في اطار مشروع انقاذ مدينة فاس المغربية، يجري التحضير لأقامة "الحاضرة الملكية للقرويين" بمنطقة باب المكينة مصنع الاسلحة في عهد الحسن الاول 1873/1894 التي ستكون بمثابة فضاء لاحتضان الانشطة الثقافية والابداعية، ومركزاً للتعريف بمختلف العلوم والفنون والصناعات العريقة. والهدف الاساسي من وراء هذه "الحاضرة" استعادة فاس لمكانتها العلمية وتأكيد بعدها الثقافي واشعاعها التاريخي، وبالتالي تحديث خزانة مكتبة القرويين الشهيرة والمحافظة على ما تكتنره من كتب ومخطوطات، وذلك بانشاء المختبرات المرتبطة بها والمتاحف لعرض نماذج منها، سيما المتعلقة بالعلوم والثقافة والحضارة العربية. والمعروف ان خزانة القرويين التي يمتد تاريخها الى اثني عشر قرناً تضم نحو 8000 من نفائس وذخائر المخطوطات التي كثيراً ما تكون من رق الغزال، وقد ارتبط تأسيسها بجامعة القرويين التي وضعت حجرها الاساس فاطمة الفهرية الثرية المتحدرة من القيروان في تشرين الثاني نوفمبر 859. أما جامعة القرويين نفسها فتعد من أقدم جامعات العالم ان لم تكن أقدمها على الاطلاق، اذا اخذنا في الاعتبار ان جامعة بولون الايطالية بنيت في 1119 وجامعة أكسفورد في 1227 وجامعة السوربون في 1257. وما زالت هذه الجامعة تمثل أحد أهم شواهد مدينة فاس التاريخية العتيدة، وفيها تخرج ابن خلدون، ومنها قصد الادريسي صقلية ليضع لملكها روجي الثاني أول خارطة للعالم، كما درس فيها البابا سلفستر الثاني الذي نقل الارقام العربية الى الغرب. وترجع الثروة المهمة من كتب الخزانة ومخطوطاتها الى عهد الامير ابن يوسف المريني الذي نصب بقاعة الصفارين رفوفاً ضمت أحمالاً من الكتب كانت قد اهديت اليه من الملك الاسباني ذون شانص على إثر الهدنة التي تمت بين المعسكرين المغربي والاسباني عام 1285. وعندما وُلّي العاهل المريني أبو عنان حمل الى الخزانة كل ما عثر أو حصل عليه من بديع الكتب في مختلف الموضوعات. مشروع الصرح الثقافي الجديد قطع مرحلة الاجراءات الادارية والقانونية والعقارية، وينتظر ان تعلن الجهات المغربية المعنية قريباً عن مسابقة دولية لوضع تصاميمه والبرامج المرافقة له، والتي يشترط فيها ان تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات ومميزات المدينة القديمة لفاس بتراثها الحضاري وقيمتها المعمارية، إضافة الى خلاصات الدراسات والابحاث المفصلة التي قامت بها وزارة الثقافة المغربية بالتعاون مع البنك الدولي ومنظمة اليونسكو. وكانت مدينة فاس منذ 1976، حين صنفتها اليونسكو "مدينة عالمية يجب المحافظة عليها وصيانتها"، عرفت حملة لم يسبق لها مثيل لانقاذ مآثرها الخالدة، مثلما حصل مع حملات انقاذ النوبة في مصر والسودان ومدينة البندقية الايطالية وبوروبود الاندونيسية وسوخوتاي التايلندية ومونيجودار الباكستانية وقرطاج التونسية. ومن الاجراءات التي من شأنها الابقاء على فاس القديمة اصلاح البنيات التحتية وتنظيم الحرف والصناعات التقليدية داخل محيط المدينة القديمة، وعدم الاقتصار فقط على عمليات الترميم. وتصل البنايات التاريخية بمدينة فاس الى 11 الفاً و601 بناية تقليدية منها 74 قصراً وروضة، و355 بناية ذات قيمة تاريخية كبرى و143 مسجداً و113 فندقاً و268 من المرافق الاجتماعية والتربوية، اضافة الى الاسوار التاريخية التي تمتد على طول 26 كلم، والساعات المائية وشبكة المياه والسقايات التقليدية التي يبلغ طولها 70 كلم وتضم 3500 سقاية. وتظهر هذه السقايات جانباً مما تتميز به فاس من جماليات ومن تنوع وظيفي يجعل منها بحق نموذجاً للمدينة الاصيلة التي مزجت باتقان بين الاستاتيكي والنفعي. وتتكون السقاية، عادة، من جزئين: الحوض أو "الجفنة" التي يتجمع داخلها الماء، ويتراوح عمق الحوض