لعل الحال التي نعيش فيها - يجب أن نعترف - هي حال انعدام الوزن الحضاري والإستراتيجي معاً، فالمجتمعات العربية لا تفتقر اليوم إلى الإيمان بضرورة "التغيير الجماعي" فحسب، بل إلى أي تصور مشترك لطبيعة هذا التغيير وشكله ووسائل تحقيقه أيضاً. انها حال "الفراغ" الكامل تترك لكل جماعة وفرقة وفئة، أي لكل عصبية طبيعية، أن تفكر في مصيرها وتتصرف به وفق ما تفرضه الظروف، ولا يمكن ان توجد في هذه الحال، استراتيجية فعلية. إن الافعال الجماعية ناتجة، هنا، عن ردود أفعال، أو هي تجسيد لهذه الردود اكثر مما هي ثمرة فعل تأمل في التفكير، في الغايات والاهداف والوسائل، هذا هو مضمون ظواهر الحروب والنزاعات الداخلية ايضاً، فهي لا تعبر عن استراتيجيات واعية بقدر ما تعكس غياب الرؤية الواضحة. إن النزوع إلى الانقسام والتفتت - يجب أن نعترف، أيضاً - داخل كل قطر عربي وبين الاقطار العربية، سوف يستمر ما لم يتكون في "العالم العربي" نفسه مركز ثقل حضاري فعلى، يتيح للجماعات والشعوب فرصاً ل"التقدم" أكثر من الفرص التي يتيحها الالتحاق بالمراكز الاجنبية، ويقدم من احتمالات الترقي الاجتماعي والتفاعل الحضاري لكل فرقة وفئة وفرد، داخل الاقطار العربية، أكثر مما يعد به الخروج عن النظام أو التخلي عن الأنتماءات الوطنية. في جملة، ليس هناك ما يمكن ان يقف في وجه هذا المد - الذي هو تعبير عن حال الانهيار الروحي والسياسي والاستراتيجي، معاً - إلا اكتشاف الناس، أفراداً وجماعات، أن منهج التسليم والاستسلام ل"قانون الغاب" لا يمكن ان يصل بهم إلى الهدف المنشود. وفي كلمة، التغيير. بيد أننا نسارع الى القول بأن التغيير المطلوب، ليس استبدال حكم بحكم، أو نظام بنظام، ولا قلب الأوضاع وتحويلها وفق منطلقات ايديولوجية معينة، بل "خلق" الشروط التي تسمح بإدخال المجتمعات العربية في التفاعل الحضاري المادي والفكري العالمي الراهن، أي: إرضاء الاحتياجات الاجتماعية لجميع المواطنين، من منظورات ومعايير الحياة الدولية. فما يطمح إليه الفرد في كل المجتمعات "الحديثة"، هو الخروج من الهامشية والاشتراك الايجابي في منجزات عصره، إنتاجاً وإبداعاً و- أيضاً - استهلاكا، إذا كان هذا هو الطموح... أي: إذا كان طموح أي شعب في حدود الدولة الحديثة، القطرية في "العالم العربي"، كما في "العالم الثالث"، أن يتغلب على الجهل والفقر والمرض والجوع والتخلف الاقتصادي، والتهميش الاجتماعي والتسلط السياسي، وان يحقق مجتمعا أفضل وفق الكثير من المؤشرات المستخدمة لقياس مدى "تقدم" مجتمع ما أو تخلفه، "إذا كان ذلك كذلك" فهل أن تلك الشعارات المرفوعة والأهداف المنشودة، على ساحة العمل السياسي العربي، كفيلة بتحقيق هذه القفزة في المجتمع!! لنقترب من التيارات الرئيسية الأربعة الموجودة على الأرض العربية، ولنختبر شعاراتها المرفوعة وأهدافها المنشودة بالنسبة الى "الواقع الراهن"، على أن يكون هذا الاختبار وذلك الاقتراب، على هيئة رؤوس اقلام تشير اكثر مما تبرهن على ما نود أن نقوله. * المشروع الليبرالي الذي "يؤكد" أن الفارق بين البلدان المتخلفة والدول "المتقدمة"، هو فارق زمني، وأن مجرد الأخذ بنموذج التنمية السائد في المراكز الرأسمالية "المتقدمة"، القائم على الاقتصاد الحر والخصخصة والمنافسة، بل الاحتكار، كفيل بنقل البلدان المتخلفة إلى مصاف تلك الدول، هل أن هذا المشروع قادر على تحقيق هذه "النقلة" في سياق الاستقطاب الدولي الحاصل الآن؟. الملاحظة هنا، أن السياسة الليبرالية لا تعني الشيء نفسه حين تكون سياسة وطنية، أو حين تكون