في أوروبا الآن زمرة من كتّاب الرواية تشكل ظاهرة جديرة بالتوقف امامها. هؤلاء الروائيون دخلوا المسرح الأدبي في الثمانينات ولم يغادروه بعد ذلك ابداً. وحققت أعمالهم على الفور رواجاً عالمياً كما حازت جوائز مرموقة. ونذكر منهم الالماني باتريك زوسكند والدنماركي بيتر هوغ والمجري بيتر استرهازي. الروائي الدنماركي بيتر هوغ من أشهر روائيي شمال أوروبا، وهو معروف في العالم اذ ترجمت اعماله الى اكثر من ثلاثين لغة. ولد هوغ في كوبنهاغن في 17 أيار مايو 1957. درس الأدب المقارن والدراما في جامعة كوبنهاغن، وتخرج منها عام 1984. وقبل ان يكرس بيتر هوغ ذاته للكتابة، مارس اعمالاً مختلفة، اذ عمل في بواكير شبابه بحاراً، ممثلاً، راقص باليه، واخيراً مدرساً للدراما. وكرحالة نشط، قضى هوغ فترة طويلة في ربوع افريقيا وجزر الكاريبي ليشهد بأسى اغلال الفقر والجهل التي لا يزال يرسف فيها ابناء العالم الثالث. الامر الذي دفع هوغ عن قناعة الى انشاء مؤسسة لوولوي في شباط فبراير 1996 والتي تبرع اليها بكامل أرباحه الضخمة من مبيعات روايته الاخيرة "المرأة والقرد" الصادرة في العام نفسه، ومؤسسة لوولوي هذه غير هادفة للربح وتعنى بمساعدة النساء والاطفال في دول العالم الثالث. يذكر ان "لوولوي" كلمة استقاها هوغ من لغة احدى القبائل في شرق افريقيا وتعني حرفياً: "الفضاء المطلق"، كما يفسرها هوغ نفسه، مبادرة مأمولة لتجاوز حدود العالم المعروف. بيتر هوغ انسان دمث ولطيف لكنه خجول يتحاشى المحافل العامة نوعاً ما. معروف عنه حسه القوي بالدعابة على رغم ملامح وجهه الجادة. وهو يعيش حالياً في كوبنهاغن مع زوجته وابنته في شقة صغيرة. له طقس بالغ الصرامة في فعل الكتابة. اذ انه يكتب صفحتين وحسب في اليوم، على مهل وبمثابرة لا تلين وفي محيط يغله الهدوء والسكينة. "لم اكن مهتماً ابداً بما يسمى الموهبة او المقدرة او اي ايحاء آخر بأن الكتابة هبة فطرية"، هكذا يعترف بيتر هوغ، "الفارق بيني وبين هؤلاء الذين لا يكتبون كسباً للرزق هو انه في داخل بعض منا يكون الدافع للكتابة عظيماً لدرجة اننا مهيئون لتحمل أية صعاب، انها لضرورة مطلقة بالنسبة لي ان اكتب كل يوم بنظام لا أحيد عنه قط". ينظر هوغ الى الكتاب على هذا النحو: قنبلة صغيرة مكثفة تنفجر بعنف مفاجئ حينما يتم فضها او بالأحرى قراءتها. "أعشق اللغة المكتوبة"، يقول هوغ، "فالشيء الوحيد الذي يسحرني حقاً هو الكتب. وكثيراً ما اصاب حقاً بالغيرة، حينما اقرأ شيئاً تمنيت لو كتبته انا". ويباغتنا هوغ باعتراف مزعج انه لا يبدع شخصيات من لحم ودم: "ذات مرة قال الكاتب النرويجي جان كيرستاد انه لم يلتق بشخص حقيقي في اي كتاب. هذا قول صائب وعميق. فالكتاب يتشكل من ورق مثقل بالحروف. ما من اشخاص في داخله. هناك حالة مزاجية. بالنسبة لي، الشخصية صوت، يمكنني ان اسمعها وهي تتحدث. لكني لم اتصورها اطلاقاً "لذا يرى هوغ ان السينما تقدم معالجة مادية متحققة لما قد يبدو عليه ذلك الصوت. بخمسة أعمال وحسب، حقق بيتر هوغ لنفسه مكانة بارزة ليس فقط على خارطة الادب الدنماركي وانما كذلك على خارطة الادب الاوروبي المعاصر. تبدو رواياته الاربع ومجموعته القصصية الوحيدة متميزة الى حد بعيد، وان كانت جميعها تتقاطع في تيمة او لحن اساسي وهو نقدها بعيد المدى للحضارة الغربية، وتعريتها للظواهر السلبية والاوضاع الفاسدة في المجتمع الاوروبي. فربما تكون زاوية الرؤية مختلفة من عمل الى آخر، لكنها جميعها تتخذ الوجهة الموضوعية نفسها. اذ يركز هوغ بؤرة ابداعه على الثمن الباهظ الذي تكبدته الدول الاوروبية - ومنها بالطبع الدنمارك - كنتيجة حتمية لعملية الحضارة. ثمن