يا نسيم السحر! أين مأوى الحبيب... أين؟ وأين منزل القمر الساحر الذي يقتل عشاقه... أين؟ والليل مظلم، والوادي أمامك آمن... فأين نار الطور، من موعد الرؤية واللقاء... أين؟ وكل آتٍ الى هذه الدنيا فهو زائل وعليه طابع الخراب... وأهلٌ للبشارة من يعرف أسرار الإشارة... فأين نحن؟ وأين المليم اللاهي... أين؟ أين هذا القلب الحزين المأخوذ بالدوار... أين؟ واعتزلنا القلب ولزم الأركان، فأين محراب الحبيب... أين؟ العيش بغير الحبيب لا يكون ميسراً، مهيأ، فأين الحبيب... أين؟ فيا "حافظ" لا تتألم من رياح الخريف اذا عصفت بخميلة الدهر! هذا هو حافظ، الشاعر الفارسي الملهم الذي مزج العشق والعرفان معاً فصاغ شعراً تغنى به العشاق، كما ترنم به العرفاء، ليس في ايران الماضي، بل على مدى السنوات التي عاصرها بشعره وأحاسيسه ولم يعشها بوجوده وجسده. ذلك العملاق الذي أصبح ديوانه، كما قال الدكتور طه حسين في سنة 1944 "زهرة الشعر الفارسي" على مر العصور. الشاعر الحي الذي احيا القلوب بشعره وعرفانه وايمانه. عاش حافظ في مدينة شيراز، جنوب غربي ايران، في القرن الثامن الهجري. وكان اسمه شمس الدين محمد المعروف ب"خواجه" حافظ الشيرازي، ولُقب بعد ان انتشر شعره في ذلك الزمان ب"لسان الغيب وترجمان الأسرار" لما كان في شعره من كشف للأسرار العرفانية وقراءة شعرية للمفاهيم الغيبية. وقد اعتزل - كما يقال - لفترة من الزمن بعد ان فشل في حبه لفتاة لم يوفق في الوصول اليها. وكان لهذا الاعتزال، الذي اقترن بالدعاء والضراعة والسير الى الله، الأثر الكبير في بلورة روح الشاعر وتحليقه في آفاق الملك والملكوت والغيب والشهود. وقد لقن بأبيات صاغها حافظ، وأصبحت مفتاحه الذهبي للولوج الى عالم الأسرار وعالم الشعر وعالم العشق وعالم العرفان. يقول: ليلة امس، في وقت السحر، أعطوني النجاة من الألم والويل وناولوني ماء الحياة، وسط هذه الظلمات من الليل فأخرجوني عن نفسي، بما انبعث من ضياء ذاته وناولوني خمراً في جام يتجلى فيها بصفاته فيا له من سحر مبارك ويا لها من ليلة سعيدة ليلة القدر هذه التي منحوني فيها البراءة الجديدة. وفي تلك الليلة المباركة، التي يقول عنها الشاعر انها ليلة القدر لما حصل فيها من خير وسعادة، أُخبر بأنه سيكون شاعراً ذا شأن مؤيداً بعالم الغيب. وتحققت آثار الغيب واستجيبت الدعوات، ونال الشاعر مرتبة العشق الروحي وأُلهم بنور الأنوار وخرج من اعتزاله ينشد ذلك الشعر الذي سحر القلوب وبهر العقول وزرع العشق والعرفان في كل من قرأه أو سمعه... حتى وان لم يسبح في أعماقه أو يتحسس لطائفه واسراره. عشق الناس ما قاله حافظ من الشعر وراحوا يرددونه على مرّ العصور، وأصبح ديوانه الكتاب الأدبي الأول الذي دخل بيوت الايرانيين ولم يخرج منها حتى الآن. انه زهرة الشعر التي لم تذبل ولن تذبل. وشعر حافظ هو قمة الغزل الفارسي، لم يسبق له مثيل ولم يأت له شبيه. اخترع ثوبه الذي لم يبل، وكشف عن آفاقه النائية، وتغلغل في اعماقه وصاغ وجوده وابدع كيانه، وأدخل فيه فلسفته التي دار محورها حول "العشق"، العشق الذي لم يخلُ من الحبيب، و"الشباب" الذي لم يتركه الجمال، و"المشيب" الذي لم ينته من الأمل والهدوء، و"القلب" الذي لم يدخله النفاق والرياء، و"العرفان" الذي حلق في سماء العز واليقين، و"الانسان" الذي صار خليفة للرحمن. هذه هي فلسفة حافظ التي صاغها بأشعاره وأحاسيسه وغزلياته. والذي يفهم في فلسفته ويغور فيها - كما يقول حافظ نفسه - سيكلمه حافظ بنفسه، ويهمس في أذنيه ويقرأ عليه آيات العشق والعرفان ويأخذ بيده الى اعماق السماء بعد ان يخرجه من طيات الأرض والتراب. ومات حافظ ولم يذهب بعد، مات جسده ولم تمت روحه، صمتت حنجرته ولم