لم تخلُ انتخابات نيابية في مصر من السياسة، منذ التحول الى التعدد الحزبي العام 1976، مثلما خلت الانتخابات الاخيرة التي أجريت على ثلاث مراحل بدأت في 18 تشرين الاول اكتوبر وانتهت في 14 تشرين الثاني نوفمبر 2000. ووصفها بعض المراقبين بأنها اقرب الى انتخابات محلية أكثر منها نيابية، في إشارة الى ان ما عنى به الناخبون ومعظم المرشحين لم يتجاوز مشكلات ومطالب محلية صغيرة مثل رصف طريق أو إصلاح ترعة أو بناء جسر أو تشغيل متعطلين أو خدمات أخرى تعليمية وصحية وغيرها. ويعبر هذا الوصف عن أحد أهم أنماط التصويت في العملية الانتخابية الاخيرة، وهو المتعلق بالخدمات التي يفترض ان يؤديها اعضاء المجالس المحلية لا المجالس النيابية. غير أن وصف الانتخابات بأنها محلية لا يغطي نمطاً آخر للتصويت برز واضحاً ومؤثراً بقوة في كثير من الدوائر الانتخابية ذات الطابع الريفي، وهو ما يمكن أن نسميه تكتلات قروية وشبه قروية. فهذا النمط ينطوي على نوع من العصبيات القائمة على ولاءات شديدة الضيق ترتبط بانتماء الى قرية ودعم مرشحها في مواجهة مرشح قرية أخرى. وتدل المتابعة الدقيقة لأنماط التصويت في الانتخابات النيابية المصرية الاخيرة الى صعوبة فهم كثير مما حدث فيها وإدراك مغزى نتائجها، من دون الوقوف امام هذا النمط التصويتي الذي أكد شيوعه موت السياسة في الشارع المصري، كما كان لهذا النمط الأثر الأكبر في ضعف النتائج التي حققتها الأحزاب السياسية 8.38 في المئة للحزب الوطني قبل عودة المنشقين عليه الى صفوفه، و6.1 في المئة لحزب الوفد و3.1 في المئة لحزب التجمع ونصف في المئة للحزب الناصري. وإذا كان نمط التصويت القائم على تكتلات قروية أدى الى إضعاف الأحزاب فقد نتج ذلك اصلاً من ضعف اداء هذه الأحزاب وعجزها عن الوصول الى الناس، سواء لاختلالات في داخلها أو لقيود مفروضة عليها. فقد ظلت محصلة ضعف الاداء الحزبي تتراكم على مدى نحو ربع قرن، ولولا اسلوب القائمة الحزبية النسبية الذي اجريت على اساسه الانتخابات في عقد الثمانينات، لربما تأكد عجز الأحزاب المصرية مبكراً. ففي انتخابات 1984 لم يكن مسموحاً للمستقلين عن الأحزاب بخوضها، الامر الذي فرض عليهم الانضمام شكلياً في الغالب الى احد الأحزاب. وفي انتخابات 1987 لم يكن هناك سوى 48 مقعداً برلمانياً للمستقلين عن الأحزاب مقابل اربعمئة مقعد للقوائم الحزبية. وعلى رغم العودة الى اسلوب الانتخابات الفردي العام 1990 لم تدخل احزاب المعارضة الاختبار في تلك الانتخابات لأنها قررت مقاطعتها وكانت هذه هي الانتخابات التي شهدت بداية التحول باتجاه صعود دور المستقلين عن الأحزاب، بمن فيهم المنشقون على الحزب الوطني في غياب معظم الأحزاب التي قررت مقاطعتها. واقترن ذلك ايضاً ببدء تكريس الطابع المحلي - الخدماتي للانتخابات من ناحية وظهور إرهاصات التكتلات القروية كنمط تصويت بارز من ناحية أخرى. ومثّلت انتخابات 1995 نقلة مهمة في الاتجاه نفسه، ومهّدت لتبلور وتكريس هذا النمط في انتخابات 2000. * قرى أكثر من عائلات: وهكذا أصبح نمط التكتلات القروية هو أكثر الانماط التقليدية تأثيراً على الانتخابات في الدوائر الانتخابية الريفية وشبه الريفية، بل امتد أثره الى بعض الدوائر الحضرية في مدن