تغطي هذه الفترة عهد الخلافة الراشدة بدءاً من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نهاية خلافة الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه. الوثيقة الثالثة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه نظراً الى تطور الأحداث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيام الجيوش الاسلامية بعمليات الفتح، واشتداد المعارك وضراوة الالتحام، وما أسفرت عنه من ضحايا، وما رافق الجند من نشوة الانتصار التي قد تنسيهم رسالتهم السمحاء والهدف الأساسي من الفتح الإسلامي، أصدر الخليفة الأول أبو بكر الصديق وثيقة خاصة تنظم كيفية معاملة العسكر لسكان المدن الجديدة اثناء الحرب وبعدها، وما يمكن أن نسميه اليوم "اتفاقيات جنيف لحماية المدنيين"، عبر الالتزام بقوانين المنازعات المسلحة أثناء الحرب وتطويق نتائجها المكلفة إنسانياً، بهدف حماية المدنيين من ان يصبحوا ضحايا مباشرين للحرب. وتهدف تلك الوصايا إلى تأمين حماية الفرد وصيانة حقوقه في جميع الأوقات، خصوصاً في زمن هدرها، مثل الحروب والأزمات وحالات الطوارئ . فالقانون الدولي الإنساني يتألف من قسمين: الأول اتفاقيات جنيف الأربع في زمن الحرب، والقسم الثاني الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في زمن السلم. أورد ابن الأثير في الكامل ما أوصى به الخليفة الأول قائد حملته المتوجه إلى الشام ما نصه: "انك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما حبسوا أنفسهم له يعني الرهبان"، ثم قال له: "إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تمثل، ولا تقتل هرماً، ولا امرأة، ولا وليداً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا ما أكلتم، ولا تحرقن نخلاً، ولا تخربن عامراً ولا تغل ولا تبخس". الوثيقة الرابعة للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع توسع رقعة الدولة الإسلامية بعد الفتوحات العديدة، بدأت تتنوع المشاكل الاجتماعية وتتعقد، وظهرت حاجة ماسة إلى تطوير القضاء بشكل يؤمن سلامة المعاملات وتحقيق العدل بين الناس. وفي هذا الجانب كتب الفاروق وثيقة إلى أبي موسى الاشعري ضمنها توجيهات بشأن كيفية الفصل في الخصومات، وبعض المبادئ الأساسية في القضاء جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالله عمر أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس أبي موسى الأشعري سلام عليك، أما بعد: فان القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فانه لا ينفع حق لا نفاذ له. آس بين الناس بوجهك، وعدلك، ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق. فان الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق... وادرأ بالبينات والأيمان. وإياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فان الحق في موطن الحق ليعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر. فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق بما يعلم الله انه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام". الوثيقة الخامسة: عهد الامام علي رضي الله عنه لمالك الأشتر لئن كانت "الصحيفة" قد أرست أسس الاستقرار والتآلف الاجتماعي المبني على قاعدة السلم الأهلي ولمنع أي أزمات حادة في مجتمع المدينة الحديث العهد بالإسلام، فان عهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمالك الأشتر يعد تطوراً كبيراً على طريق إدارة وحكم البلدان التي فتحت ودخلها الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين، ويرسي بكل وضوح المعالم الأساسية لمهمات الحاكم المسلم وحقوق الرعية، وهي من المستمسكات التي قل التعامل معها وعرضها لجمهور المسلمين، وهذا ما يدفعنا لعرض بعض فقرات العهد. ولّى الامام علي مالك الاشتر النخعي مصر عام 39 هجرية، وكتب له عهداً طرح فيه النظرية الإسلامية في كيفية إدارة البلاد وحكمها مبنية على القواعد الإسلامية الأربع: الحرية والمساواة والعدل والشورى، وتضمن حوالي 94 بنداً تبين المرتكزات الأساسية للعهد، مثل واجبات الحاكم ومفهوم الأكثرية عند الامام، والتجارة والصناعة والتنمية، وحقوق الفقراء، ومعاهدات السلام. وقد صنفه المؤرخون والقانونيون من أهم العهود التي قطعها خلفاء المسلمين وملوكهم إلى عمالهم وولاتهم في تدبير شؤون المملكة الإسلامية، إضافة لما