه العام. فبدلاً من التوضيح الهادئ والمتزن للبس الذي وقع فيه أصحاب هذا الطرح بالاعتراف أن الخلل، إذا وجد يكمن في عدم تفصيل النص الدستوري الأردني، عجّت الصحافة الرسمية في مبالغاتها. وبدلاً من قبول مبدأ النقد الذاتي وإحتمالية الخطأ استعملت الفاظاً مثل "جلد الذات"، وبدلاً من الإشارة الى أن القانون الدولي يحمي حقوق المهجرين ضمن اتفاقات جنيف الأربعة للعام 1949 وغيرها من المعاهدات عمدت الى التهويل ورسم المسألة كأنها مؤامرة لخلق كيان بديل يرفضه أصلاً عمل مثقف أردني وعربي. وبدلاً من الإشارة الى أن الوحدة الوطنية، حقيقة قائمة ما دامت مدعومة بالنص الدستوري الذي يكفل الحقوق والواجبات، صورت الوحدة الوطنية حقيقة قائمة من خلال تظاهرة سكانية لأهالي مدينة الزرقاء الأردنية أمام الملك! فلماذا كل هذا الأصرار على الغرور في التعامل مع القضايا الأردنية الحساسة؟! وما هو العيب أصلاً في أن نعترف نحن الأردنيين، بأن هناك الكثير من العلاقات الشائكة التي تحتاج فعلاً الى إجماع وطني ضمن الإجراءات الدستورية الأردنية ؟! وفي وقت يلتف كل أردني حول قيادة الملك عبدالله الواعدة والتي تبشر فعلاً بالاصلاح السياسي والاجتماعي والإقتصادي ونقل الأردن الى مدينة القرن الواحد والعشرين وحداثته لماذا كل هذا الاصرار الحكومي على استفزاز القطاعات العريضة والمعتدلة من المجتمع الأردني بالإستحقاق بعقول أصحابها؟ وعلى رغم أهمية فتح الملف الاقتصادي الداخلي الأردني والتركيز على دور الاستثمار الأجنبي فهذا يجب أن لا يكون على حساب خدمة المواطن من حيث إعادة تقويم العدالة الاجتماعية والسياسية والدستورية وغرسها في مسيرة الأردن الداخلية، في شكل يجعل من مفهوم الوحدة الوطنية والهيكلية الدستورية القانونية للأردن الحديث حقيقة عملية واقعة لا تتلاعب بها المصالح الذاتية لأعداء الإصلاح الذين نموّا وازدهروا على حساب البيت في الكثير من الإستحقاقات. فالأردن بقيادة ملكه الشاب سيكون أقوى وأكثر منعة في تجديد حقوق مواطنيه وواجباتهم وامتيازاتهم ضمن حدود القانون. وسيكون أصدق كلمة بصحافة حرّة تحكمها هيئاتها الخاصة لا الاستبداد الحكومي والتدخل غير الدستوري في شؤونها، وسيكون أعلى شأناً بسلطة قضائية أكثر استقلالاً بمعنى موضوعي وواقعي لا يسمح بالتطاول المادي أو المعنوي على جهازها الذي لطالما شُهد له بالنزاهة. والأردن سيكون أقرب الى عروبيته وحضارته بتوجيه يأخذ في شكل جدي واستراتيجي بأهمية تنمية المؤسسات القومية، الاقتصادية والسياسية والقوية والعسكرية العربية، وجدية الملك عبدالله وأي حكومة أردنية في العمل على تحديث الأردن على الجبهة الداخلية أو الخارجية بالفعل الصادق والمخلص لعدالة القانون والنص الدستوري، لها الدعم المطلق وغير المحدود من كل مثقفي الأردن الذين يؤمنون بوحدة هذا الوطن العربي الكبير وحتمية لحاقه بالدرب الدولي والحضاري. * محاضر غير متفرغ في القانون الدولي في جامعة لندن.