مع أن "ألف ليلة وليلة" لم تثبت جنسيتها كما يقول الرواة، لكنها اشتهرت على أنها رواية عربية قلباً وقالباً. بسبب المكان والزمان والأشخاص التي كلها تشير الى أنها من التراث العربي، وأنها أول رواية بمعناها الحديث أهداها العرب للحضارات المتوارثة عبر الزمن، والتي أعقبها ما يشبهها في بلاد فارس والهند، ومنها باللغة التركية الصادرة حديثاً عن دار الانتشار العربي في بيروت بعنوان "مناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء" مع عنوان جانبي "قصص تحاكي ألف ليلة وليلة من التراث التركي" ترجمها عن التركية سليم أفندي باز، وهي مخطوطة قديمة لم يعرف مؤلفها وندور أحداثها حول "قمر السكر" الجميلة التي تزوجت أميراً هام بها ثم غاب عنها في رحلة عمل طويلة، وتركها مع الببغاء التي كان يتفاءل بها. وخلال غياب الزوج، وقع شاب جميل في غرام قمر السكر وكادت أن تفتتن به لولا أن الببغاء داوم على ردعها ومسامرتها بأحاديثه الشيقة، ويروي لها أخبار العشق على طريقة شهرزاد حتى عاد زوجها وفرح بلقائها من جديد. وفي التقديم لم يوضح المؤلف المجهول الإسم، في أي عصر كتب هذا الكتاب، مع أنه يشير الى سلطان من سلاطين بني عثمان، فيقول: "إن العقلاء والحكماء كان دائماً جل دأبهم واجتهادهم في مطالعة أخبار من سلف ومن عبر وأمثال من مضى ومن غبر. فيجنون من غررها در الفوائد، لأنه لا ريب بأن في أمثال المتقدمين عبرة للمتأخرين ووقاية للمعتبرين. فبناء عليه قد أوعز إليّ من إشارته حكم وطاعته غنمٌ. هو سلطان سلاطين هذا الزمان وولي نعمتنا بلا امتنان. الجالس باليمن والافتخار على أريكة السلطنة العثمانية الأبدية القرار، بأن أحرر هذا الكتاب المستطاب بعبارات لطيفة رائقة، وأُضمنه من مبتكرات الآداب مِلَحاً فائقة شائقة. فعاندني جمود القريحة الخامدة. وناصبني خمود الفطنة الجامدة، بيد أنه قد جاء أمره الكريم مسهلاً لحزونها، ومذللاً لحرونها، فلهذا بادرت الى تسويد هذه الطروس وابتدرت الى إبداع هذه العروس، فجاءت عارية من الحسن والجمال. ولكنها تستعير من أنظاره الملوكية حلة البهاء والكمال. هذا وأرجو المغفرة عما طغى به العلم وزلت به القدم. متوسلاً للحق سبحانه بأن يوفقني لختامه. ويغمرني بعزيز آلائه وأنعامه آمين". وهناك ملاحظة تقول تنبيه قد استأذنا من جانب صاحب العزة سليم أفندي باز معرّب هذا الكتاب بأن نطبعه على نفقتنا ونحصر حقوق اعادة طبعه بنا وذلك بموجب ورقة رسمية من عزته. وعليه قد أعدنا طبعه الآن طبعاً نظيفاً متقناً وجعلنا ثمنه تسعة قروش. فالرجاء بأن تصادف خدمتنا هذه القبول لدى محبي المطالعة فيقدمون على اقتنائه". ويبدو أن سليم أفندي باز معرب الكتاب يكتب الشعر أيضاً. إذ ابتدر الكتاب ببيتين من الشعر: كتاب في سرائره سرور مناجيه من الأحزان ناج كراحٍ في زجاج بل كروحٍ سرت في جسم معتدل المزاج ثم تجيء القصة الأولى على لسان الأب واسمه سعيد الذي رجا الله أن يرزقه بغلام يرثه من بعده وهو حتى الآن لم يأته غلام. فسعى الى شيخ عرف بوقاره وإيمانه وورعه الذي طلب منه أن يوزع من ماله الحلال ألف دينار على ذوي الأعواز فيرزق ولداً ذكراً تقرّ به عينه، ولما فعل ذلك، قال له: اذهب واغشَ امرأتك فإن طاب اعتقادك يرزقك الله غلاماً ذكراً تدعوه ساعداً. فآمن سعيد بما قاله الشيخ المومأ اليه وفعل ما أمره به، فحملت زوجته. وبعد تسعة شهور وعشرة أيام وضعت ذلك الغلام الذي أطلق عليه الأب اسم "ساعد" الذي ما أن شب سعى الى الحلال إلى أن وصل في آخر البحث "الى بكر تدعى قمر السكر فريدة الحسن والجمال مكحولة المقل مفلجة الثغر نحيفة الخصر مخضبة الكفين رقيقة الشفتين حلوة الابتسام مهفهفة القوام نجلاء العين مجدولة الساعدين تختال فيخال أنها ملكة ربانية