"إننا نرتكب خطأ كبيراً اذا لم نفهم الطبيعة الخاصة للمنطقة العربية ... انتظروا سياسة جديدة لبرنامج الاممالمتحدة للبيئة في العالم العربي، تتفهم مشاكله الخاصة وقيمه الروحية وحضارته". هذا الكلام الصريح ليس مستغرباً صدوره من الرجل الذي يدير حالياً سياسة البيئة العالمية. فالمواقف الجريئة التي تزخر بها سيرة الدكتور كلاوس توبفر، المدير التنفيذي لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة يونيب، جددت ثقة العالم بالدور القيادي لهذا البرنامج في انقاذ بيئة العالم. فهو اعتمد سياسة جديدة لا تكتفي بالكلام الصارخ عن البيئة، بل تتجاوزه الى العمل من موقع قوة لتفعيل الاجراءات العملية في مواجهة التحديات البيئية. وتاريخ توبفر في العمل النقابي والحكومي والبيئي يؤهله لكي يعيد الى برنامج الأممالمتحدة للبيئة دوره القيادي المؤثر في السياسات البيئية الدولية. فهو يحمل درجة دكتوراه في الاقتصاد. وهو سياسي ونائب الماني بارز. وقد شغل بين 1987 و1994 منصب وزير اتحادي للبيئة وحماية الطبيعة والسلامة النووية. وكان وراء نجاح برنامج "النقطة الخضراء" في ألمانيا لتقليل نفايات التغليف والتعليب عن طريق إرجاعها الى المنتجين لاعادة تصنيعها. وأصبح من 1994 الى 1998 وزيراً اتحادياً للتخطيط الاقليمي والبناء والتنمية المدينية ومنسقاً لنقل مقر البرلمان الألماني والحكومة الاتحادية الى برلين. ترأس لجنة التنمية المستديمة في الأممالمتحدة بين 1994 و1995 وانتخبته الجمعية العمومية للأمم المتحدة أميناً عاماً مساعداً للأمم المتحدة ومديراً تنفيذياً لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة ومديراً عاماً لمكتب الأممالمتحدة في نيروبي، عاصمة كينيا، لأربع سنوات اعتباراً من أول شباط فبراير 1998 وعين لاحقاً مديراً تنفيذياً بالوكالة لمركز الأممالمتحدة للمستوطنات البشرية. نجيب صعب رئيس تحرير مجلة "البيئة والتنمية" رافق الدكتور توبفر خلال خمسة أيام من الدورة العشرين لمجلس ادارة برنامج الأممالمتحدة للبيئة، التي عقدت في نيروبي مؤخراً ، وناقشه في سياساته وبرامجه خلال الدورة وبعدها. هنا مقتطفات من الحوار الذي تنشره "الحياة" بالاتفاق مع الزميلة "البيئة والتنمية". واجه برنامج الأممالمتحدة للبيئة عقبات عدة بعد قمة الأرض، هددت دوره القيادي وأضعفته. ماذا فعلتم منذ تسلمكم رئاسة المنظمة لتصحيح هذا الوضع؟ - كان علينا القيام بالكثير لتدعيم برنامج الأممالمتحدة للبيئة خلال الشهور الاثني عشر الماضية، في عالم يتميز بالعولمة في الاقتصاد والأسواق والبضائع والاتصالات، لأن مضاعفات العولمة على البيئة ضخمة. فإذا أردنا تخطي النزاعات والعقبات في المستقبل، علينا أن نعمل لننجح في تطوير سياسة بيئية عملية تواكب عصر العولمة. غير ان السياسات البيئية مرتبطة أيضاً بالمعتقدات الروحية للشعوب. من هنا فإن احترام التنوع في القيم الروحية والانتماءات الاقليمية ضروري للاستقرار العالمي. فنحن لا نستطيع عولمة عاداتنا ومعتقداتنا. ولا يمكن أن تنجح سياسة بيئية لا تأخذ التنوع والوحدة في الاعتبار. سياسة برنامج الأممالمتحدة للبيئة التصدي للمشاكل المشتركة ضمن احترام خصوصيات كل منطقة. والقرن المقبل سيحمل لنا مفاجآت كثيرة، حيث سيتجمع أكثر من نصف سكان العالم في مدن كبيرة، مما يتطلب حل المشاكل البيئية والاجتماعية الناتجة عن الكثافة السكانية المدينية. وسنجد أنه لأول مرة في التاريخ، مثلاً، سيزيد عدد سكان افريقيا على سكان أوروبا. إنه الوقت المناسب لاعطاء الأممالمتحدة صوتاً بيئياً قوياً يبني عمله على معلومات دقيقة وتوقعات علمية. لهذا فأنا ملتزم بتطوير أنظمة قوية وفعالة للمراقبة والرصد وتبادل المعلومات البيئية، خاصة لتفادي الكوارث قبل وقوعها ورسم السياسات المستقبلية بناء على معطيات دقيقة. وقد كانت الدورة العشرون لمجلس الادارة بمثابة ولادة جديدة لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة، حيث أدرك الجميع أهمية دوره المحوري والقيادي في رسم السياسات البيئية العالمية ومراقبتها. ما هو تقييمك للدورة العشرين لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة وما هي أهم النتائج؟ - توصلت دورة مجلس الادارة الى نتائج ممتازة وتميزت بحضور رفيع المستوى من ثلاثين وزيراً بين مئة وفد ترأسها كبار المسؤولين من القارات الخمس. لقد تم قبول الميزانية التي اقترحتها لسنتي 2000 2001 بمبلغ 120 مليون دولار، وفيها زيادة على الميزانية السابقة في وقت تتراجع ميزانيات المنظمات الأخرى. وتعهدت دول كثيرة بدفع مساهمات إضافية خلال هاتين السنتين لدعم مشاريع بيئية محددة يتولاها البرنامج. وتمت الموافقة على خطة العمل للسنتين المقبلتين. وقد تكون أهم مقررات الدورة إنشاء "مجموعة الادارة البيئية" الدولية كمجلس أعلى لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة، مؤلف من وزراء البيئة، مما يعطي دفعاً سياسياً لعمل البرنامج ويثبت موقعه كمركز الثقل في ادارة برامج البيئة حول العالم. لقد أعطتنا هذه الدورة إشارة صريحة لدعم الحكومات لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة، وكانت بمثابة إعادة الاعتبار الى دوره القيادي. وسوف تثبت أعمالنا خلال السنتين المقبلتين جدارة يونيب لقيادة العمل البيئي الدولي واستقطاب مزيد من التمويل. أشرت مراراً الى عزمك على إنشاء نظام للإنذار المبكر ووضع خطة طوارئ لادارة الأزمات البيئية. ما القصد من ذلك وكيف ستكون خطة العمل؟ - سكان العالم يزدادون، لكن الموارد المتاحة لا تزداد بالنسبة ذاتها. لقد حذر الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي من أن الحرب المقبلة في العالم لن تكون ايديولوجية، بل ستكون حرباً على الماء. الحق في المعرفة يجب أن يتوافر للجميع لحل المشاكل قبل فوات الأوان. ما الذي يحدد نوعية الماء؟ كيف يستعمل الماء بالشكل الأفضل؟ ما إمكانات تحسين وتغيير تكنولوجيات استعمال الماء؟ هذه أمور ضرورية لتفادي النزاعات. والانذار المبكر يتعلق أيضاً بالتربة وحمايتها. نحن نعلم أن الاراضي الصالحة للزراعة تتقلص يوماً بعد يوم، ونعلم أيضاً أن ذلك أوجد عشرين مليون لاجئ بيئي حول العالم. من الضروري معرفة هذه الترابطات باكراً وتحديد "النقاط الساخنة" في وقت مبكر جداً. لذلك نحتاج الى نظام فعال للرصد والتقييم البيئيين، يعطي انذارات واضحة ومبكرة للحكومات والجماعات التي تعيش في المناطق المعرضة للخطر، فينبه الى الكوارث البيئية الوشيكة كي لا تتحول الى كوارث بشرية كبرى. فكروا في مدى الأضرار التي يمكن تفاديها، مثلاً، بانذارات مبكرة لاحتمالات شبوب حرائق أو هبوب أعاصير أو ظواهر مناخية مثل النينيو. أنا أرى ذلك مهمة أولوية كبرى لبرنامج الاممالمتحدة للبيئة. معالجة النفايات الخطرة مشكلة كبرى في العالم الصناعي. فما نصيب البلدان النامية من هذه النفايات حالياً؟ - في الماضي، ركزت تكنولوجيا مكافحة التلوث على اقامة مصانع لمعالجة النفايات والانبعاثات الخطرة. لكن هذه الطريقة لم تحلّ المشكلة، بل حولت طبيعتها، اذ أنتجت ملوثات خطرة من أنواع أخرى. ومعالجة النفايات الخطرة تكلف أموالاً طائلة في البلدان المتقدمة. والحل إما تغيير نمط الانتاج لخفض كمية ونوعية النفايات الناتجة، وإما تصدير هذه النفايات الى بلدان أخرى بكلفة أقل كثيراً. وهكذا بدأت تجارة جهنمية لتصدير النفايات الخطرة الى البلدان النامية، مع ما تحمله من تهديد لسلامة شعوب تلك البلدان العاجزة عن التعاطي السليم مع هذه النفايات والتخلص المأمون منها. لذلك بدأ سلفي الدكتور مصطفى كمال طلبه حرباً على تصدير النفايات الخطرة. وتوجت هذه المساعي باقرار اتفاقية بازل التي تحظر نقل النفايات الخطرة عبر الحدود. وهي نجحت الى حد بعيد في فرض احترام بنودها على دول العالم. وقد تعيّن علي شخصياً، حين كنت وزيراً للبيئة في ألمانيا، تنسيق استعادة شحنات من النفايات الخطرة تم تصديرها الى رومانيا وبلدان أخرى بطريقة غير مشروعة. ولا شك في أن القيود الصارمة والكلفة العالية لمعالجة النفايات تدفع الشركات والمصانع الى اتباع نهج "الانتاج النظيف" الرامي الى تقليص الملوثات. لكن حظر نقل النفايات الخطرة عبر الحدود لم يعد كافياً. فالبلدان النامية، هي أيضاً، عرفت نمواً صناعياً وباتت تنتج نفايات خطرة. وهي تفتقر الى التكنولوجيات والموارد الضرورية للتخلص منها بشكل مأمون. كما أن بعض النفايات الخطرة تصدر الى البلدان النامية تحت قناع "مواد صالحة لاعادة التصنيع". لذلك يتعين على هذه البلدان توخي الحذر في اختيار صناعاتها وادارة مخلفاتها. كذلك من الضروري وضع آلية دولية لتحديد ماهية ومأمونية النفايات الخطرة التي يتم تصديرها لأغراض إعادة التصنيع. هل لبرنامج الأممالمتحدة دور عملي في تطبيق مبدأ الانتاج النظيف؟ - لقد تم إحراز تقدم كبير في الإعتماد على عمل برنامج يونيب للانتاج الأنظف الذي أطلق عام 1989. وحلقة التدارس الدولية الخامسة الرفيعة المستوى المعنية بالإنتاج الأنظف، التي عقدت في جمهورية كوريا، انبثق عنها إعلان دولي بشأن الإنتاج الأنظف ألزم الموقعين عليه اعتماد استراتيجية وقائية وأهداف أداء بيئي وشروط لإعداد التقارير البيئية للمؤسسات الصناعية. وفي جهودنا المستقبلية في الانتاج الأنظف، سنركز على تدابير تعزيز كفاءة الطاقة وتطوير مصادر أنظف للطاقة، بما في ذلك المصادر المتجددة، إضافة الى جوانب النقل ذات الصلة بالطاقة. فأخلاقيات السلوك المشترك المسؤول تجاه البيئة، وتطوير مواقف وأنماط سلوكية تتجاوز اعتبارات المنفعة الخالصة، يجب أن تصبح دائماً هي القاعدة. ما تزال التكاليف البيئية تعتبر تكاليف إضافية ولا تنعكس في الأسعار. ويظهر هذا في أنماط الإستهلاك التبديدي. يجب إيلاء اهتمام أكبر كثيراً لوضع المعلومات في متناول الناس واعتماد اجراءات مثل وضع البطاقات الايكولوجية وفرض الضريبة الخضراء. ويجب أن نتذكر أننا اذا لم ندفع التكاليف الحقيقية عن الخدمات البيئية، فسوف تدفعها الأجيال المقبلة في جميع أنحاء العالم، كما ستتحملها الطبيعة. تؤكد دائماً أنك ستركز على سبل نقل التكنولوجيا البيئية. ماذا تعني بذلك؟ - نحن بحاجة الى ما يدعوه البعض "ثورة فعالية"، تحقق ازدياداً في فعالية استهلاك الطاقة والماء والأراضي والموارد الطبيعية الأخرى. وهي تستدعي تسخير تكنولوجيات جديدة تكون أيضا في متناول البلدان النامية بشروط تفضيلية. ان الازدياد السكاني والنمو الاقتصادي يجب ألا يأتيا على حساب البيئة. لذلك لا بد من تنمية تكنولوجية تحسّن الفعالية والأداء والانتاج من دون أن تحمّل الشعوب وبيئاتها أعباء فوق طاقتها. لقد ربطت دائماً بين الفقر والمشاكل البيئية، وناديت بضرورة التزام البلدان المتقدمة مساعدة البلدان النامية على تحقيق طموحاتها الاقتصادية. ما الفرص المتوافرة لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة لتشجيع هذا الالتزام؟ - سأعطيك مثلاً من نيروبي حيث المقر الرئيسي للبرنامج. هذه المدينة يسكنها 5.3 مليون نسمة تقريباً، لا أحد يعرف الرقم بالتحديد. ويتوقع أن يتضاعف العدد خلال 16 سنة. ويعيش 60 في المئة من السكان في أحياء بؤس غارقة في مشاكل الفقر على أنواعها. من الصعب جداً أن تقنع هؤلاء الناس بالتعاون معك لحل مشاكل البيئة وهم غير قادرين على إطعام أطفالهم. من جهة أخرى، هناك تخمة استهلاكية في البلدان المتقدمة، وهذا يعني تصدير مشاكل بيئية كثيرة ترافق الانتاج المتعاظم. فالتلوث لا يعرف حدوداً، والنفايات والانبعاثات الصادرة عن البلدان الصناعية تلوث أجواء وبحار وأراضي العالم بأسره. قبيل مؤتمر الريو، قلت اننا في حال حرب باردة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية. لذلك آمل أن نتمكن من اقناع الجميع بأن محاربة الفقر تعني أيضاً مكافحة المشاكل البيئية في العالم. ماذا يمكننا أن نفعل؟ أعتقد أن الاتفاقيات الدولية التي أبرمها برنامج الأممالمتحدة للبيئة تساعد جميعها، بشكل مباشر أو غير مباشر، في التزام البلدان المتقدمة مساعدة البلدان النامية. كذلك تساعد الاعانات المالية وعمليات نقل التكنولوجيا. والحقيقة، في رأيي، أن علينا توحيد جهودنا مع الاستثمار الخاص في البلدان النامية. فنحن لا نريد تعطيل المبادرات الصناعية الخاصة في هذه البلدان، بل جعل هذه المبادرات أصلح وأنسب. وأتمنى مخلصاً أن نشارك أكثر في برامج التنمية المستديمة الحريصة على حماية البيئة، فهذه، في النهاية، هي التنمية الحقيقية. تقوية المكاتب الاقليمية كان أحد المقررات المهمة للدورة العشرين. كيف سينعكس هذا على المنطقة العربية؟ - أحد اهتماماتي الأساسية منذ تعييني مديراً تنفيذياً للمنظمة كان إحياء دور برنامج الأممالمتحدة للبيئة في المنطقة العربية. فقد شهد التزام البرنامج في هذه المنطقة تراخياً خلال السنوات الأخيرة، حيث لم يعط المنطقة الاهتمام الذي تستحقه. فهذه المنطقة هي نقطة استراتيجية لنشاط اقتصادي كثيف في إنتاج النفط ونقله، وهي تقع على أربعة بحار إقليمية، وتتمتع بصفات طبيعية وروحية وحضارية متميزة. كل هذه لم يتم التعامل معها كما يجب خلال السنوات الأخيرة، وهذا واقع أعمل على تغييره. ومن ضمن سياستي الجديدة لدفع عمل يونيب في المنطقة، تم تعيين مدير اقليمي جديد في غرب آسيا، وستتبع هذا تعيينات أخرى في المكتب الاقليمي على مستوى رفيع ومتخصص، إضافة الى دعم قدرات المكتب وتوسيع أعماله. وسنعمق العلاقات مع جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي والمنظمات الاقليمية الأخرى. وقد بدأت زيارات شخصية للمنطقة سأتابعها هذه السنة، للاطلاع عن كثب على الواقع والحاجات وتمتين العلاقات والتعرف على الصفات الخاصة لهذه المنطقة. ماذا تعني بالصفات الخاصة للعالم العربي؟ - أعني تحديداً التراث الديني. فهذه المنطقة مهد الديانات التوحيدية، التي تدعو الى احترام الطبيعة. وفي الاسلام قيم روحية راقية شديدة الأهمية لدعم السياسات البيئية. إننا نرتكب خطأ كبيراً اذا لم نفهم الطبيعة الخاصة للمنطقة العربية، وأهملنا القيم الروحية البيئية في الاسلام. ومقررات القمة الاسلامية في طهران العام الماضي شاهد على ما أقول، اذ انها دعت الى احترام البيئة والتوازن الطبيعي من منطلق إسلامي. ان العالم العربي سيكون منذ اليوم منطقة اهتمام رئيسية لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة، كأساس لاقامة حوار عميق بين الحضارات. ولن نهمل أبداً دعوة الرئيس الايراني خاتمي الى لقاء الحوار الروحي الحضاري سنة 2000 الذي نأمل أن يساهم في دعم العمل البيئي أيضاً. فالقيم الروحية في الاسلام أساس متين لحماية البيئة والحفاظ على الطبيعة. انتظروا سياسة جديدة ليونيب في العالم العربي، تتفهم مشاكله الخاصة وقيمه الروحية وحضارته.