تضمنه من القواعد التشريعية السياسية والإدارية والقضائية والمالية والنظريات الدستورية التي تضاهي احدث القواعد حالياً، فقد عالج الإمام أنظمة حفظ التوازن الاجتماعي بين طبقات المجتمع الإسلامي التعددي خصوصاً في البلدان المفتوحة. يحدد الامام علي في أول العهد السلطات الرئيسية التي يجب أن يضطلع بها الحاكم وهي: مالية الدولة، الشؤون العسكرية، جهاز الدولة وملاكها الوظيفي، وأخيراً عمران البلاد، فيقول في بداية العهد: "هذا ما أمر به عبدالله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها" الامام علي "نهج البلاغة"، صبحي الصالح . ثم يحدد علاقة الحاكم بالرعية عبر النص الآتي: "واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم والعطف فيهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم. فانهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فانك فوقهم وولي الأمر عليك والله فوق من ولاك". ولتنظيم العلاقات بين السلطان والرعية كتب الإمام في عهده "فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فان حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً. ولا تنقض سُنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنّة تضر بشيء من ماضي تلك السنن. واكثر مدارسة العلماء ومنافسة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك واقامة ما استقام به الناس قبلك". أما أسس النظام القضائي وطرق اختيار الحكام والقضاة واستقلالية وعدل الحكم، فقد وردت في العهد كما يلي: "ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه". ويجدر بنا أن نتوقف عند مفهوم الإمام للأكثرية في الأمة كآلية ديموقراطية وأهمية حصول رضاها باعتبارها صاحبة المصلحة الحقيقية. والأكثرية المقياس الذي ينبغي أن يصنع القرار السياسي، الذي هو ثمرة تفاعل بين كل قوى المجتمع، مع التزام الأقلية بالقبول وعدم التعسف ضدها. ورضا الأكثرية يعطي الشرعية للحكم، ويستمد الحاكم منه سلطته باعتباره الوكيل المؤتمن على الأمة، فهو ممثل لها في السلطة لا مالك لها، والساهر على توفير حاجات الأمة، والممتنع عن إلحاق الجور والظلم بالرعية، فيذكر في العهد: "انصف الله وانصف الناس من نفسك، ومن خاصة اهلك، وليكن احب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل واجمعها لرضى العامة، فان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة". كما يشدد الامام علي في معاملته للرعية على الدقة في عدم ارتكاب خطأ قد يؤدي إلى إراقة الدماء في البلد، وينهي العهد بالتركيز على الابتعاد عن الغرور والعجب بالنفس والمن على الرعية والتمادي في السلطة، الذي يقود إلى الاستبداد والديكتاتورية والدمار للبلاد والعباد: "وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء فان ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه". وتوضح القراءة الدقيقة لهذا العهد الدستوري مدى حجم التطور والارتقاء الذي حصل في قيم حقوق الانسان في ذلك المجتمع البدوي. وقبل إغلاق ملف هذه المرحلة، لا بد من الإشارة ولو بإلمامة سريعة إلى وثيقة مهمة جداً في التاريخ الإسلامي، وثيقة أنهت الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين المسلمين بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، حيث أسدلت ستار الفتنة الكبرى وحقنت دماء المسلمين وحققت التعايش والسلم الأهلي بين أبناء الأمة. إنها "معاهدة صلح الحسن" التي وقعت بين الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان سنة 41 للهجرة، نقتطف مقطعاً من مادتها الخامسة المرتبط بالبحث: "على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمَن الأسود والأحمر، وأن يتحمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يأخذ أحداً بما مضى". مرحلة التقنين والتفصيل وتشمل هذه المرحلة الحكم الأموي وعصر ازدهار الحضارة الإسلامية إبان الخلافة العباسية حتى نهاية الفترة المظلمة. وقد تم التركيز على وثيقتين، وعلى شرح مختصر عن جهود علماء الإسلام في تناولهم لقضايا حقوق الإنسان المختلفة. الوثيقة السادسة: رسالة الحقوق كتب الامام علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنه رسالة خاصة سميت ب "رسالة الحقوق" تتضمن خمسين حقاً، تغطي معظم جوانب الحياة التي يحتاجها الانسان بشكل تفصيلي، وتعطي قيمة للفرد