ترك المحقق والباحث في اللغة والشعر خليل ابراهيم العطية 1936 - 1998 سبعة عشر مؤلفاً وكتاباً محققاً، بعد حياة اكاديمية وعلمية مفعمة بالنشاط والحيوية. مات ببغداد ومرت ذكراه بهدوء، ان لم يكن النسيان بعينه. فالعراق في ازمته الحادة لا يسعه تذكر علمائه في حياتهم، فكيف يكون التعامل مع من ماتوا، ومن غير الشاكرين للوضع السائد. والدكتور العطية واحد من كوكبة منسية، فلا غرابة ان تصدر "مجلة اتحاد المؤرخين العرب" ببغداد عدداً خاصاً عن مؤرخي العراق وتهمل المؤرخ عبدالرزاق الحسني، ليحل محله من لا يُعرف له مؤلف بالتاريخ. ومثل هذا السلوك بات مألوفاً، فعلم التاريخ وكل العلوم امست بلا راعٍ صاحب كفاءة، فالاخير بين تحيّن فرصة العمل بالخارج او ان يعيش الاحباط بالداخل. كل مجالات الثقافة والعلم في حالة تراجع، ليس هذا فقط، بل العراق بالكامل ملقى بين فكين شرسين: الحصار والسلطة، يسند احدهما الآخر. في هذه الظروف رحل اللغوي العطية، وقبله رحل منسياً الناقد علي جواد الطاهر بعد ان باع مكتبته ليحصن بها نفسه من ذل السؤال، وقبل ذلك اختفى أثر اللغوي مهدي المخزومي، ومات اللغوي هاشم الطعان وكان من يوم وفاته نسياً منسياً. جاء تكريم ابراهيم العطية، بذكراه الاولى، من خارج العراق، حينما اصدرت له دار المعارف للطباعة والنشر التونسية كتابه "التركيب اللغوي لشعر السياب" في مئة وستين صفحة من الحجم الصغير. وبحثه هذا من بحوث كثيرة خصت شعر السياب، بلغت اكثر من مئة وخمسين، لكن القليل منها خص التركيب اللغوي. قال العطية حول صلة اللغة بالشعر: "الشعر تجربة وجدانية عميقة، تتصل باللغة بوشائج متينة، وترتبط ارتباطاً عضوياً بأعمق مكونات الامة: تأريخها العريق، عاداتها، تقاليدها، فكرها الخلاق، مستخدمة من اللغة ادق ادواتها، واكثرها ابانة عن الاشعاع الحي بهذه المكونات، واشدها افصاحاً عن نبل المقاصد والمرامي". ولا ادري ان ظلت مكونات الامة التي اشار اليها العطية حاضرة في تجارب الشعر المعاصر، ومنها تجربة السياب. وحتى قديماً كان الشاعر يمثل واقعه البدوي او الحضري، فليس هناك من امة متكونة حتى تحضر بهذا الحضور، وترتبط "عضوياً بأعمق مكوناتها"، ولكن للمؤلف حجته ورأيه. وفي الكتاب نفسه، ميّز العطية بين الشعر والنثر باشارته الى احتشاد الصوت والبعد الفكري والعواطف في ابداع الشاعر، مع استخراج الكلمات من معانيها المحنطة الى معان تنبض بالحياة. اما الناثر فيخدم اللغة ويثريها "حين يضعها في علاقات جديدة قادرة على منحها طاقة جمالية ليست في حالة عزلتها او في تركيبها التقليدي كما قال جان بول سارتر". كما اختلف الشعر عن النثر في ان الاول حُرر من قيود اللغة، النحو الصرف، وقُيد الثاني بها. ولولا هذه الحرية، حسب المؤلف، ما امكن للشعر ان يكون اداة من ادوات التعبير الفني. تابع المؤلف حرية الشعراء في استخدام اللغة، من حذف او زيادة حرف او اعراب خارج المألوف. لخصت تلك الحرية بالعبارة الشائعة: الضرورة الشعرية، جمع اصولها ابو سعيد السيرافي ت 368ه في كتابه "ضرورة الشعر". وهي على سبعة اوجه: "الزيادة والنقصان والحذف والتقديم والتأخير والابدال وتغيير وجه من الاعراب الى وجه آخر على طريق التشبيه، وتأنيث المذكر وتذكير المؤنث" ضرورة الشعر: رمضان عبدالتواب، ص34. ومن الامثلة التي ساقها العطية في الفصل الاول "الشاعر واللغة" قول زهير بن ابي سلمى: "ثم استمروا وقللوا الى منزلكم/ ماء بشرقي سلمى فيد او رك"، وهنا زاد الشاعر حرف الكاف على رك الماء. وفي قول قيس العبسي: "ألم يأتيك والانباء تنمي/ بما لاقت لبون بني زياد" والشاعر ترك الياء في يأتيك، على رغم الجازم لم. وترك الواو بعد الجازم في قول ابن العلاء: "هجوت زبان ثم جئت معتذراً/ من هجو زبان لم تهجو ولم تدع". في "السياب والدارجة" ذكر المؤلف ما وظفه السياب من اللغة العامية العراقية، ومنه ما قصد الى استخدامه، ومنه ما دخل شعره تلقائياً، بقدر ما يتعلق ذلك بصباه ومكانه الذي ولد فيه. كما ذكر العطية مؤثرات المكان في شعر السياب، فالنخلة عنده الأم الحنون، فقد اكثر من ذكرها وذكر تفاصيلها كالجذع والسعف، مثل قوله: "عيناك غاباتا نخيل ساعة السحر"، وقوله: "ومعبر من جذوع النخل غيره/ مر الليالي بايحاش وايلاء".