التقدم، ان شئنا القول. يبني هوغ صرحه الروائي بأسلوب سلس، واضح، منضبط يخلو من الحشو والتعابير المجازية الجزلة والتلاعب بالالفاظ، ويقترب كثيراً من الايجاز الملحمي والموضوعية الحسية. انه بالأحرى اسلوب اشبه بالحكايات الفولكلورية بجوها المدهش الذي يتنافى مع المنطق احياناً. منذ أعوام طويلة، وصفه اكثر من ناقد أوروبي بارز بأنه كاتب ما بعد حداثي، بمعنى انه كاتب تجريبي وانتقائي يتمتع بحرية اختيار واختبار اي جنس روائي من دون الشعور بأنه مقيد بأي اسلوب او سياق تاريخي معين او اي حدود ادبية صارمة. لكن تصنيفه هذا قد يكون في غير محله. ففي الواقع، يعد بيتر هوغ نفسه حكاء شعبياً اولاً، وهي ميزة يراها جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة الانسانية. ويؤكد بيتر هوغ تأثره الملموس بالروائي الايطالي امبرتو ايكو، والروائي التشيكي ميلان كونديرا، فضلاً عن تجربة "الواقعية السحرية" في أدب أميركا اللاتينية. دلف هوغ الى المشهد الأدبي الدنماركي في العام 1988 بروايته الاولى "تاريخ الاحلام الدنماركية" والتي استغرق اربعة اعوام في كتابتها. هذه الرواية الناضجة على نحو لافت هي اقرب الى ان تكون المدونة الفنتازية لتاريخ الدنمارك في المئة وخمسين سنة الماضية عبر ثلاثة اجيال: الاجداد - الآباء - الابناء. اي انها تغطي النسيج الزمني المتصل في تاريخ الاسرة لدى اغلب الناس، وان كان الجيل الثالث الذي ينتمي اليه بطل الرواية لا يشغل سوى صفحاتها الاخيرة. "حكايات الليل" التي تبعتها في العام 1990 تحمل بين دفتيها مجموعة من القصص الطويلة عن جيل الأجداد الحالمين الذين صمموا على تغيير المجتمع الدنماركي، فتميط اللثام عن احلامهم المتفائلة وتخلص الى التوكيد الكوني على الحب. كما يقدم هوغ فيها خلاصة تعليقاته على الفلسفة والأدب داخل النسيج القصصي. أما روايته الثانية والاشهر "احساس سميلا بالثلج" فصدرت أواخر عام 1992، وباعت اكثر من 350 ألف نسخة فور صدورها في الدنمارك وحدها. وسرعان ما حصدت جوائز محلية وأوروبية مهمة، كما انها نالت نصيب الأسد من الجوائز التي استحقها هوغ كلها، مثل جائزة المفتاح الذهبي من جمعية كتاب ادب الجريمة باسكندينافيا لأفضل رواية في شمال أوروبا، وجائزة النقاد، والأكليل الذهبي لكاتب العام من نادي بائعي الكتب. كما حصل هوغ بفضلها على منحة تفرغ لمدة ثلاثة سنوات من الصندوق الدنماركي لمنح الفنون في العام 1993. والترجمة الانكليزية لهذه الرواية اثارت ضجة في الاوساط الأدبية الاميركية واختارتها مجلة "تايم" كأفضل رواية لعام 1993، وتصدرت هناك قوائم الكتب الأكثر رواجاً لشهور في طبعتها الفاخرة، وتم تحويلها فيلماً ناجحاً عام 1997 بعدما تلقفتها هوليوود باهتمام واسع قبل ان تصل بالفعل الى ارفف المكتبات. هذا الفيلم الذي يحمل عنوان الرواية نفسها قامت ببطولته النجمة المعروفة جوليا اورمون، وجابريل بيرني، بإخراج بيلي اوجست. يعترف هوغ بأن بذرة الرواية أتته في حلم! "اجل، احساس سميلا بالثلج هو الكتاب الوحيد الذي كتبته بسبب حلم. ابصرت فيه الفراء ناصع البياض للدببة القطبية يكسو جبالاً عدة في لمعان مبهر. وأدركت ان هذا له علاقة بكتاب كان ممكناً بالنسبة إلي ان ابدعه". في هذه الرواية، ينعكس نقد الحضارة على صور العالم المختلفة، اذ يقدم بيتر هوغ سيناريوهات الكارثة التي تكابدها اوروبا المعاصرة، فهو يتخذ من الدنمارك في عهد الرأسمالية الراهن وروسيا في ظل البريسترويكا والجلاسناست وجرينلند تحت الحكم الذاتي، امثلة ثلاثة لافتة على ما يدور في أوروبا الآن. بطلة الرواية سميلا جاسبرسن، امرأة في السابعة والثلاثين، نصف دنماركية نصف