في المجتمع الإنساني، وتعتبر أول مدونة حقوقية قننت وفصلت مفاهيم حقوق الإنسان من وجهة نظر إسلامية. ويمكن اعتبار رسالة الحقوق مقاربة في مضامينها وفي منهجية عرضها الحقوق للعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللذين صدرا العام 1966 من قبل الأممالمتحدة وانضمت إليهما معظم دول العالم. وترسم رسالة الحقوق نمط العلاقات بين افراد المجتمع والسلطة، إذ ركزت على الحقوق الفردية وخاطبت الفرد باعتباره المعني بهذه الحقوق. وتطالب الرسالة الإنسان المسلم بأن يوصل الحق إلى أصحابه قبل أن يطالب به، أي أن الرسالة تذكر "من عليه الحق" اكثر مِن "مَن له الحق". فمنظومة الحقوق هذه أسست الترابط في ما بينها، وإمكان التمتع بأحد الحقوق أو بعضها يتوقف على توافر الحقوق الأخرى. ويمكن أن نرسم خارطة بنود رسالة الحقوق على الشكل الآتي: 1- حقوق الله. 2- حقوق الافعال العبادات. 3- حقوق الأئمة الحقوق السياسية والثقافية. 4- حقوق الرعية الحقوق الاجتماعية. 5- حقوق الرحم. ذكر الإمام علي بن الحسين الحقوق بشكل متداخل ومتفرع. ففي مقدمة الرسالة يستعرض الحقوق الخمسين بإيجاز، ثم يشرحها بالتفصيل، مبتدئاً بحق الإيمان بالله، معتبراً إياه اصل الحقوق ومنه تتفرع. فحق الله كما جاء في النص: "اعلم رحمك الله أن للّه عليك حقوقاً محيطة لك في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها وآلة تصرفت بها: بعضها أكبر من بعض، وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع". ثم ينتقل إلى حق النفس والجوارح السبع، وهي حق البصر والسمع واللسان واليدين والرجلين والبطن والفرج. والجوارح الثلاث الأولى هي تعبير عن استعمال حق وسائل الإعلام في ذلك الوقت. يعطي الإمام للعبادات حقوقاً يفصلها، وهي حق الصلاة والصوم والصدقة والهدي. كما يورد الحقوق السياسية، وهي حق السلطان وحق الرعية، ويدخل حق الرحم في هذا السياق. وتتفرع من هذه حقوق أخرى هي، حسب تسميته "حق سائسك بالسلطان السائس هو القائم بالامر والمدبر له، ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك"، ليعود مرة أخرى إلى الحقوق السياسية، فيقول: "فأما حق سائسك بالسلطان فأن تعلم أنك جُعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان، وأن تخلص له في النصيحة وأن لا تماحكه وقد بُسطت يده عليك فتكون سبب نفسك هلاكه. وتذلل وتلطف لاعطائه من الرضى ما يكفّه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله. ولا تعازّه ولا تُعانده فانك إن فعلت ذلك عَقَقته وعَققت نفسك فعرّضتها لمكروهة وعرّضته للهلكة فيك، وكنت خليقاً أن تكونَ معيناً له على نفسك وشريكاً له فيما أتى إليك، و لا قوة إلا بالله". تتوسع الرسالة في الحقوق الفردية الشخصية فتؤكد حق الملك، وحقوق الرحم متفرعة عنها حقوقاً كثيرة، هي حق الأم والأب والولد والأخ، ويربطها بالحقوق الاجتماعية، "حق مولاك المنعم عليك وحق مولاك الجاري نعمته عليك، ثم حق ذي المعروف لديك، وحق المؤذن، وحق إمام الصلاة، والجليس، والجار والصاحب". يختتم الإمام رسالته الإنسانية بحقوق الاقليات غير المسلمة، ويقدم نموذجاً للتعايش بين الوحدات الاجتماعية غير الإسلامية في المجتمع الإسلامي، ويهدف من خلالها منع مشاكل التمييز واللامساواة والقهر الديني أو القومي أو الثقافي، مما حافظ على هوية الاقليات ووجودها في الشرق الإسلامي طيلة مئات السنين الماضية. ويمكن ملاحظة ذلك من قراءة الخارطة الاثنية والدينية للعالمين العربي والإسلامي، فما زالت شعوب غير عربية تعيش في منطقة الشرق، كالترك والفرس والأكراد والبلوش والبربر والهنود، وما زالت الأديان السماوية وغير السماوية تتعايش مع المسلمين، ما يدل على روح التسامح التي تسمح بالتنوع القومي والعرقي والديني، فلم يجر تعريب الشعوب المسلمة. وعبرت الرسالة عن تلك الحقوق بحق أهل الذمة كما يأتي: "وأما حق أهل الذمة فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده وتكلهم إليه فيما طلبوا من أنفسهم واجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسول الله حائل، فانه بلغنا أنه قال: من ظلم معاهداً كنت خصمه فاتقِ الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله". لم تنشأ هذه الأفكار ذات الطبيعة الإنسانية تلقائياً، وإنما هي متأصلة في الدين، ومبنية على احترام الإنسان وتكريمه، والاهتمام بتطويره عبر تهيئة