وترفل بثوب العز، كأنها عذراء سماوية، وأين منها العذارى الهاروثية والحور العين الماروتية. لكن ما حصل بعد ذلك أن ساعداً أهمل واجباته في العمل الى جانب أبيه في التجارة منصرفاً الى التنعم بالزوج الجميلة. حتى نسي أباه وأمه وكل أسرته، مما جعل الأب يتألم من هذه الحال، الى أن يصيح بإبنه أثناء وليمة كبرى أقامها: يا بني ان رباطات الحب المخلص وحنية الأبوة تلزمانني بأن أسارع وأنتشلك من غواية غويت فيها. أنظر يا بني ها أن أباك قد شاخ وقرب أجله ومن ثم لم يعد لي مطمع من حطام هذه الدنيا سوى بنجاحك وفلاحك... يا بني إن كنت لا تدع معاشرة قرينتك وتقلع عن هذه العادة السيئة فلا يمكنني أن أمنعك عنها غير أنه لا يليق بشاب مثلك أن يفني أيامه بالتقصف والصفا مع زوجته، ناشدتك الله أن ارجع عن غيك وأرتدع عن لهوك وأذعن لنصيحة أب شغوف أكبح نفسك ولا تمل الى هواها ولا تطاوع شهواتها... ألم تسمع ما حكي أن ثمانين صالحاً لم يصلحوا شريراً واحداً، بل شرير واحد أفسد ثمانين صالحاً. فقال له ساعد وكيف كان ذلك. وهكذا روى الأب لساعد ما جعله يعود الى رشده ويشد الرحال الى التجارة ولكن بعد أن ترك ببغاءان من أنثى وذكر يسليان قمر السكر في وحدتها ووحشتها ريثما يعود من تجارته. لكن هذا لم يمنعها ذات يوم أن رآها من النافذة أميراً جميل الصورة ففتن ببهائها وشغف بجمالها. أما قمر السكر فكأنها لم تر لأن بعد فراق زوجها لم يعد يلذ لها شيء، لكن بعد أن تدخلت عجوز خبيثة في الأمر التقت قمر السكر بالأمير العاشق، وهي في سبيل الاستعداد للقاء الأمير قررت استشارة الببغاء الأنثى لأن الببغاء الذكر سيكون الى جانب زوجها الغائب لكن الببغاء الأنثى صاحت بها: ألا تستحي أيتها الامرأة من ارتكاب إثم كهذا فظيع، أنسيت زوجك المحسن إليك ونكثت عهوده... هل ظهر منه ما يوجب الخيانة... ارجعي عن غيك وإلا فسأعلم زوجك بسوء تصرفك فتكوني عبرة لمن اعتبر. فأسرعت قمر وقتلت الببغاء الأنثى، ثم قررت أن تسأل الببغاء الذكر وكان قد علم بموت الببغاء الأنثى، فآثر السلامة وعدم خيانة صاحبه في آن. فراح يروي كل ليلة ويوم حكايا لقمر السكر كانت تنسيها مواعدة الأمير العاشق، وهكذا توالت القصص قصة بعد قصة وفي كل مرة يقف الببغاء الذكر عن إتمام القصة واعداً إياها في اتمامها في اليوم التالي. قائلاً لها عندما تنتهي القصة تذهبي الى حبيبك الأمير، لكن القصص لا تنتهي، وفي كل مرة يتوقف الببغاء قبل نهاية القصة بقليل فتشوق قمر السكر الى سماع بقية القصة وتنسى مواعدة الأمير. من الملاحظ هنا أن الببغاء حل محل شهرزاد في الليالي العربية، أراد أن ينقذ زوجة صاحبه من الخيانة بهذه القصص التي ظل يرويها لها الى أن عاد الزوج من تجارته ناجحاً متفوقاً ليجد زوجته تنتظره دون أن تخونه مع الأمير العاشق. وسبب كل ذلك الببغاء العاقل. وفي كل القصص والحكايا أعاجيب وغرائب كلها تصب الى جانب الخير وترفض الشر وتحاربه. وفيها أمثولات تردع عن الفساد وتعلم الصبر والطموح والاندفاع نحو الخير والبناء، اضافة الى التسلية والعبر، وهي قصص يقرأها الكبار والصغار وتعلم الوفاء والصدق والتضحية في سبيل المثل العليا. * "مناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء - قصص تحاكي ألف ليلة وليلة من التراث التركي، المؤلف مجهول، ترجمه الى العربية سليم أفندي باز - والترجمة قد تعود الى أوائل القرن. الناشر: دار الانتشار العربي - 1998 - الطبعة الأولى. من حكايات "مناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء" : المواهب الملكية قال الببغاء: قد روت أئمة النقل أنه كان في قديم الزمان، في مدينة أصفهان من أعمال فارس ملك بلغ من العمر مائة وعشرين سنة ومات ولم يترك ولداً يخلفه على سرير