جرينلندية، اي انها ذات خلفية ثقافية مزدوجة، درست تكوين الجليد وشاركت في بعثات علمية الى المنطقة القطبية الشمالية. ممزقة هي بين ثقافتين، تعيش وحيدة، منطوية، وترتبط فقط في علاقة انسانية حميمة بصبي جرينلندي اسمه اسياس يقطن الحي نفسه. ذات يوم يقع اسياس من على سقف مغطى بالثلج ويلقى حتفه. تعتبره الشرطة حادثاً عرضياً كي تغلق القضية على عجل، لكن سميلا التي تدرك قدرة اهل جرينلند على التنقل عبر الثلج منذ نعومة اظافرهم لا تصدق هذا التفسير، مقتنعة ان ثمة شيئاً عفناً يفوح من الحادث، وبالطبع، يتبين انها محقة! ولكي تكشف ملابسات الحادث الغامض تخترق سميلا عالم الاجرام والمجتمع الراقي في كوبنهاغن على حد سواء. وتكتشف سميلا شيئاً فشيئاً صفقات مريبة حول المنطقة القطبية، وبالاحرى تزيح الستار عن النزوع الليبرالي للجشع. واللافت ان سميلا هي الشخصية النسوية الاكثر تحققاً وتمرداً، والوحيدة التي تلعب دور الراوي في سائر اعمال هوغ. سخطها وعزمها يتواشجان مع شعورها الحميم نحو الطبيعة كما هو مذكور ضمناً في عنوان الرواية. الثلج مادة جوهرية في الكتاب، اذ ان هوغ مفتون بالثلج بمظهره الخادع وملمسه المراوغ كبعد عميق للتجربة الانسانية. بعد رائعته "احساس سميلا بالثلج"، اتحفنا بيتر هوغ بروايتين. في روايته الثالثة "سكان الحدود" 1993 أو "أطفال الخط الأخير" بحسب الترجمة الفرنسية لها، يوجه هوغ نقده الحاد الى سياسات التعليم الدنماركي ابان السبعينات. اما روايته الاحدث "المرأة والقرد" 1996 فهي امتداد طبيعي في المضمون لأعماله السابقة. من جديد، يتناول هوغ الشقاق بين الطبيعة والحضارة، والتحالف بين العلماء ورجال البيزنس بعد ان سبق وتناولهما في "احساس سميلا بالثلج" على وجه التحديد. الرواية مرنة جداً في اسلوبها. ويستفيد هوغ من الاسلوب السينمائي حيث يصور حركات القرد العفوية على الاخص بدقة عدسة الكاميرا، معتمداً على التكثيف والمعطيات الحسية والافعال ذات الدلالة الحركية. وفي مقابلة اجرتها معه "المجلة الادبية" الدنماركية أخيراً، يقول بيتر هوغ: "ثمة شيء مفقود عادة في المناقشات الطويلة حول الأدب، الا وهو عنصراللهو. اذا كنت كاتباً، فأنت تعتبر على الفور شخصية جادة، لكن بالنسبة إلي ليس من فارق كبير فعلاً بين بيتر هوغ الذي كنته في الخامسة من عمري وبيتر هوغ في الخامسة والثلاثين، اظن اني اتقنت بعض الألاعيب والحيل لذا بوسعي ان اواصل اللهو حتى الآن! حتى لو كانت عملية ابداع رواية ليست مماثلة تماماً لخلق عالم من اللهو واللعب". ويفصح هوغ عن مفهومه للأدب: "بوسعك ان تعتبر الأدب كرقص الباليه. راقص يافع يركز في بداياته على التقنية، ولكن بمرور السنين، يطلق التعبير العاطفي ليتألق من خلال التقنية، الأمر عينه صحيح في ما يتعلق بالادب ولعل هذا ما يحدث لي فعلاً ... اما بخصوص مسألة الجنس الروائي، فأنا لا اجلس واقرر نوعاً بعينه. اكتب الاعمال التي اشعر بأنه علي كتابتها، وعادة ما تكون الكتب رداً على ما سبقها". ويقول عن رؤيته لفعل الكتابة: "في البداية تتغير كثيراً ككاتب، وحتى بعد فاصل زمني قصير تفكر باستياء لا، لا، لا. حين تقرأ ما كتبته من قبل، بمرور الزمن تزداد رسوخاً ويصبح سهلاً ان تحتمل قراءة كلماتك نفسها، حتى بعد سنوات طويلة ... الحماسة لا تستحق الكثير. انها كمثل قشة - تتصاعد متماوجة فجأة ثم تتوارى عن الانظار، الانفعال القصير ليس بذي قيمة. لكن ما له قيمة حقيقية هو ما يدوم ... بالطبع ثمة اوقات يخبو فيها اللعب تقريباً، واوقات اخرى يبدو فيها كما حريق الغابة، لكن هذا ليس اساساً لأي شيء، وانما هو بالاحرى شيء عليك ان تتحمله بطول اناة". * كاتب مصري.