جزءاً من استراتيجية اقتصادية دولية وسياسة عالمية. إن السياسة الليبرالية - المطلقة - التي تطالب الدول الصناعية اليوم بتطبيقها في الأقطار الفقيرة النامية، لا تهدف في الواقع - إلا إلى فتحها كأسواق جاهزة للإكتساح أمام صناعاتها المتقدمة، وقد بينت مفاوضات ال"غات" 1994، والنزاعات التي رافقتها، إلى أي حد تمارس الدول الصناعية سياسات مزدوجة، فلم يمنعها الحديث الدائم عن ضرورة تحرير الاسواق في البلدان النامية، من الدفاع المستميت عن مصالحها والاحتفاظ بامتيازات خاصة، حينما يتعلق الأمر بمنتوجاتها غير القادرة على المزاحمة الدولية، وهي حالة القسم الاكبر من منتوجات البلدان النامية. وأدت هذه السياسات المزدوجة إلى واقع دولي طريف، أصبحت فيه البلدان الضعيفة التصنيع والمحتاجة إلى السياسات الحمائية لتطوير صناعتها هي المفتوحة، من دون قيود على التجارة الدولية، في حين انتقلت سياسة الحماية تحت غطاء التكتلات الدولية أو مفاوضات "التعرفة الجمركية" إلى الدول الصناعية القوية. صحيح أن السياسة الليبرالية يمكن أن تدفع الى حدوث نوع من التوسع الاقتصادي في البلدان الفقيرة - وقد يحدث هذا فعلا نتيجة تطبيق برامج "التكيف الهيكلي" - لكنه توسع سرطاني، لا يتحقق إلا على حساب تهميش الاغلبية الاجتماعية وتقزيم السوق الوطنية، وحصر القوة الشرائية وتركيزها في شريحة الفئة العليا من السكان، والنتيجة: أنهيار التوازنات الاجتماعية، أي القطيعة المتزايدة بين العامة والخاصة وبين النخبة والشعب، ولا يمكن لمثل هذه القطيعة إلا ان تغذي التوترات، وفي إثرها الحروب والصراعات الاجتماعية. * المشروع الاشتراكي الذي "يرى" أنه يقدم نموذجا نقيضا للنموذج السائد عالمياً، هل ان هذا المشروع قادر على تحقيق نموذجه التنموي انطلاقا من بلد واحد أو من بقعة واحدة من هذا العالم؟. هل انه تجاوز حقاً، في ما حقق - أوتحقق بناء عليه - من تجارب الكثير من المنطلقات التي تمخضت عن المرحلة الرأسمالية، والتي قامت على كثير من الخيارات الخاطئة في عملية التنمية والتحديث؟ الملاحظة، هنا، أن تطور النظام الرأسمالي العالمي وانتقاله الى مرحلة الثورة الصناعية، أو الثورة التقانية والعلمية الراهنة، وقدرة الرأسمالية الهائلة على ان "تجدد نفسها" يطرح ضرورة إعادة النظر في الحدود التاريخية للرأسمالية ونقد ذلك التفاؤل - المفرط - بانهيار الرأسمالية، وانتصار الإشتراكية، انطلاقا من "أطراف" النظام العالمي المتأخرة، إن المرء ليدرك بسهولة أن هذا الطرح المتفاءل ليس سوى صدى من اصداء مقولة سابقة سادت طويلاً، كانت، تؤكد "أن عصرنا هو عصر الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية"، وقد بينت الاحداث انه "الطرح" يحل الأماني والرغبات محل الوقائع والمعطيات. إن الرأسمالية ليست قانوناً واحداً وعاماً عالمياً، يتحكم في العالم والمجتمعات في كل مكان، ولكنها نمط انتاج خاضع في تحققه وأشكال تجسيده لعوامل السياسة والثقافة الوطنية والاقليمية، ولعوامل النزاعات الدولية، ولا بد من الحديث عن الرأسمالية من التمييز بين الرأسمالية كنمط اقتصادي، يستجيب لحاجات تحقيق الحداثة، وبين الرأسمالية كسياسات واعية تعتمد على مبادئ حرية التجارة والسوق وغيرها من المبادئ الأخرى الشائعة، إن الرأسمالية ليست حقيقة قائمة خارج نظم المجتمعات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تحتضنها، ولكنها، على العكس من ذلك تماما، وبالشكل الذي توجد عليه، أي كنظام استقطاب، هي المحصلة الطبيعية لهذه الاستراتيجيات والسياسات