عدة من بينها القاهرة عبر الهجرات الريفية، كما سنرى لاحقاً. ويجوز النظر الى هذا النمط التصويتي باعتباره امتداداً وانقطاعاً في الوقت نفسه لدور العائلات في الانتخابات المصرية، فهو امتداد من حيث أنه ما زال هناك دور لعائلات كبيرة ذات تاريخ حافل بالعمل النيابي لفترة طويلة، وظل بعضها يتوارث المقعد النيابي منذ اواخر القرن التاسع عشر أو اوائل القرن العشرين، ويظهر ذلك بوضوح اكبر في محافظات الصعيد في جنوب مصر. وهو انقطاع - ايضاً - لأن عائلات كثيرة لم تستطع الحفاظ على نفوذها ومقاعدها النيابية في ظل التغيير الاجتماعي الواسع النطاق الذي حدث على مدى نصف القرن الاخير، كما أن ما بقي منها قوياً نافذاً لم يعد في إمكانها إنجاح مرشحيها من دون الاعتماد على تكتل انتخابي، خصوصاً أن معدلات التصويت في الدوائر الريفية وشبه الريفية تتميز بارتفاع نسبي مقارنة بالدوائر الحضرية. ففي الاخيرة او معظمها يكفي الحصول على ما بين الفين وثلاثة آلاف صوت للفوز أو لضمان الدخول في جولة ثانية إعادة ولكن في معظم الدوائر الريفية، يلزم ما يتراوح بين عشرة الاف وخمسة عشر الف صوت لهذا الغرض. ويستحيل أن توفر عائلة بمفردها، أيا يكن حجم نفوذها، مثل هذا العدد من الاصوات، لذلك فهي تحتاج إلى تكتل انتخابي يضم ناخبين من قريتها وقرى مجاورة ومن البندر المركز شبه الحضري الذي تتبعه القرى في المدينة. كما أن عوامل التغيير الاجتماعي ضربت التماسك العائلي وأضعفت نفوذ شيوخ العائلات على شبابها او كبارها على صغارها. وصار انقسام العائلات بسبب رغبة اكثر من عضو من اعضائها في الترشح ظاهرة متنامية، وفي هذه الحال يحتاج كل مرشح من العائلة الى بناء تكتل خاص به يضم قسماً منها ولكنه يعتمد في الاساس على ناخبين من قريته وقرى مجاورة. وهذا هو ما يعرف بالتكتل القروي الذي صار نمطاً تصويتياً واسعاً في الدوائر الريفية وشبه الريفية، وصار في إمكان شخص معروف في قريته ومحيطها ان يبني مثل هذا التكتل إذا كانت له علاقات واسعة جيدة وسمعة طيبة وتطلق عليه صفات مثل "جدع" و"شهم" ويمكن الاعتماد عليه، فضلاً عن ضرورة ان يخلق ثقة في شخصه. وعندئذ يتكتل حوله ابناء القرية وجوارها ويصبح مرشحهم لا لانتماء سياسي ولا لموقف تجاه قضية عامة ولا حتى طلباً لخدمات محلية في الاساس، ولكن لأنه "ابن بلدنا". والأكيد انهم ينتظرون منه أن يعمل على حل مشكلاتهم ومساواة قراهم بأخرى في الدائرة الانتخابية أو في المحافظة يرونها أكثر تميزاً من حيث ما تتمتع به من خدمات، ولكن، ليس هذا هو العامل الأول وراء تأييدهم له، وإنما تعصبهم له وثقتهم في شخصه وفي أنه لن يخونهم إذا فاز. وربما يكون هذا المرشح مستقلاً أو عضواً في حزب من الأحزاب، فهذا التكتل القروي لا يعنيه الانتماء السياسي وإنما الشخصي الذي يحظى بالتأييد بغض النظر عن انتمائه، وهذا يفسر لماذا يرفض الناخبون مرشح الحزب الوطني وينتخبون مستقلاً ينتمي الى الحزب نفسه على رغم إدراكهم أنه سيصبح هو ممثلاً لهذا الحزب في البرلمان بعد فوزه، فهم ليسوا معنيين بالأحزاب، وحتى إذا كان الشخص الذي يتكتلون وراءه مرشحاً لحزب معارض، لن يختلف الامر كثيراً. فالتكتل القروي كنمط تصويتي سائد في الدوائر الانتخابية الريفية يقوم