لا يزال النقاش حول التراث العربي الاسلامي خصوصاً ما يتعلق منه بالانتاج الفكري، مستمراً في الحركة الثقافية العربية الراهنة. واستمرار النقاش المذكور لا يمكن عده بحال من الأحوال من قبيل الترف الفكري ليس إلا، فما زالت الاشكاليات التي تناولها الفكر العربي الاسلامي في مرحلته الوسيطة اشكاليات راهنة، لا سيما ما يتصل بالعلاقة بين الدين والمجتمع. وما قضايا الأصولية والعلمانية أو الأصالة والمعاصرة إلا امتداد لاشكاليات العقل والنقل، أو الجبر والاختيار، أو الحكمة والشريعة، أو العقل والوحي. يكتب وليد نويهض في "الحياة" 2 أيلول/ سبتمبر 2000 متسائلاً: لماذا فشل تيار الفلسفة في الجمع بين الحكمة والشريعة؟ وهل جاء الفشل بعد تراجع تيار الفلسفة في مواجهة تيار الفقه أم أن الفشل سبق التراجع؟ يخلص نويهض الى النتيجة الآتية: "كان تيار الفقه ابن عصره ومسيطراً على لحظته الزمنية، الأمر الذي ساعده على ربط النظرية بالممارسة والفكر بالعمل والصلاة بالفلاح، وهو ما عجز عنه تيار الفلسفة إذ بقي يغرد خارج زمنه ويطير في فضاء نظري لا صلة له بالواقع والحاجات العملية للناس، فتلاشى تأثيره قبل أن يتراجع وفشل في مهمته قبل أن يبدأ نجمه بالغياب من سماء العالم الاسلامي". وكإحدى المقدمات لهذه النتيجة، يرد نويهض كل الآراء والتفسيرات التي تتراوح من نظرية المؤامرة الى دور السلطة في محاربة الفلاسفة الى تحالف الفقهاء والعلماء والقضاة في تشكيل "جبهة متراصة حاربت الأيديولوجيا المركبة من منابت فكرية متنوعة ومتحجرة. ذلك ان السلطة تعاونت في كثير من الأحيان مع أهل الفلسفة لمواجهة شعبية الفقهاء، واستخدمت أفكارهم لقمع المعارضة الجماهيرية التي قادها العملاء. فالسلطة أقرب الى من يطلق باب الشهوة أمامها ولا تميل الى الجهة التي تكبل الأهواء بالحلال والحرام، وان دخول الفقهاء في دائرة السلطة ظاهرة موقتة عموماً تزول بزوال الحاجة اليهم". لا بد من الاشارة بداية الى ان وصف الفلاسفة بمن يطلق باب الشهوة فيه الكثير من التجني على الفلسفة وأهلها، وإنقاص من قيمة اسهاماتهم الحضارية المتعددة فإضافة الى اسهامهم الفكري هناك الاسهامات العلمية خصوصاً اسهاماتهم في مجالي الطب والصيدلة، كابن سينا والرازي وابن رشد وغيرهم. أضف الى ان الكثير ممن اشتغل بالفلسفة كانوا رجالات دين وفقه وقضاء، فقد جمع ابن رشد الى جانب الطب والفلسفة، الفقه والقضاء. فكيف يستقيم لوليد نويهض ان ينعتهم جميعاً بمن يطلق الشهوات ويزين للحاكم محاسن الدنيا، كما أن اطلاق حكم كهذا من شأنه أن يحجب الخلفيات الاجتماعية - الاقتصادية للصراعات الايديولوجية والسياسية في المجتمع العربي الاسلامي الوسيط. أما في ما يتعلق بالعلاقة بين الفلسفة والسلطة: فالفلسفة والسلطة دائرتان متخارجتان، إذ ان السلطة تجنح دائماً للثبات بينما تقوم الفلسفة على المغايرة، لهذا فتحالف السلطة السياسية مع من يكبل بالحلال والحرام هو أمر مبرر من حيث طبيعة السلطة نفسها من حيث هي قسر وإكراه، وهو أكثر منطقية من تحالفها السلطة مع فكر فلسفي حر يعارض الواقع القائم بالمثال، راسماً سبل تغير الواقع للارتقاء به الى مستوى المثال. ولا شك في أن باستطاعة السلطة ان تخضع الرعية لمعادلة الحلال والحرام من دون ان تخضع هي نفسها لهذه القيود. إن سلوك السلطة السياسية حيال رجالات الدين اتسم - ولا يزال - بالازدواجية والتناقض، ففي الوقت الذي تقوم بقمعهم على الصعيد السياسي، تسهم في زرعهم أيديولوجياً، موفرة لهذه الايديولوجيا سبل انتشارها في المجتمع. الأمر الذي يمكن هؤلاء من امتلاك سلطة اجتماعية حتى في الفترات التي تخرج فيها السلطة السياسية من أيديهم. من ناحية اخرى فإن