حرب فقراء جديدة ربما كانت بصدد الإستعار، في شبه القارة الهندية، اذا ما استفحلت المعارك الجارية حالياً في منطقة كشمير، وتدرجت نحو المواجهة المفتوحة والمباشرة، بين الهندوباكستان، خصوصاً وان فرص الحوار تبدو، حتى اللحظة، معدومة، او في حكم المعدومة. فبين البلدين عداء تاريخي مستحكم، ربما زادت طبيعة الحكمين القائمين، ذلك الذي يغلب عليه القوميون الهندوس في نيودلهي، وذلك الذي يحتل الجيش فيه موقع الأرجحية في اسلام اباد، من مخاطر استشرائه وتفاقمه. أضف الى ذلك ان الطرفين قوتان نوويتان، وان في ذلك ما من شأنه ان يدعو الى بالغ القلق. صحيح ان في ذلك البعد النووي، بالتحديد، ما قد يساهم في استبعاد المخاطر تلك، او ما يدعو الى الحد منها، اذا استلهمنا تجربة الحرب الباردة، حيث حال امتلاك القوتين العظميين آنذاك لأسلحة الدمار الشامل دون نشوب الحرب بينهما، على الأقل على نحو مباشر. ولكن ذلك قد لا يكفي للجزم بأن حيازة ذلك الضرب من الاسلحة، من قبل بلدين مثل الهندوباكستان قد تردعهما عن الحرب، بل هي قد تكون على العكس من ذلك من عوامل المضي فيها، وربما إطالة أمدها. ذلك لا يعني بطبيعة الحال ان البلدين المذكورين قد يلجآن الى الاقدام على استعمال السلاح النووي وعلى تبادل القصف به، فذلك ما قد يدخل في باب الاستحالة. لكن تلك الامكانات النووية التي باتت كل من الهندوباكستان تشتركان، وتتساويان، في امتلاكها، ربما منحت البلدين المذكورين شعوراً بحصانة ترابهما الوطني، واطمئناناً الى امتناعه ومناعته، بما قد يزيّن لهما إطالة أمد المواجهة بينهما في منطقة كشمير المتنازع عليها تلك، الى أجل قد يكون بعيداً. واذا كان يصعب على المرء الجزم باستنتاج كالسابق، فانه قد لا يوجد في منطق النزاع الجاري بين البلدين حالياً ما من شأنه ان يجعله مستبعداً. فالهند تزعم بأن من تتولى ملاحقتهم عسكرياً في جبال كشمير هم من المتسللين الذين لا ينتمون الى الحركات الانفصالية المقاتلة من اجل تحرير تلك المنطقة من السيطرة الهندية. بل هم يضمون جنوداً من القوات الباكستانية، تلك التي لم تكتف، على زعم نيودلهي، بتقديم الدعم المادي واللوجستي والعدة والعتاد. هذا في حين تنكر إسلام أباد ذلك، قائلة أن دعمها لانفصاليي كشمير يتوقف عند الجوانب المعنوية والسياسية. وبطبيعة الحال، تبالغ الهند في اتهام باكستان بقدر ما تبالغ هذه الاخيرة في ادعاء البراءة. اما الأولى، فوازعها في ذلك الادعاء انه ليس هناك من مشكلة كشميرية انفصالية، أي بما هي مشكلة مجموعة سكانية تؤكد تمايزها عن الهند وتسعى الى الاستقلال عنها، وان الأمر لا يعدو ان يكون بالتالي، وفي نهاية المطاف، مسعى باكستانياً يهدف الى الاستحواذ على تلك الأرض. وأما إسلام أباد فهي، بطبيعة الحال، لا تقول الحقيقة عندما تزعم بأن دعمها لانفصاليي كشمير يتوقف عند تقديم دعم سياسي ومعنوي، يريح ضميرها ولكنه لا يغني المقاومة الكشميرية ولا يسمنها من جوع. ويمكن على أساس من هذا الانكار المتبادل، والمتضافر، للخلاف ان يستمر طويلاً وان يتطاول معه أمد المواجهة الجارية حالياً بل وان يستفحل، وان الى حد. واذا كان لا شك في ان الخلاف الهنديالباكستاني الاخير، يشغل العالم ويثير مخاوفه، بالنظر الى ذلك البعد النووي الذي سبقت الاشارة اليه، فان الميل واضح الى اعتبار النزاع ذاك، على الأقل في الوقت الراهن، حرب فقراء، ذات سمة ثانوية، خصوصاً وانها تتزامن مع نزاع ربما عد أكبر اهمية، لأنه يجري في القارة الأوروبية، ويخوضه حلف الناتو، هو ذلك الذي تشهده يوغوسلافيا. ولعل النزاع اليوغوسلافي لا يحظى بأولوية الاهتمام فقط للأسباب الآنفة الذكر، بل كذلك لاعتقاد مفاده ان الأمر يتعلق، في ما يختص به، بحرب مستقبلية، تؤسس للمستقبل، حيث قدمت على انها النزاع الأول، في التاريخ ربما الذي يخاض لأسباب قيمية، وليس بدافع النفوذ او عدا ذلك مما اعتادت الدول الاحتراب من اجله، في حين ان نظيره الباكستاني - الهندي قد يبدو عراكاً من العالم الثالث، حدودياً كلاسيكياً، او هو تعبير عن نعرات فئوية تعود الى ما قبل الحداثة وتمثل بعض رواسبها. واذا ما وجدت مثل هذه النظرة، والأرجح انها قائمة، فهي قد تكون، لا شك عين الخطأ. فالحرب اليوغوسلافية قد تكون حالة شاذة قد لا تتكرر، تستقر بعدها الأحوال على صعيد القارة الأوروبية، على نحو ما وعلى شكل من الأشكال، في حين يمكن للنزاع الهندي - الباكستاني ان يستمر وان يتعقد، وان يكون بداية نزاعات عديدة اخرى، على شاكلته وعلى منواله، تكون من السمات الأساسية للحقبة المقبلة من تاريخ العالم. وربما صح مثل هذا التوقع بشكل خاص على القارة الآسيوية، سواء تعلق الأمر بشبه القارة الهندية او بسواها من المناطق المحيطة والمجاورة. ففي القارة المذكورة قوى عديدة صاعدة، وطموحات امبراطورية بصدد التشكل او الانبعاث، يوفدها سباق على التسلح النووي عز نظيره في بقية ارجاء العالم، وفي كل ذلك ما من شأنه ان يؤسس الى المستقبل: مستقبل توتر لا مستقبل قيم… فقد يكون للمستقبل في احيان كثيرة وجه من الماضي، في أبشع قسماته، وذلك اما يصار غالباً الى نسيانه باسم ذلك التعلق الوثني بفكرة "التقدم" وبأن التقدم ذاك يسير دوماً، وحتماً، نحو الأفضل.