على الاشخاص والعصبيات والروابط التقليدية والانتماءات الاولية، لا على الأحزاب والروابط الحديثة والانتماءات السياسية والفكرية. وفي ظل سيادة هذا النمط، كانت الصورة الغالبة في هذا النوع من الدوائر الانتخابية كالتالي: مرشحون يمثل كل منهم تكتلاً من قرى عدة وربما جزء من البندر او المركز الذي يقدم بدوره عدداً آخر من المرشحين يسعى كل منهم الى دعم من إحدى أو بعض القرى. ولأن نظام الانتخاب في مصر يقضي بأن يمثل كل دائرة انتخابية نائبان احدهما من الفلاحين والعمال والآخر من الفئات. فالمعتاد ان يبحث المرشح حائز صفة فلاح عن مرشح صفته "فئات" للتحالف معه بحيث يتبادل كل منهما اصوات تكتلهما الانتخابي القروي وهكذا. وفي بعض الاحيان تنطوي هذه التحالفات على خداع إذ تكون هناك تحالفات ظاهرة واخرى تحتية. وفي ظل وجود عدد كبير من المرشحين، يحدث تفتيت للأصوات، مما يحول دون حصول المرشح على الغالبية اللازمة للفوز 50 في المئة " 1 من المشاركين ولذلك وصلت نسبة الإعادة في جولة ثانية الى حوالى 90 في المئة من الدوائر الانتخابية، وفي هذه الجولة قد تكون الإعادة على المقعدين المخصصين للدائرة بين اربعة مرشحين حصلوا على أعلى الاصوات، أو على أحد المقعدين إذا تم حسم الآخر في الجولة الأولى. * عصبيات الصعيد: وتأخذ التكتلات القروية طابعاً خاصاً في جنوب مصر الذي تتسم فيه القيم التقليدية بقوة تفوق مناطق الدلتا وقناةالسويس والساحل الشمالي، ولذلك تنطوي هذه التكتلات على نوع من العصبيات التقليدية تظهر في مختلف المحافظات بدءاً من الفيوم والمنيا الى اسيوطوسوهاجوقنا وصولاً الى اسوان، ونجم الخطأ الأكبر للحزب الوطني في هذه الانتخابات عن سوء قراءة الخريطة الاجتماعية في كثير من الدوائر. فقد تم تجاهل قدرة عائلات معينة على بناء تكتلات قروية قوية بهدف استعادة مقاعد نيابية فقدتها مثل عائلة حماوي في سوهاج، كما جرى إغفال أثر التغيير الاجتماعي في داخل قبائل وعشائر ذات نفوذ خصوصاً في محفاظة قنا او عائلات كبيرة في محافظات اخرى. فقد تمرد شباب في هذه القبائل والعائلات على الوجوه القديمة التي احتكر بعضها المقاعد النيابية منذ الستينات والسبعينات، ونجد مثالاً بالغ الدلالة على هذا في دائرة اطسا بمحافظة الفيوم، إذ اكتسح الشاب المستقل حسن أدريس عمه مرشح الوطني سيد أدريس، وحصل الفائز على 11 الفاً و529 صوتاً مقابل 4360 صوتاً فقط للخاسر. ولكن في الحالات التي تم فيها إدراك أثر هذا التغيير لم يكن اختيار بعض المرشحين الجدد موفقاً، ولذلك واجه الحزب الوطني مشكلات كبيرة بعضها لا حل له، فعلى سبيل المثال، كان عليه أن يحافظ على التوازن القبائلي في محافظة قنا، ولم يكن هناك سبيل لذلك غير اختيار مرشح الفئات من قبيلة ومرشح الفلاحين والعمال من قبيلة اخرى. ولكن في حال اجراء جولة ثانية إعادة بين مرشحين للحزب الوطني، وآخرين من المستقلين سواء المنشقين عليه او غيرهم، يحدث تحالف على اساس قبائلي بين مرشح الحزب والمستقل الذي ينتمي الى القبيلة نفسها ضد المرشح الآخر للحزب والمستقل اللذين ينتميان الى قبيلة غيرها. فعلى سبيل المثال، رشح الحزب في دائرة قنا الاولى محمود النجار من قبيلة الأشراف والعمدة أحمد الخديوي من قبائل