عقد سامي سكر 40 عاماً عزمه بعد ليلة طويلة لم تختلف عن سابقاتها، وقرر التوجه الى مدرسة قلنديا الاساسية التي تديرها "وكالة الاممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" اونروا لتقديم طلب نقل أولاده الثلاثة ياسر 10 أعوام وتامر 12 عاماً وسامر 14 عاماً الى مدرسة مماثلة في العاصمة الاردنية عمّان. وقال: "ثلاثة من أولادي اصيبوا حتى الآن في المواجهات. لا اريد لهم ان يصبحوا مقعدين أو معاقين". لسامي ستة أطفال، خمسة أولاد وبنت واحدة، أكبرهم في السابعة عشرة من العمر وأصغرهم عمره سنتين ونصف سنة. ثائر 17 عاماً الابن البكر لسامي وزوجته فاطمة اصيب منذ بدء انتفاضة الحرم مرتين وكسرت رجله خلال المواجهات. العيار الاول اصاب رأسه لكنه اخطأ هدفه، أما الثاني فاصاب رجله اليسرى. وتامر اخترقت رصاصة رجله اليمنى وخرجت من الجهة الاخرى محدثة تفتكاً في عظمة الرجل، وما زال الجبس يلفها منذ اسبوعين. أما الطفل الثالث الذي كانت اصابته "القشة التي قصمت ظهر البعير"، فهو ياسر ابن العشر سنوات الذي اصابته رصاصة مطاط في يده. وأوضحت فاطمة: "ليس بمقدورنا ان نثنيهم عن الخروج والمشاركة في المواجهات. لقد فعلنا المستحيل، لكن لا فائدة. اصبح الامر يجري في عروقهم. اعتقد انه ليس بايديهم ايضا. انهم يرون كل هذا العدد من الشهداء والجرحى، اطفالا ونساء وكبارا وصغارا، فهم الاسرائيليون لا يفرقون بين صغير وكبير. ما الذي فعلته سارة ابنة العامين ومحمد الدرة والطفلة التي لم تر الحياة سوى 25 يوماً، هل كانوا يحملون أسلحة رشاشة او صواريخ او دبابات؟ كلهم اطفال. ما الخطر الذي يمكن ان يحدق بجندي مدجج بالسلاح داخل دبابته من طفل يحمل حجرا صغيرا مثله". وتضيف: "قتلوا اكثر من 30 طفلاً حتى الآن واصيب العشرات باعاقات دائمة. انهم لا يخافون الله. اليس لديهم اولاد أيضاً؟". وتشيح بنظرها نحو شاشة التلفزيون لتصعق بمشهد طفل آخر قتلته القوات الاسرائيلية في يوم سابق وتتمتم: "حسبي الله من اسرائيل". وتضيف: "ابتعنا لهم اتاري لعبة كومبيوترية لنصرف نظرهم عما يدور في الخارج. اجلس معهم ساعات احاول فيها ان احضهم على التركيز على دراستهم، لكن عقولهم ليست في الكتاب بل هناك... في الحجر". ويشكل ثائر "مشكلة المشاكل" لوالديه، والذي منذ ان نجا بأعجوبة من الموت، لا يفكر سوى بالشهادة. وتقول والدته: "فقد بصره موقتاً بسبب الازمة النفسية التي يعاني منها فهو يطرح سؤالا واحدا كل يوم: هل استحق الشهادة ام لا؟ نصحنا الاطباء بإبعاده عن جو المواجهات ولهذا اصررت على اصطحابه معي الى عمان حيث يعيش جده. وضع المخيم لا يساعد أبداً على اي نقاهة نفسية او جسدية فهو يسمع صوت ازيز الرصاص القادم من ساحة المواجهات قرب المطار مطار القدس القريب. وأغلق الباب بالمفتاح لأمنعه من المغادرة، لكني لا اعلم ان كنت سأتمكن من منعه مستقبلا". جلس ثائر بهدوء يوازي صمت القبور وقال في رده على سؤال: "انا لست الاول او الاخير الذي يصاب، وكلنا يعلم عندما يتوجه الى ساحة المواجهات انه اما ان يستشهد او يصاب او ينتصر... الدول العربية تريد دعمنا بالمال، لكن الشعب الفلسطيني ليس جائعاً. لقد شردنا من بلدنا منذ 52 عاماً والحمد لله لم نجع. نريد ان نحرر وطننا". ولم يخف ثائر معارضته لقرار والديه بالذهاب الى عماّن "فقط حتى انتهاء العام الدراسي وسأفعل ذلك من اجل اخوتي الصغار". في مدرسة وكالة الغوث القريبة من منزل سامي، يجلس 800 طالب وطالبة على مقاعد الدراسة صباحاً في صفوف مكتظة يزيد عدد طلاب الواحدة منها عن 40 طالباً. ويتبعهم في ساعات بعد الظهر عدد مماثل لاستيعاب طلاب المخيم الذي يتجاوز عدد سكانه تسعة الآف نسمه. ويوضح مدير المدرسة فتحي حسن الصعوبات التي تواجه طاقم التدريس في محاولاته لدرء الخطر عن الاطفال، ويقول: "المشكلة الرئيسة التي نواجهها هي في نظام الدوامين، فالاطفال يخرجون من بيوتهم قبل ساعة او ساعتين من موعد الدوام الثاني وهنا يجدون الفرصة للمشاركة في المواجهات.. اننا نحاول معهم بكل الوسائل، الا ان هذا الجيل ليس كغيره وهؤلاء الاطفال افقدهم الاحتلال طفولتهم، ويبدو انهم تحدوا الخوف في داخلهم او انهم لا يشعرون به الا بعد ان يصاب احدهم للاسف الشديد". أحمد طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر تبتسم طفولته للحظات ويرد على سؤال: "لا اذهب الى المواجهات لأنهم يطلقون الرصاص علينا، ونحن لسنا متساوين معهم. لو كان معنا سلاح مثلهم لذهبنا". بعد فترة قصيرة ترى أحمد بين الصبية الذين يحاولون تسلق التلة ورمي حجر على الجنود هناك، قبل ان يحتمي بصخرة كبيرة من الرصاص القادم. المواجهات في محيط مخيم قلنديا للاجئين ليست كغيرها من المواجهات التي تشهدها الأراضي الفلسطينية. المشهد يثير الحيرة وربما السخط على هؤلاء الجنود الذين يقفون خلف سياج شديد الارتفاع المحيط بمدرج مطار القدس يشهرون فوهات اسلحتهم الاوتوماتيكية باتجاه صبية صغار، كثير منهم لا يزال يحمل حقيبة مدرسته على ظهره وهو يرشق حجارة من اسفل التلة لا تكاد تصل الى السياج او من يتمترس خلفها يتربص بفريسة جديدة في يومه هذا. المشهد الصارخ لم يرحم 135 طفلاً وصبياً اصيبوا برصاص هؤلاء... والمشهد يستمر.