التحالف بين السلطة والفلسفة لم يتجاوز العلاقة الشخصية بين رجل سلطة وفيلسوف ولم تشفع هذه العلاقة للفيلسوف الطرف الأضعف فيها. إذ ان الفيلسوف كان مهدداً في أي لحظة بانقلاب السلطة السياسية عليه، بضغط من رجالات الدين المسلحين بتلك السلطة الاجتماعية وبذاك الجمهور الواسع من المؤمنين. فلم تشفع هذه العلاقة مثلاً لابن رشد فأحرقت كتبه ونفي الى السانه اسبانيا، كما لم تمكن كرسي الوزارة ابن طفيل ان يخوض فيما كانت الشريعة المحمدية قد نهت عن الخوض فيه، فإلى جانب محنة أحمد بن حنبل أيام المأمون المعتزلي مع التذكير ان المعتزلة أنفسهم عارضوا علوم المنطق جنباً الى جنب مع الأشاعرة وأهل السنة، فقد باتت محنة الفيلسوف أمراً مألوفاً في التاريخ العربي الاسلامي. ولعل من المفيد أن نورد النموذج الآتي عن التحالف بين رجالات الدين والسلطة السياسية، هؤلاء الذين يصفهم نويهض، بالأقوى من حيث المنظومة الفكرية: يقول الغزالي الفقيه الشافعي الأشعري في مقدمة كتابه فضائح الباطنية: "أما بعد فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام متشوفاً الى ان اخدم المواقف المقدسة النبوية الامامية المستظهرية ضاعف الله جلالها ومد على طبقات الخلق ظلالها، بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة وأقيم به رسم الخدمة .... حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالاشارة الى الخادم في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية مشتملاً الكشف عن بدعهم وضلالاتهم ... فرأيت الامتثال حتماً، والمسارعة الى الارتسام حزماً"، هكذا يتابع الغزالي لاجماً العوام عن علم الكلام ومبنياً مقاصد الفلاسفة ومن ثم تهافتهم، في محاولة منه لإحياء علوم الدين. هذا كان في المشرق أما في المغرب فيخبرنا أبو القاسم الأندلسي في "طبقات الأمم" عما كانت عليه الحال من اضطهاد للفلاسفة زمن المنصور بن عامر وإحراق كتبهم: "وفعل ذلك تحبباً الى عوام الأندلس ... إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم مذمومة بالسنة رؤسائهم وكان كل من قرأها متهماً عندهم بالخروج من الملة، ومظنوناً به الإلحاد في الشريعة، فسكن أكثر من كان تحرك للحكمة عند ذلك، وخملت نفوسهم وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم". وقبل المضي قدماً، لا بد من التنويه ان ما نعنيه هنا برجال الدين والفقهاء هم تلك الطائفة منهم التي وقفت حيال علوم الأوائل الفلسفة والمنطق تحديداً موقف الرفض والتحريم، كما وقفت حيال التأويل العقلي للشريعة موقف المتمسك بالنص والرافض لتقسيمه الى ظاهر وباطن، أولئك وجدوا في الفلسفة نشاطاً هداماً يتناقض مع الوحي لاعتمادها النشاط العقلي الحر الذي يطالب بإخضاع كل شيء للعقل حتى الشريعة نفسها. وارتأوا ان طالب الحقائق من العقل كحاطب ليل. هذا الموقف الذي عبر عنه هذا النمط من رجال الدين، هو ما يمكن ان نسميه بلغتنا المعاصرة بالأصولية. من ناحية اخرى فعلى رغم التداخلات والتقاطعات التي تقتضيها الحضارة الواحدة بين علم الكلام والتصوف والغنوص الباطني والفلسفة، فإن الفلسفة برزت كمشروع فردي نشأ وتمايز متخلصاً من اشكاليات علم الكلام ومن الصراعات الايديولوجية السياسية نازعاً اكثر فأكثر نزوعاً عقلياً وطامحاً في العقلانية أي في تجذره في المجتمع كاتجاه عام نحو اعتبار العقل معياراً للفكر والعمل. فتأويل الشريعة الذي خضع في الصراع السياسي بين الفرق المتناحرة لخدمة أغراض سياسية منفعية وآنية لم يعد في المرحلة اللاحقة كافياً، اذ برزت الحاجة الى تأويل الشريعة لتتماشى مع العقل. وهذه المهمة نيطت بالفلسفة. ولم يعد الموقف من الشريعة يخضع لمعايير الصراع السياسي