الأجواء السليمة للعيش في حياة كريمة. وعلى رغم قلة المؤسسات الإسلامية المتخصصة في حماية حقوق الإنسان في الحقب الزمنية الماضية إلا أن هذه المدونات صاغت مفاهيم إنسانية ونصوصاً تشريعية أخذت دورها الفاعل في حياة المسلمين عبر العصور، وساهمت في تطوير وارتقاء مبادئ إنسانية عامة. وهذا ما يحفزنا لجمع وتوثيق كل هذه النصوص التي تعنى بحقوق الإنسان، وتبويبها وتهيئتها للباحثين والعلماء، إضافة الى خلق مناخ فقهي - أكاديمي لدراستها واشتقاق أو صياغة المفهوم الإسلامي لشرعة حقوق الإنسان. الوثيقة السابعة: حقوق الآدميين عند الماوردي لعل ما تميز به الشيخ أبو الحسن الماوردي توفي450ه في كتابه "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" هو الوضوح والدقة في الشرح والتنظير للنهج السياسي للخلافة الإسلامية، إضافة الى ما أورده من تعليمات ملزمة على صاحب السلطة القيام بها لتحقيق مصالح العباد، ضمنها في فصل بعنوان "الأمر بالمعروف في حقوق الآدميين ضربان عام وخاص". يفصل الماوردي المسؤوليات الملقاة على عاتق المحتسب في كيفية التعامل مع المصالح الاقتصادية والمدنية للعباد، ويعقد فصلاً آخر في الواجبات الاجتماعية للمحتسب، كالعناية بالايامى والقصر والنساء فأسماه "الأمر بالمعروف فيما كان مشتركاً بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين". ويشرح في فصل ثالث "النهي عن المنكرات" ويقسمه إلى ثلاثة أقسام: أحدها ما كان من حقوق الله تعالى. والثاني ما كان من حقوق الآدميين. والثالث ما كان مشتركاً بين الحقين. أما النهي عنها في حقوق الله تعالى فعلى ثلاثة أقسام: الأول يتعلق بالعبادات، والثاني يتعلق بالمحظورات، والثالث يتعلق بالمعاملات، وفيها تفصيلات متفرعة في كل قسم. أما الكتاب الآخر للماوردي "نصيحة الملوك" فهو عبارة عن تأصيل لمقاصد القيم والمفاهيم الإسلامية في ما يخص حقوق الإنسان. لقد تم عرض مفاهيم حقوق الإنسان واحترامها في العديد من الوثائق بصورة متداخلة مع النظرية العامة للحكم، ولنوعية العلاقة بين السلطة الحاكمة والأفراد، وبحثت بإسهاب في الفكر الفلسفي- السياسي الإسلامي، سواء المنطلق من نظرية الشورى التي أنتجت الخلافة الإسلامية، أو نظرية الإمامة عند المسلمين الشيعة. وخضعت مبادئ حقوق الإنسان للتقنين في مباحث علم الفقه، وحتى في كتب الأخلاق الساعية لتنمية الوعي الضميري والالتزام المعنوي، باعتباره يشكل حالياً أحد أهم الأسس في الالتزام وتفعيل مبادئ حقوق الإنسان. ولم تطرح حقوق الإنسان كموضوع مستقل بحد ذاته، وكتب العديد من المؤلفات والرسائل بعد انفصال المؤسسة السياسية عن المؤسسة الدينية إبان الحكم الأموي، بحيث اصبح الدين وتشريعاته خاضعة لسلطة الدولة الأموية، مستبعدة الفقهاء الذين انشغلوا بتدوين الحديث النبوي والتوسع في الفقه الإسلامي. وقد حفلت المكتبة الإسلامية بمصادر عدة تستحق الدراسة والتأمل، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر رسالة الإمام جعفر الصادق في تفسيره لمعنى الولايات، وما أورده ابن خلدون في فصل خاص في مقدمته "ان الظلم مؤذن بفساد العمران". وكذلك شرح عدد من علماء المسلمين وبالتفصيل الأبعاد الفلسفية من وجود الإنسان، كما نراه في التراث الفلسفي الذي خلفه ابن سينا والكندي والفارابي وابن رشد وابن حزم والمقفع والترمذي، وآراء الإمام علي بن موسى الرضا عند توليه ولاية العهد في خلافة المأمون العباسي حول إقامة العدل ومنع الظلم والجور عن الرعية، كما دوّن في وثيقة العهد التي حررها الخليفة المأمون، وكتب في ظهرها الإمام الرضا الخطوط العامة لولايته ومسؤولياته. وكتب السيد المرتضى 355-435ه، في مسألة العمل مع السلطان، وتقسيم السلاطين، وكيفية العمل معهم، ووردت مفاهيم متعلقة أو مقاربة لحقوق الإنسان كأدب الحوار، وقيمة الإنسان وحريته، ونبذ التكفير والدعوة للتسامح، فيما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك ابن أبي الربيع. وأسهب أبن الأزرق في شرح أركان الملك القائم على أربع دعائم، هي إقامة الشريعة وإقامة العدل والرعاية السياسية، ومشورة ذوي الرأي والتجربة وبذل النصيحة. وكتب عدد من الباحثين الإسلاميين أخيراً عن حقوق الإنسان وتأصيل قيمه، مستندين إلى الفقيه المالكي الشاطبي المتوفى 790ه في كتابه "الموافقات"، والمتضمن مباحث حول مقاصد الشريعة أو ضرورات المصالح. * باحث عراقي.