والعمليات التي تبلورها وتقوم بها الجماعات والمجتمعات في بحثها عن تحسين مواقعها وتعظيم مكاسبها وتأمين سبل ازدهارها. هذا يعني ان التناقضات ليست موجودة في الرأسمالية أو في نمط الانتاج الرأسمالي، ولكن في هذه السياسة والاستراتيجيات نفسها، ويعني أيضا أنه لا توجد "حتميات" في الصيغة التنموية التي يعرفها العالم والتي تتمثل في القطيعة المتزايدة بين "الشمال" و"الجنوب"، فهذه القطيعة لا تنبع من قوانين توسع الرأسمالية بوصفها قوانين لا واعية، ولا اجتماعية، تخضع لها المجتمعات رغماً عنها، ولكن من توجهات قائمة على اختيارات وطنية وعالمية يمكن الكشف عن مسالبها عبر تحليلها. * المشروع القومي... المتصادم احياناً كثيرة مع الدولة الوطنية العربية القطرية، الذي "يفسر" التناقض والصراع على أنه صراع بين قوميات وأمم، لاغياً بذلك ابعاداً كثيرة أخرى من التناقضات سواء داخل الأمة نفسها أم في ما يتعدى الأمم، هل أن هذا المشروع قادر على تحقيق نموذج تنمية مستقلة متمحورة حول ذاتها القومية متحصنة خلف أسوار أمتها؟ الملاحظ، هنا، أن الحركة القومية - كما هو معروف - راهنت على الانتماء العربي الثقافي والتاريخي، وعلى الاعتقاد بفاعلية هذا الانتماء، في سبيل تجاوز حالات التباعد والتمزق التي تشهدها البلدان والشعوب معا، وذلك خلال الحقبة الطويلة التي أعقبت انهيار "الدولة العثمانية" وقد جسدت الادبيات القومية الكلاسيكية، في حقبة صعودها، هذا الاعتقاد من خلال استعمالها الكثيف لفكرة "المصير العربي الواحد"، ولا يزال "القوميون العرب" يراهنون على إستثارة الذاكرة الثقافية وروح الانتماء الى جماعة تاريخية من أجل الوقوف في وجه تيار التشتت العربي والتفكك الوطني. لكن نتائج هذه الرهانات جميعاً بقيت رغم الجهود الكبرى المبذولة، أقل كثيراً مما كان ينتظر منها، ويبدو لي - كما يبدو للكثيرين - أن وجود "قرابة" ثقافية أو تاريخية "أو: طبقية..." ليس شرطاً في حد ذاته لوجود مصالح مشتركة أو بناء حقل مصالح مشتركة بالضرورة، إذ من الممكن لفئات وجماعات تاريخية أن تكون متماثلة بالتركيب من دون أن يكون لديها أي حافز للارتباط في ما بينها، الدليل على ذلك أن الدولة القطرية العربية لم تعد قابلة ل"النفي"، إنها لم تعد "كياناً مصطنعاً" وليد "التجزئة" بل لقد باتت كيانا نفسيا واقتصاديا، فضلاً عن كونه "حقيقة دولية"، وعلى ما يبدو، فإن درجة التضامن أو، بلغة ابن خلدون، قوة العصبية الطائفية أو الجهوية أوالقبلية أقوى من العصبية الوطنية، وأن فكرة المصلحة الجزئية أو العائلية أعمق من مفهوم المصلحة الوطنية. إن المراهنة الدائمة على أن قيام "نظام عربي" هو وضع طبيعي يكاد يتم لولا مؤامرات الأعداء وقعود العرب عن مصالحهم، لهو أمر يناقض تماماً ما ينضح - عملياً - من ردود الافعال السائدة من دون الانفكاك تماما، كما يعبر الدكتور غسان سلامة، عن اعتبار "الأمة العربية" أمراً طبيعياً، موجوداً في الاحتمال، ينتظر التحقق عندما يثبت فشل مؤامرات الأعداء عليها، فسوف تظل هذه الامة غير موجودة إلا في الذهن والمخيلة، ولسوف تظل "مجرد مشروع يجب بناؤه" لأنه غير موجود ك"حقيقة سياسية" في ذاته ولذاته. * المشروع الإسلامي، الذي "يتفكر" في الدين ولا يحلم إلا بالطاعة القصوى لله والتمسك بشريعته والتضامن في إطار ملته، هل أن هذا المشروع يحتاج الى هذا القدر الهائل من الصراع، أو النزاع السياسي والاجتماعي؟ ألايمكن الوصول الى هذا الهدف من خلال أطر أخرى أقل كلفة من الناحية الانسانية. الملاحظة، هنا، أن ما يدفع الناس الى الصراع ضد الدولة أو النظام أو القوى السياسية الأخرى، هي مصالح سياسية واجتماعية واقتصادية من النوع نفسه والطبيعة عينها، ولاينتقص هذا - قطعاً - من شرعية هذا الصراع، إذ ليست السلطة والمصالح حكراً على نخبة ضيقة، سواء كانت علمانية أم دينية، إن السياسة، بمعنى الصراع من أجل السلطة لتحسين المواقع الاجتماعية، ليست شرعية فحسب، ولكنها مبدأ اساسي لقيام "الأمة" بالمعنى الحديث. وفي غيابها تنحط البنية السياسية العامة بالضرورة الي بنية قطيعية، أو تتصاعد في تفاقم وتكاثرالصراعات الطائفية والأقوامية والجهوية والعشائرية. هذا لا يعني الانسياق في النظر الى الحركات الاسلامية، كما هو سائد أو "مسيد" بالاحرى، كتعبيرات أيديولوجية وتجاهل حقيقتها الاجتماعية، إذ يمثل "المشروع الاسلامي" في عمقه الحقيقي، في نظري، "الحلم" بإعادة إحياء نظام حركة التحرر الوطني الذي فجرته التناقضات وتجازوه الواقع التاريخي. وهو، بالضرورة مُعرَّض إذا أراد البقاء، في ظل مواجهة الظروف التاريخية والاقليمية والعالمية الجديدة والمختلفة والمنافية تماماً، للاختيار بين تجاوز نفسه ونظرته الاجتماعية والاستراتيجية والتاريخية، أي ل"ثورة داخل الثورة" لا نروم من هذا السرد الاستعراضي لأهم عوامل العطب والاخفاق في ما تعبر عنه الشعارات المرفوعة والاهداف المنشودة لتيارات السياسة العربية الرئيسية، مجرد إحداث المزيد من "الشروخ" في بانوراما إشكاليتها الراهنة، بل على العكس تماماً، التقدم بصورة افضل، نحو التماس بعض قسمات الجواب عن السؤال المشار اليه، والذي يتمحور حول مدى امكان الشعارات المرفوعة والأهداف المنشودة، من جانب التيارات السياسية العربية الرئيسية، في تحقيق قفزة تطورية للمجتمع العربي، في إطار تحولات النظام الدولي الراهن بظروفه وملابساته كافة ؟. ونحن حاولنا - قدر المستطاع - أن نقيم ربطاً بين التفكير في نوع التحديات التي يطرحها هذا "النظام" وبين التفكيرفي ما تطرحه هذه التيارات من خلال واقع كل منها "الراهن" بالذات، وعلى ذلك، نستطيع ان نرتب فرضية للتأمل قوامها المعادلة التالية: إن قدرة التيارات السياسية العربية على مواجهة حقائق التغيير الدولي الجارية، والاجابة عنها بما يحفظ لها الاستمرار والتوازن الذاتي، تساوي قدرتها على "إعادة بناء" نفسها وإعادة تجديد مشروعاتها على قوام جديد يؤهلها لممارسة وظيفة التفاعل الايجابي مع التحولات الدولية وأداء رسالتها في المجتمع العربي. هذا يعني ان عليها - كي تكون في مستوى التأهيل اللازم - ان ترتفع الي مستوى إجراء مراجعة شاملة لفرضياتها ويقينياتها ومعادلاتها الذهنية، وادوات عملها وطرائقه، ونوع صلتها بالجمهور وبالسلطة، أي عليها ان تتفادى - مجدداً - التشريع النظري للنظام السياسي الشمولي، والتوظيف السياسي للمؤسسة العسكرية، والاجترار الذهني - الكسول - للوصفات الفكرية الجاهزة و"المعلبة"، والإنجرار الى التحالف مع السطة ضد المجتمع. باختصار، إنها تحتاج الى ثقافة سياسية جديدة، والى استراتيجية عمل بديلة، بل - ربما - الى.. نخب جديدة. لا نريد ان نقول، فقط إن "ما كان مطروحاً .. لم يعد ممكناً"، لكن، ايضاً، نريد ان نؤكد على مقولة الباحث المغربي الدكتور عبدالإله بلقزيز: "لم يعد من خيار أمامنا سوى ان ندفن موتانا الايديولوجيين، لاتنكراً لهم، وإنما اعترافاً بتاريخيتهم واحترما لها، لقد نزعنا النصوص من تاريخيتها الخاصة. وعشنا فيها، ومنها طويلاً، وأدمنا حقائقها، وقتلنا روح النقد فينا، ففقدنا الواقع وفقدنا النصوص". * كاتب مصري.