العرب، وفي الجولة الثانية تحالف النجار مع المرشح المستقل رفاعي عبدالوهاب ابن قبيلته الأشراف بينما تحالف الخديوي مع المرشح المستقل أحمد الجبلاوي ابن قبائل العرب. وقام بعض شيوخ القبيلتين برعاية اتفاق التحالف، الذي تضمن فرض غرامة مالية كبيرة على من يخالف ما تم التفاهم عليه. ولكن على عكس ما حدث في قنا، لم يراع الحزب الوطني تمثيل القبائل في اسوان، فمن بين ستة مرشحين، في هذه المحافظة، جاء اربعة من قبائل الجعافرة وحدها، ولذلك لم يفز إلا مرشح واحد منهم في دائرة إدفو، فيما فاز مستقلون من الجعافرة وآخر من العبادية وثالث من النوبة ومثله مرشح لحزب التجمع. وفي بعض الأحيان كان انقسام العائلات الكبيرة مرتبطاً ببناء تكتلات قروية او شبه قروية متنافسة، وغالباً ما جاء ذلك على حساب مرشح الحزب الحاكم في الصعيد، وخصوصاً في محافظة سوهاج. فعلى سبيل المثال، أضر انقسام عائلة عبد الآخر في دائرة طهطا مرشح الحزب الوطني حلمي عبد الآخر الذي اقام تكتلاً ضم عدداً من القرى والقليلة من عائلات البندر، بينما اعتمد منافسه المستقل الفائز مدحت عبد الآخر اساساً على البندر وبعض القرى. وكان دور البندر حاسماً في هذه الدائرة الانتخابية لانه وفر النجاح كذلك لمرشح التجمع حسن المهندس على المقعد الثاني، وفي حالات اخرى، كان البندر وبعض القرى، كما حدث مثلاً في دائرة المنشأة بسوهاج، إذ تنافس مرشح الوطني احمد ابو رحاب والمستقلان خليل شريف وعبدالحكيم الحسن، وفاز الأخير. ولكن حدث العكس في دائرة جهينة القريبة، حين فاز مرشح الحزب الوطني محمد علام اعتماداً على تكتل قروي واسع وخسر منافسه الذي اعتمد على البندر، وكذلك الحال في دائرة المراغة، إذ فاز مرشح قرية شندويل وقرى مجاورة لها كمال الشندويلي على مرشح البندر صفوت القاضي. وليس أدل على أن التكتلات القروية لا تفرق بين حزب وآخر من سقوط اثنين من ابناء العمومة احدهما مرشح الحزب الناصري سامح عاشور والثاني مرشح الوطني فاروق عاشور في دائرة ساقلته في سوهاج، فقد قام تكتل قروي ضد عائلتهما التي تعتمد على البندر، وعندما سقطا جاءت الجولة الثانية صراعاً محض قروي بين اربعة تكتلات. * تكتلات الدلتا: ولا يختلف هذا النمط في جوهره عندما ننتقل الى محافظات الدلتا، كل ما هنالك ان العشائر والعائلات اقل حجماً وعصبية بشكل عام. ولكن ربما يكون هنالك فرق يتمثل في أن الدلتا أكثر قابلية من الصعيد لخلق تكتلات قروية مصنوعة من أعلى بفعل السلطة، فإذا أراد وزير ذو نفوذ قوي ان يستغل سلطته في بناء تكتل قروي لمصلحة أحد المرشحين تكون امكانات نجاحه اعلى في الدلتا او بعض مناطقها. فعلى سبيل المثال في انتخابات 1995 تمكن وزير الداخلية السابق حسن الألفي من بناء تكتل قروي في دائرة ابو كبير بمحافظة الشرقية لدعم شقيقه صالح الألفي الذي انكشف في انتخابات 2000. ومع ذلك يصعب معرفة ما إذا كانت الاصوات التي حصل عليها صالح الألفي عام 1995 حقيقية تعبر عن تكتل بالفعل أم نتيجة تزوير في صناديق الاقتراع لأنه لم يكن هناك إشراف قضائي كامل في الانتخابات السابقة. ومع ذلك يجوز القول إن التكتلات القروية كنمط تصويتي تتسم بمرونة في الدلتا أكثر من الصعيد. وبسبب هذه المرونة تستطيع الأحزاب السياسية ان