المذكور بقدر ما أصبح جزءاً من الموقف المعبر عن رؤية الفيلسوف للعالم. هذا التأويل العقلي رفض من قبل رجال الدين ذوي العقلية النصية. انطلاقاً من الواقع الاجتماعي السياسي لم تستطع الفلسفة الدخول في مواجهة مباشرة مع تلك العقلية النصية المهيمنة فكرياً، إذ كان على الفلسفة باعتبارها علوم الأوائل أي دخيلة على المجتمع العربي الاسلامي ان تبحث لنفسها عن المشروعية في المجتمع. وتم ذلك من خلال محاولة اعادة بناء العلاقة بين الشريعة والحكمة على نحو مغاير لما هي عليه. ولم يكن لهذه المحاولة إلا ان تتم من داخل الدين نفسه صاحب الشرعية الوحيدة في المجتمع من اجل حيازة المشروعية لما هو غير مشروع حتى الآن. انه نوع من الالتفاف على الدين، أي على العقلية الدينية النصية الذي يوفر للفلسفة خياراً آخر غير خيار المواجهة المباشرة. ذلك أن من اختار المواجهة المباشرة منهم حكم على أفكاره مبكراً بانعدام الفاعلية التاريخية. هذا ما آلت اليه حال الرازي والوراق وابن طالوت وغيرهم. من جهة ثانية كان انتاج النص الفلسفي نفسه محكوماً بهذا الواقع، الأمر الذي جعله نصاً مرمزاً متعدد الإشارات والدلالات بدلاً من ان يلجأ الى العبارة التقريرية المباشرة، مما يجعل هذا النص الفلسفي يتطلب مستوى من الثقافة لم يتوافر في جمهور العوام. هؤلاء الذين كانت الفلسفة بالنسبة إليهم مهجورة عند أسلافهم مذمومة بألسنة رؤسائهم وجدوا صعوبة في فهم النص الفلسفي تضاف الى الصعوبة التي واجهوها في الاعتراف بهذا النص وقبوله. وبالمقابل لم يقف الفلاسفة ضد العقلية النصية الرافضة لنهج العقل ممثلة بالفقهاء ورجال الدين - كما حددناهم من قبل - وحسب، بل وقفوا كذلك ضد جمهور العوام جاعلين الفلسفة ميدان الخاصة من دون العامة. وذلك كان رغبة في تجريد الفقهاء من سلاحهم الأقوى الجمهور الذين استطاعوا دائماً تحريضهم على الفلسفة والمشتغلين بها. من هنا اعتبر ابن رشد أن خطأ المتكلمين من معتزلة وأشاعرة كان - إضافة الى فساد تأويلاتهم لأنها لم تعتمد البرهان العقلي - في اطلاعهم العوام على تلك التأويلات. فالراسخ في العلم الذي لا يطمئن الى ظاهر الشرع ويسعى الى التأويل يحتفظ بهذا التأويل حتى لا يفسد على العوام إيمانهم. هكذا ظلت الفلسفة حكراً على النخبة المثقفة وحرمت من امتدادها الأفقي. وعلى هذا لم تفشل الفلسفة في أن توفق بين الحكمة والشريعة إذ أن هذا لم يكن غاية في حد ذاته، فما يبدو على أنه محاولة للتوفيق، اقتضته عملية المواجهة مع النص والعقلية الدينية النصية، فقد أقر الفلاسفة بحقيقتين دينية وفلسفية تعتمد الأولى المعجزة والإيمان وتعتمد الثانية على العقل والبرهان. وفشلت الفلسفة في انتزاع مشروعيتها من الدين وأن تفرض مشروعيتها على المجتمع، وفي بناء "المدينة الفاضلة" التي يستطيع الفيلسوف ان يحيا في ظلها. الأمر الذي جعل الفيلسوف ينسحب تدريجاً من الحياة العامة متوحداً ومنعزلاً مع حي بن يقظان في جزيرة نائية، بعد ان رفض سلامان وقومه طريقتهم في التأويل العقلي واختاروا العيش على ظاهر الشرع. أما القول إن "الفكر العربي الاسلامي في عصره الوسيط وخصوصاً الفلسفي منه، عانى قلة الإبداع وكثرة التأليف وطغيان الانتقائية والتجميعية" فهو أمر ينفي وجود فلسفة عربية اسلامية وسيطة أساساً وهو ما ينسجم مع ادعاءات المركزية الأوروبية وينقلنا الى اشكالية اخرى لا يتسع المجال لها هنا، ولكن يكفي أن نذكر ان فترات الازدهار الحضاري في المجتمع العربي الاسلامي هي تلك الفترات التي ازدهرت فيها الفلسفة وبالمثل كانت لحظة الانحطاط، هي نفسها لحظة موت الفلسفة وانحلالها بعد ابن عربي الى طرائق صوفية عملية خلت من كل ابداع نظري. * كاتب سوري.