يخفت صوته، خرج لكنه دخل القلوب، دخل التراب ولكنه أشرق على العالم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. والديوان الذي يقرؤه الناس اليوم، وهو الأكثر قبولاً بين المطلعين والأدباء، يرجع أصله الى القرن الخامس عشر أو السادس عشر الميلادي للشارح البوسنوي "سودي" الذي شرح ديوان حافظ باللغة التركية، ونشره في القرن السابع عشر الميلادي. وقد اعتمدت هذه النسخة في الشرق والغرب وطبعت عشرات المرات في ايران، وقد طبعت نسخة "سودي" حتى الآن مرتين في المانيا والنمسا وأربع مرات أو اكثر في تركيا وثلاث مرات في مصر ومرة واحدة على الأقل في بلاد الهند. وفي الغرب، أول ما طبع ديوان حافظ كان بين سنتي 1854 - 1856 في مدينة ليبزغ الالمانية. اما في تركيا فقد طلع سنة 1255 ه، وفي مصر سنة 1250 ه، وفي الهند سنة 1791، وفي ايران سنة 1257ه، في مدينة تبريز. وقد ترجم هذا الديوان الى العربية الدكتور ابراهيم الشواربي معتمداً على النسخة المطبوعة في 1306 ه في ايران والتي ترجم منها 496 من الغزليات الموجودة في هذا الديوان مستثنياً المثنويات والرباعيات الموجودة لحافظ في هذه النسخة. والأصل في ترجمة الدكتور الشواربي انها منثورة لا تتقيد بأي من القيود، والحقيقة ان نقل الشعر شعراً الى لغة أخرى أمر عسير وقد يفقد الشعر صورته الجميلة التي كتبت باللغة الأم، وان كان التقارب بين الأدب العربي والأدب الفارسي كبيراً لم يفترق على مدى الدهور. غير ان بعض غزليات حافظ الشيرازي، كما يقول الشواربي، كانت تقع من نفسه موقعاً مهماً وتأثر بها تأثراً خاصاً فكان يرددها في صدره فتخرج موزونة يمكن تسميتها "نظماً" أو "شعراً" وقد أورد هذه القطع المنظومة ضمن هذه المجموعة المترجمة من الغزليات، ولكنه قرنها بترجمة نثرية اعتبرها وحدها العماد في المقابلة بين الترجمة والأصل الفارسي. طبع هذا الديوان أخيراً في ايران سنة 1999، وقامت بطبعه مؤسسة "مهر انديش للنشر" بالتعاون مع "مؤسسة الرازي" في دبي وظهر بشكل جميل وجذاب في 365 صفحة من القطع الكبير. وتولت "مؤسسة بوك اكسترا العالمية" للنشر والتوزيع في لندن. الليلة "ليلة القدر" كما يقول أهل "الخلوة" يا رب! في أي الكواكب يكون تأثيرها السعيد؟! - وقد اخذت القلوب في "الحلقة" تردد ذكر "يا رب!؟ يا رب!؟" لكيلا تصل أيدي "من لا يستحقون" الى خصلة من شعرك - وأنا الذي قتلتني غمازتك العميقة الجميلة أجد آلافاً من الأرواح تحت أطواق رقبتك الممتلئة - وفارسي جميل، يقف القمر حاملاً "مرآته" أمام وجهه وتاج الشمس العالية موطئ لنعل جواده - فانظر الى ضياء عارضه، فالشمس المتقدة يزداد لهيبها كل يوم، شوقاً الى ضياء وجهه - وإذا لم أترك شفة الحبيب الحمراء ولا كأس الخمر فمعذرة أيها الزهاد!؟ فهذا مذهبي!! - وكيف أزامل "سليمان" عندما يُسرجون له جواد "الصبا" ومركبي ليس إلا نملة بطيئة السير؟! - وحبيبي، بغمزات عينيه يضرب بسهامه خفية في قلبي ولكن ابتسامة صغيرة من بين شفتيه فيها القوت لروح "حافظ" - فيا ربي! أي طائر عالي المشرب، قلمي هذا وماء الحياة يقطر من "منقار" بلاغته!! * * * - لا تبتعد عني... بربك... فأنت النور لعيني وأنت الراحة لروحي والمؤنس لقلبي الخائف المضطرب!! - والعاشقون لا يمتنعون عن التمسك بأذيالك لأنك أنت الذي مزقت أقمصة صبرهم!! - وإني أدعو الله ألا يصيبك سوء من عين خطك فإنك قد وصلت الى غاية الحسن في استراق القلوب...!! - ويا مفتي الزمان لا تمنعني عن عشقه وإني ألتمس لك العذر اذا فعلت... لأنك لم تره! - ويا حافظ: إن هذا التأنيب الذي كاله لك الحبيب ربما كان سببه أنك تجاوزت بقدمك حدّ سجادتك!! * * * * الاشعار الواردة هنا كلها من ترجمة الدكتور الشواربي.