لقد تولد عن الانتفاضة الفلسطينية المباركة التي تشرفت بانطلاقها من المسجد الأقصى المبارك وتسميتها باسمه، انطلاقة عربية شاملة أعادت الروح الى الأمة، ومن المؤكد أنها ستكون نقطة تحول في تاريخ العرب الحديث. ولن تتوقف الأقلام عن الكتابة عن الانتفاضة التي شكلت ضوءاً ساطعاً في نفق طال سجن الأمة فيه. مرت على الأمة محن كثيرة، لم تحرك ساكنها، مما أدخل السرور الى أعداء هذه الأمة بنجاحهم في قتل إرادة الأمة ووحدة مشاعرها ومواقفها. بل ان كثيرين من العرب أنفسهم كادوا يقتنعون بذلك ويتصرفون من خلال هذه القناعة. ولقد فات على هؤلاء ان الأمم الحية لا تموت وانما في حاجة الى من يوقظها من سباتها لتعود حية فاعلة، وبخاصة إذا كانت هذه الأمة هي أمة العرب ذات الماضي العريق، والعقيدة الاسلامية التي لا تقبل الظلم ولا تسكت عليه. وإذا كان الانطباع بالسلبية قد ساد عن الأمة قاطبة، فهو عن عنصر الشباب كان أكثر وضوحاً منه عن الآخرين. ذلك أن هذا الشباب قد تعرض لعملية متكاملة مدروسة لتغييب دوره وتخديره بوسائل شتى. واعتقدوا أنهم نجحوا في مخططهم وأن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد ساعدتهم في مهمتهم. فمنذ فتح الشباب الذين هم في سن الثلاثين فما دون، عيونهم فانهم لم يروا إلا الهزائم العربية المتتالية، ولم يعودوا يسمعوا عن العمل المشترك، دعك من الحديث عن الوحدة. وكادت المشاعر العربية الاسلامية المشتركة تختفي أو هكذا تصوروا. بل ان كل بلد عربي تحول الى أمة في ذاته، لا يتحدث إلا عن مصالحه، حتى ولو تناقضت مع مصالح أشقائه. عاش هذا الجيل انتكاسات متتالية أضعفت أو كادت تنهي روابطه العربية الاسلامية، فلم يعد يسمع إلا عن السلام مع اسرائيل مقابل الأرض، أي أن على العرب أن يضحوا بأرضهم من أجل أن يمنحهم عدوهم السلام، عكس ما تربينا وتعلمنا عليه بأن أرض الانسان هي عرضه الذي لا يجب أن يُسلَّم. ولم يعد يسمع إلا عن وجوب العمل لهدم الحاجز النفسي بينه وبين الصهيونية، مع ما فيه بأي حال من الأحوال، بقية ذلك من نسيانه لتاريخه ولجرائم الصهيونية التي لم تتوقف. ثم تتالت اتفاقات السلام الواحد تلو الآخر، وبدأت أعلام اسرائيل ترفع في العواصم العربية، والسفارات تفتح والوفود الاسرائيلية تزور العواصم العربية كوفود وكسياح. وفتحت وسائل الاعلام العربية من صحف واذاعات ومحطات فضائية للاسرائيليين، وراح الاسرائيليون يشاركون في المهرجانات العربية والدورات الرياضية الى جانب المشاركين العرب بل وفي العواصم العربية... وغير هذا كثير. كل ذلك كان يستهدف تطبيع العلاقة وفرض العدو على العرب فرضاً. إن فضل الانتفاضة انها أزالت الغبار عن المعدن الأصيل الذي لا يمكن أن يتغير للشباب العرب والمسلمين، الذي هب هبة رجل واحد من المحيط الى الخليج ليقول للجميع، ان مخططاتكم لم تنجح واننا عرب مسلمون لا نقبل المساس بأرضنا أو بأشقائنا أو بمقدساتنا. وكانت مفاجئة ولكنها مفاجأة سارة للأمة وواعدة لها بمستقبل يليق بمكانتها وتاريخها وعقيدتها، ومفاجأة مخيفة لمن اعتقدوا أنهم قد نجحوا وأنه لم يعد للعرب كأمة وجود وأنهم يستطيعون أن يستفردوا العرب بلداً بعد بلد من دون أن يحرك العرب الآخرون ساكناً. وأكدت انتفاضة الشباب العرب أن أعداء الأمة قد ينجحون بعض الوقت ولكنهم لا يستطيعون أن ينجحوا كل الوقت. الأمر الآخر الذي سلطت الانتفاضة الضوء عليه التأكيد على عدوانية الصهيونية المطلقة والدائمة للعرب، العدوانية التي تشمل الصهيونية بكل أطيافها العلمانية والدينية، اليسارية منها واليمينية، المعتدل منها والمتطرف. قد تختلف أساليب الصهاينة ولكن لا تختلف أهدافهم. ومن حقنا أن نتساءل أين دعاة السلام والتطبيع؟ نوجه السؤال لدعاة السلام والتطبيع من العرب. أوشكت الانتفاضة المباركة أن تنهي شهرها الأول، منذ أن قام الارهابي ارييل شارون بزيارته المشؤومة للمسجد الأقصى المبارك، ومنذ أن قام الارهابي الآخر ايهود باراك باعلان حربه الشاملة التي سخر لها كل آليته العسكرية التي يملكها. ومنذ ذلك الحين لم نسمع عن تظاهرة لمن يسمون ب"دعاة السلام" بل لم نسمع تصريحاً أو احتجاجاً. لقد تخطت عنصرية الصهيونية الشعب الفلسطيني الى فلسطينيي ال48 والذين يحملون جوازات سفر اسرائيلية، ولكن هذه الجوازات لم تحمهم من العدوان الصهيوني. هل هناك من العرب لا يزال يعتقد بأن في اسرائيل معتدلاً ومتطرفاً؟! وهل لا يزال دعاة التطبيع بين المثقفين العرب من هو على استعداد للاتصال ب"المعتدلين" الاسرائيليين والدفاع عنهم؟ لقد وصلت الوقاحة ببعض المثقفين العرب أن تحول الى بوق حين نسمعه أو نراه على شاشات التلفزيون، لا نعرف هل المتحدث عربياً أم صهيونياً يتحدث بالعربية. انها فرصة تاريخية قد لا تتكرر لمن تلوث بالاتصال بالاسرائيليين أو أصابته شظايا التردي العربي أو خالجه شك بصدق نوايا بعض الصهاينة، أو فرض عليه لقاءهم أو الاتصال بهم، أن يستغفر ربه ويتوب الى رشده، ويكفر عن خطئه أو خطيئته، ويعود الى مكانه الطبيعي كعربي مسلم يتحمل مسؤوليته في مواجهة الصهيونية وكشف مخططاتها تجاه أمته ومقدساتها. من دروس الانتفاضة التأكيد على أهمية الاعلام والدور الكبير الذي يمكن أن يقوم به في التعبئة. ولقد شهدت تغطية الانتفاضة نقلة نوعية وبالذات في ما يتعلق بالصورة. وإذا كان تأثير الكلمة محدوداً، فالأمر ليس كذلك بالنسبة الى الصورة التي تصل الى ذهن الانسان ومشاعره أياً كانت مداركه وامكاناته الثقافية. نقول ذلك وفي ذهننا ما قام به المصور البارع الذي لا يقل عمله عن ذلك المواطن الذي يواجه رصاص الجندي بالحجارة، انه ذلك المصور الذي التقط جريمة الصهيونية في قتل الأطفال ممثلين في اغتيال محمد الدرة، وكل الأطفال قتلوا بالطريقة نفسها ولكن لم تتح للمصورين نقل الصورة. ويبدو أن تطور الاعلام لم يعد يمكن الصهاينة العمل بتوصية هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي السابق الذي نصحهم بعدم السماح بتصوير المواجهات بين أطفال الحجارة والجيش الاسرائيلي بعدما التقطت الكاميرات صوراً للجنود الاسرائيليين وهم يقوموا بتكسير عظام الأطفال والشباب الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى. ويسجل للفضائيات العربية انها لعبت دوراً أساسياً في توحيد المشاعر والعواطف والمواقف العربية من الانتفاضة. فهذه الفضائيات لا تعرف حدوداً، وتتحدث بلغة عربية واحدة هي لغة العرب في كل مكان. وكان لهذه الفضائيات دورها المميز عن أي مرحلة سابقة سواء من حيث نقلها المباشر للأحداث، أو برامجها الوثائقية أو الحوارية لتشكل عامل تعبئة وتوحيد للانسان العربي مع شقيقه في فلسطين. ولم يعد من الصعوبة بمكان لصانع القرار العربي أن يعرف مواقف الرأي العام العربي ليتخذه قاعدة لقراراته. ولعل ما قامت به الفضائيات من دور في تلمس موقف الرأي العام من مؤتمر شرم الشيخ الأخير نموذجاً لذلك. وازعم ان هذا التطور الاعلامي الهائل، بالاضافة الى مساهمته في خلق الوعي، وفي توحيد المشاعر والمواقف تجاه الانتفاضة فإنه ذو تأثير أبعد في خلق مواطن مسيَّس من الخطأ تجاهله، أو التعامل معه بالطريقة نفسها التي كانت تتم قبل عصر الفضائيات والمستجدات الأخرى في عالم المعلومات. والأمر هنا لا ينطبق على الجوانب السياسية فقط، بل يتعداه الى وعي وشفافية في الجوانب الأخرى المتعلقة بحقوق الانسان، والجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والنتيجة التي يجب أن يخرج بها الساسة العرب ليس فقط التجاوب مع الرأي العام في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بل يتعداه الى المشاركة الشعبية في صناعة القرار ككل، تجاوباً مع معطيات العصر التي أنهت احتكار المعرفة والمعلومة. واليوم تنعقد القمة العربية بعد طول انتظار، ولم يعد بالامكان الحديث عن مقترحات حول ما يمكن أن يصدر عن هذه القمة من قرارات. بفضل الاعلام وشفافيته، وكسر احتكار المعلومة، تمكن العربي ومن خلال كشف أحد القادة العرب مسودة القرارات، من معرفة الخطوط العريضة لهذه القرارات، وبالتالي فإنها ستكون محل نقاش وحوار. وكل ما نرجوه من قادتنا الكرام أن يضعوا دروس الانتفاضة، وردود الفعل من الرأي العام على مسودة القرارات في الاعتبار، وحينئذ تكون قرارات القمة متجاوبة مع إرادة الشعوب. * سياسي قطري