ما بين متر وعشرين سنتمتراً، اما طوله فيكون متناسقاً مع حجم السقاية ووظيفتها. ويعلو الحوض حزام "حاشية" من حجر أو زليج أو رخام أبيض تسمى بلغة المعلمين الصناع المختصين ب"الشرافة". وعند مستوى خط التوازي الافقي يوجد العنبوب وهو تحوير للفظة الانبوب. وقد يوجد أكثر من عنبوب واحد في الصهريج الواحد، إذ هناك صهاريج بخمسة عنابيب. وهناك نوعان من العنابيب، نحاسية مزخرفة: وهي خاصة بالسقايات التي تزود بمياه العيون، وحديدية وتوضع في صهاريج أدنى جمالية وأقل نفعاً تتزود بمياه الانهار. وعند اسفل الصهريج يوجد ثقب يعرف باسم "السكاتة" يخرج منه الماء بصمت ودون ان يحدث جلبة للسكان المجاورين للسقاية. وتبلط ارض الصهريج بزليج ابيض واسود، والحكمة في ذلك تتمثل في معرفة مدى طهارة الماء المتجمع بالصهريج وصلاحيته للشرب اولاً. اما الزليج الخارجي فيختلف من حيث شكله ولونه وحجمه بحسب القيمة الجمالية للسقاية ودورها الوظيفي، وايضا بحسب موقعها الجغرافي. غير ان الزليج الذي يزين صدر السقاية عادة ما يكون ذا قيمة جمالية. ويتكون الصدر من "جوف" يعلوه "ازار" يفصل بينهما قوس يكون بمثابة بطاقة التعريف الشخصية لكل سقاية ولبانيها، ومن ثم فهو يختلف باختلاف الرؤية الجمالية والحس الفني لكل معلم. وتخضع الاقواس من حيث شكلها العام لمقاييس هندسية معمارية عربية اصيلة كما هو الشأن بالنسبة للقوس الخماسي والثلاثي.. الخ. وهذه السقايات، على اختلاف اشكالها واحجامها ووظائفها، تؤرخ للدول المتعاقبة على المغرب وعلى مدينة فاس بشكل خاص، وتظهر خاصيات كل حقبة من هذه الحقب في بعض السقايات الاصيلة، أي التي يعود تاريخ بنائها الى ما قبل القرن الحالي. ويبلغ عدد هذا النوع الاصيل - بحسب احصاء شبه رسمي - 49 سقاية موزعة داخل احياء المدينة القديمة، وهي تتركز بنسبة كبيرة بعدوة القرويين أو توجد بمحور تجاري أو صناعي كسوق الحناء وسوق الصفارين، أو ملحقة بمسجد أو ميضأة أو ضريح، أو أنها، في الغالب، تتوسط الحي. والمشكلة التي تواجهها "وكالة انقاذ مدينة فاس" التي أنشئت عام 1989 هي قلة، بل ضآلة، الموارد المالية المطلوبة. فعلى الرغم من الحملة الدعائية التي قامت بها اليونسكو لجمع التبرعات والمساهمات لانقاذ المدينة، لم تكن هناك تبرعات تستحق الذكر، غير ان دخول اليونسكو على هذا الخط منح مشروع الانقاذ الصدقية على الصعيد الدولي. وكان على المغرب التحرك باتجاه المؤسسات والهيئات المالية، وهو ما أسفر عن مساهمات عربية ودولية. فالبنيات التحتية - مثلاً - كالسقايات ترمم بتمويل من الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي، ومتحف الاسطرلاب تموله ملكة الدنمارك، وهناك دراسات يمولها البنك الافريقي للتنمية، ولكنها تظل مساهمات محدودة. وكان المجلس البلدي لمدينة فاس أبرم مؤخراً اتفاقية مع البنك الدولي للحصول على قرض بقيمة 16 مليون دولار لتمويل مشروع الانقاذ الذي وضعته لجنة تقنية خاصة. ويرتكز المشروع على خمسة محاور اساسية تتمثل في انقاذ البيوت التقليدية التي توجد في حالة سيئة، وتحسين البنيات التحتية المتعلقة بالسير والنقل والمواصلات، إضافة الى تحسين البيئة العمرانية وتدعيم البنيات المؤسساتية، وذلك بإشراك جميع الوزارات المعنية ومختلف الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية. ومن بين الخطوات المقرر تنفيذهما، ترحيل بعض المصانع الى الحي الصناعي في عين النقبي للمساهمة في القضاء على مصادر التلوث التي تعاني منها المدينة القديمة، وتجديد شبكة الانارة العامة والمحطة الطرقية التي ستتضمن، الى جانب المرافق الخاصة بها، انجاز مشروع المساكن الاقتصادية للتخفيف من كثافتها السكانية. ترى، متى ستعود فاس الى التاريح من جديد؟