تتعامل مع التكتلات القروية في الدلتا بفاعلية اكثر من الصعيد بشرط ان تكون احزاباً حقيقية لها وجودها في الشارع، كما ان الهامش السياسي اوسع نسبياً في الدلتا مقارنة بالصعيد. فالأحزاب المعارضة قدمت مرشحين اكثر في الدلتا، وكذلك تيار الاسلام السياسي الاخوان المسلمين الذي تأكد مجدداً ضعفه الشديد في الصعيد، وأدى ذلك إلى اضفاء صبغة سياسية باهتة على الانتخابات في بعض دوائر الدلتا التي تنافس فيها مرشحون حزبيون، كما كان الدين السياسي حاضراً بشكل ثانوي في الدوائر التي ترشح فيها الاخوان المسلمون الذين حصدوا الجزء الاكبر من مقاعدهم في محافظات الدلتا وخصوصاً الغربية 5 مقاعد والشرقية 3 مقاعد والجيزة مقعد. وظهرت في بعض محافظات الدلتا مشكلة عدم كفاية الوقت في الدوائر التي شهدت إقبالاً واسعاً على الاقتراع في ظل حدة المنافسة بين التكتلات القروية وتسببت هذه المشكلة في نتائج غير مطابقة للواقع عندما عمل الوقت القصير في غير مصلحة بعض المرشحين وتكتلاتهم القروية. * "الصعايدة" خارج الصعيد: أدت الهجرة المتزايدة من الريف الى القاهرة والاسكندرية ومدن منطقة قناةالسويس الى ترييف اجزاء يعتد بها من هذه المدن، وبالتالي انتقل نمط التكتلات القروية اليها بأشكال مختلفة. وتعتبر تجمعات القادمين من صعيد مصر أهم هذه التكتلات، وظهر اثرها في انتخابات 2000 في عدد من الدوائر الانتخابية في القاهرة والجيزة مثل التبين وروض الفرج وإمبابة وبولاق الدكرور. ويمكن رصد ثلاثة انماط لتصويت ابناء الصعيد في المناطق الاخرى: اولها تكتلهم وراء مرشح معين عندما يكون عددهم قليلاً أو غير كافٍ لحسم التنافس. وثانيها انقسامهم وفقاً للعائلات التي ينتمون اليها عندما يكون عددهم كبيراً ومن عائلات محددة. وثالثها انقسامهم وفقاً للمحافظات. ففي دائرة التبين، حدث استقطاب بين اهل المنطقة الأصليين الحلاونة الذين اعتمد عليهم مرشح الحزب الوطني الفائز محمد علي محجوب وابناء الصعيد الذين دعموا منافسه المستقل مصطفى بكري. أما في دائرة روض الفرج فكان التنافس بين ابناء الصعيد على اسس عائلية، لأنهم ينقسمون وفقاً لانتماءاتهم العائلية الى عدد من التكتلات ابرزها الكوامل والربابنة والغنايم، ووصل الأمر الى حد أن مرشح الحزب الوطني عبدالرحمن راضي استدعى رؤوس عائلة الربابنة من الصعيد، عندما دخل جولة ثانية، خوفاً من تسرب أي صوت لمنافسه. أما الانقسام بحسب المحافظات فنجد مثالاً بارزاً له في الدائرة الثانية بمحافظة السويس، إذ يوجد تكتلان اساسيان لأبناء الصعيد احدهما يضم أبناء قنا والآخر أبناء سوهاج. وهكذا لم يكن غياب الأحزاب في الانتخابات المصرية الاخيرة مجرد تعبير عن ضعف موقت في أدائها او خلل مرحلي. فقد ارتضى الغالبية الساحقة من الناخبين انماطاً انتخابية تقليدية كان اكثرها بروزاً نمط التكتلات القروية الذي يمثل مفتاحاً اساسياً لفهم هذه الانتخابات ومغزى نتائجها. ولن يكون ممكناً تجاوز هذا النمط التقليدي الذي يعتمد على أكثر الانتماءات ضيقاً، إلا عبر عملية تحديث سياسي طويلة الأمد تنهض بها أحزاب أكثر جدية وأوفر معرفة بالواقع واهتماماً به. * كاتب مصري. مساعد مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية والاستراتيجية.