السلطنة سوى حفيد عمره خمسة أشهر. فارتبك الوزراء ورجال الدولة والعلماء للمفاوضة بهذا الشأن ومبايعة ملك يقوم عليهم ويسوس أحوالهم فقال بعضهم: ان حفيد الملك المتوفى طفل لا يسعنا أن نبايعه الآن ولا يمكننا أن ننتظره حتى يبلغ لأنه لا يصل الى سن الرشاد الا بعد مدة طويلة فمن يقوم على الرعايا في بحر هذه المدة فالأجدر بنا إذاً أن ندعه الآن وبنايع ملكاً أجنبياً. فقام آخرون واعترضوا على هذا الرأي قائلين: إذا بايعنا ملكاً أجنبياً فربما لا يكون أهلاً للقيام بأعباء الملك ويخشى منه ظلم الرعية وإذا قويت شوكته فلا يلبث أن يحتقر رجال الدولة ويلحق ببلادنا الخراب والدمار، وربما تتوصل معه الخيانة الى أن يدفعنا الى عدونا ويلحق بنا العار والفضيحة، ومع ذلك فالرأي الأوفق اتباعه هو ما يقترحه عقلاء المملكة وحكماؤها فلنرى آراءهم بهذا الشأن المهم. هذا وكان حاضراً وقتئذ أربعمائة من العقلاء والحكماء فبعد أن تذاكروا كثيراً بهذا الأمر قر رأيهم على رفض كل ملك أجنبي وأنه يجب امتحان حفيد الملك المتوفى وذلك بأن يحضروا عدداً من الأطفال ويضعوه بينهم وأن يعزف أمامهم بآلات الطرب فإن طرب الطفل فرحاً عند سماعه النغمات فيكون ذا حكمة عظيمة وأهلاً للملك وإلا فلا. فلما سمع الوزراء هذا الكلام طاب لهم فرتبوا مجلساً عظيماً ووضعوا الطفل في مهده وجمعوا معه أطفالاً شتى وأخذوا يعزفون أمامهم بآلات الطرب، ولما كان الطفل يسمع الأنغام كان يطير فرحاً ويرقص طرباً وبهجة ويشير ببعض حركات تدل على الفطنة والفراسة. وأما بقية الأطفال فكانوا مبهوتين كأجسام بلا روح. فاستمروا على هذه الحالة أياماً كثيرة وكان حفيد الملك لما يسمع أنغام الطرب يستيقظ من نومه ويبتسم ضاحكاً. فلمّا نظر الوزراء ورجال الدولة والعقلاء هذه الإشارات من هذا الطفل تيقنوا أنه سيكون على جانب عظيم من العقل والدراية، وأنه سيكون سعيداً يعز صاحبه ويذل عدوه، فتفاقم حينئذ سرورهم وأجلسوه على سرير أجداده ونادوا بإسمه في سائر أقطار المملكة ودعوا له بطول البقاء. فلما بلغ هذا الغلام سن الرشاد تسلم زمام المملكة فسار مع رعاياه سيرة حميدة. وكان يعاملهم بالحسان ويواصلهم بالمعروف. فامتدت سطوته في سائر الأقطار، وبعد صيته وعم أطراف المملكة وأباد عدوه وباتت رعاياه على أحسن حال وأتم منوال. فلما أنهى الببغاء هذه الحكاية نظر الى قمر السكر وقال لها: يا سيدتي أنه يلزمك أن تكوني ذات معروفة، وأن تراقبي حبيبك ليظهر لك ما في باطنه، وحيث أن صوت الطرب معيار الحكمة فعليك به. فقالت قمر السكر هل أن بمجرد سماع آلات الطرب التي أسهبت المقال عنها يفرح المرء فرحاً عظيماً ومن فرحه يعرف باطنه أم كيف الحال؟ فأجابها الببغاء: يا سيدتي أن نغمات الطرب تجعل في قلب الإنسان تأثيراً وتهيج في فؤاده الفرح فتصيبه هزة تعدمه التأني فيعرف باطنه لأن التأني واسطة التمويه في الكلام ومتى انتفى التمويه تبقى الحقيقة على حسب كيانها الطبيعي. حينئذ يعرف الخسيس من النفيس والجيد من الرديء، ثم أن النغم والألحان تجعل الإنسان يبوح بأسراره لأنه يحصل منه لسامعها فرح يهيج قريحته ويسلب منه ألف كرة ويدور برأسه كما يدور الخمر بشاربه فلا يعود يفتكر بكتم ما يجب كتمه بل يبوح بأسراره ويكشف الخبايا من زوايا قلبه. وتأثير الطرب في قلب الإنسان عظيم مفاعيله لا توصف لأنه يحيي ويميت والدليل على ذلك ما أصاب جنيد البغدادي عليه رحمة الهادي. فسألته قمر السكر وكيف كان ذلك؟!* * الملاحظ أن كل القصص يتواصل بعضها ببعضه، تماماً كما يحصل في ألف ليلة وليلة ويظل شهرزاد متشوقاً لمعرفة بقية الحكاية، كما هو حاصل هنا في الكتاب التركي إذ تظل قمر السكر متشوقة لمعرفة الحكاية التالية... وقد بلغ عدد حكايا الكتاب خمس وستون حكاية.