وفي "الصرف في شعر السياب" ذكر العطية تجاوز الشاعر على اللغة، بشرعية الضرورة الشعرية، وفي هذا الامر كان السياب مولعاً بالتضعيف والتخفيف من ذلك استخدامه حطّم المضعف و"حطم الثلاثي، كقوله: "حطّمت قلبي في الهوى سفهاً"، وفي التخفيف كقوله: "راحت يشح بها الآكام منصلتا/ فالصم تجرح والكذان محطوم". وفي الجمع اجاز بدر ما لا تجيزه قوانين النحو، فقد جمع فقاعة فقائع مثل قوله: "تراقصت الفقائع وهي تنفجر انه الرطب"، وجمع غراب غرب كقوله: "وأسراب غرب من الطير سود/ نواعب تنذرني بالشقاء". وفي "النحو في شعر السياب" وجد العطية تمتع السياب بحرية كبيرة، مثال ذلك قول الشاعر: "في المقهى المزدحم النائي، وعيوني تنظر في تعب، في الاوجه، والايدي، والارجل والخشب، والساعة تهزأ بالصخب، وتدق، وسمعت ظلال غناء اشباح غناء". وفي هذه القطعة الصغيرة استخدم السياب شبهة الجملة عدة مرات منها: في المقهى كخبر مقدم دون مبتدأ. والسياب مولع بهذا الضرب من الجمل المبدوءة بالجار والمجرور، او باشباه الجمل، ولكن بلا مبتدأ مؤخر. وبعد فصل "دلالات الالفاظ في شعر السياب"، يأتي العطية على الفصل قبل الخاتمة بعنوان "فذلكة القول" وفيه ما أثر في الشاعر من الثقافة الاجنبية، ومن ذلك "أثرى شعره بالرموز والاساطير وان كان ارهقه في بعض الاحيان بها"، وقد بان ذلك بوضوح في ديوانه "انشودة المطر". اضافة الى هذا الكتاب الثري ألف العطية في اللغة كتاب "ابو زيد الانصاري وكتابه الهمز"، و"في البحث الصوتي عند العرب". وفي تحقيق مخطوطات اللغة وجمع الشعر كان له: "الفاظ الشمول والعموم" لأبي علي المرزوقي، "بقية التنبيهات على اغلاط الرواة" لعلي بن حمزة البصري، "التقنية في اللغة" لأبي بشر اليمان البندنيجي، "خلق الانسان في اللغة" لمحمد بن حبيب، "ديوان عمرو بن قميئة"، "ديوان لقيط بن يعمر الأيادي"، "ديوان ليلى الاخيلية"، "ديوان المزرّدين ضرار الغطفاني"، "ديوان مسكين الدرامي"، "شعر نهار بن توسعة"، "العنوان في القراءات السبع" لأبي طاهر اسماعيل بن خلف الاندلسي، "الفرق في اللغة" لقطرب و"فعلت وأفعلت" لأبي حاتم السجستاني. ابدى خليل العطية تفوقاً في التحقيق وجمع تراث الاقدمين من لغويين وشعراء، وكان سبيله الى ذلك الأمانة العلمية، ليس في تعامله مع النصوص فحسب بل في تأكيد حقوق القدماء. من ذلك على سبيل المثال ما ورد في "مجلة العرب" الصادرة بالرياض: "جاء خليل العطية ليكشف لنا ما قاله الجوهري صاحب الصحاح غير صحيح وان لغوياً آخر هو البندنيجي سبقه الى ابتكار هذا النظام ترتيب الكلمات على القوافي في معجم التقفية، الذي تولى تحقيقه ونشره، وكان البندنيجي اسبق وفاة من الجوهري بمئة وست عشرة سنة". وبهذا الاكتشاف كشف العطية ان ابن منظور في "لسان العرب" والفيروزأبادي في "المحيط" والزبيدي في "تاج العروس" قد ساروا على منهج البندنيجي لا على منهج الجوهري. ولنفترض ان الجوهري ت 393ه قد توصل الى نظام التقفية بنفسه، على غير طريقة الفراهيدي في قاموس العين على سبيل توارد الخواطر، وهذا مستبعد، فعليه ان يذكر فضل غيره، لكن الانتحال كان طريقاً سالكاً. وما عاب على الجوهري ليس استخدامه ذلك النظام، وإنما ان ينسبه الى نفسه، فقد أشار في مقدمة صحاحه انه مبتكر له بقوله: "اما بعد، فإني قد اودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة، التي شرّف الله منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطاً بمعرفتها، على ترتيب لم أسبق اليه، وتهذيب لم اغلب عليه في ثمانية وعشرين بابا" الصحاح، مصر، 1956. ان فات الجوهري ذكر قاموس البندنيجي، او تعمد ذلك، فلا عذر لكاتب المقدمة احمد عبدالغفور العطار، وكاتب مقدمة المقدمة عباس محمود العقاد، والمحتفي بالكتاب بكلمته التي ألقاها في اللجنة الثقافية المصدرة طه حسين. وبهذا كم من الحقوق ما زالت مهدورة على رغم ان القدماء توقفوا عند السرقة الادبية والعلمية وعابوا اصحابها؟ وخاتمة القول، لقد شكل الاخوان ابراهيم وجليل العطية ثنائي بحث وتحقيق وهما امتداد لتلمذة وصحبة طويلة لدى المحققين الاخوين عواد، كوركيس وميخائيل. ومن الوفاء ان يجمع جليل العطية تراث استاذه كوركيس عواد بسبع مجلدات، صدر اخيراً عن دار الغرب الاسلامي، وهناك ما ينتظر من تراث اخيه ميخائيل عواد. * باحث عراقي.