كان الوداع بحجم الرجل، وهو كان أكبر من بلده الصغير. كان حزن الأردن امس بحجم العالم، كأنه يؤكد ان رحيل الملوك يتميز دائماً بالاستثنائية التاريخية التي هي له. حشد غير عادي من الملوك والرؤساء جاء لوداع الملك حسين بن طلال. قادة اكبر الدول جنباً الى جنب مع قادة اصغر الدول، زعماء العرب وزعماء اسرائيل، كلهم مروا امام الجثمان لنظرة اخيرة. ثم بقيت العائلة، الملك عبدالله بن الحسين وسائر الأمراء، وجهاً الى وجه مع الجثمان. انها اللحظة الصعبة للعائلة، للأردن، للمرة الأولى منذ 47 سنة من دون الحسين. آذان العصر يعلن موعد الرحيل. قصر رغدان كان محط الأنظار أمس، على كل الشاشات الصغيرة وفي كل بيت. النعش يتقدم على وقع موسيقى الوداع ووراءه المشيعون الكبار. كان الحسين راسخاً في ذاكرة الجميع، فمنذ نصف قرن وهو يعني الأردن مثلما كان الأردن يعني الحسين. لكنه كان يعني ايضاً لجميع مشيعيه من كل انحاء العالم بعض افضل ما يرمز اليه الشرق العربي، بالصيغة الأقرب الى روح العصر. خارج قصر رغدان كانت جموع الناس تحاول اختراق الأطواق الأمنية للدخول الى حيث الجثمان. الملوك والرؤساء وفقراء الشعب خرجوا الى الوداع، الآخرون كانوا امام شاشات التلفزيون، كسواهم خارج الأردن. كان الانتظار طويلاً عند مداخل القصور الملكية، فمنذ الصباح تقاطر المشيعون وفوداً وجماعات تحمل الاعلام السود وصور الملك الراحل. شوارع عمان هادئة، سيارات قليلة متشحة بالسواد تجوب العاصمة، كل شيء مقفل، الجيش والشرطة مستنفران من دون تشنج فالكل محترم هيبة اللحظة وأحزانها. في الفنادق تجاور الملوك والرؤساء مع الرواد العاديين والصحافيين ورجال الأمن. أول من أمس، يوم وفاة الحسين، اكتأبت السماء كما لم يسبق الأردن ان شهد، كأنها تواكب الحدث، كأنها تعبر عنه، امطرت كثيراً وأشاعت ضباباً أقرب الى السواد. وأمس، يوم الرحيل، انقشعت صباحاً ثم تلبدت مجدداً مع صعود الحزن فغابت الشمس وتكثفت الغيوم. وفجأة، لحظة وصول الجثمان الى مثواه الاخير، عادت الشمس كما لو انها تؤدي بدورها التحية. كان الناس المحاصرون قصر رغدان يصفون تقلبات الطقس هذه ويمزجونها بالصلاة والتفجع واستمطار الرحمات على مليكهم الراحل. أكثر الحزن صامت، وبعضه هاتف نادب ناحب. لم يكن يُسمع في عمان امس سوى تلاوات آي الذكر الحكيم تتناهى الى المحتشدين على طول المسار الطويل للموكب الأحمر، موكب الجثمان الآتي من الجهة الاخرى للمدينة ملفوفاً بعلم المملكة الهاشمية. جاؤوا من كل انحاء البلد الصغير، كباراً وصغاراً، تابعوا طوال الليل على التلفزيون وصول زعماء العالم بشيء من الاعتزاز والدهشة. وفي الصباح الباكر خرجوا إلى الشارع. اصطفوا على كل المسافة من قصر "باب السلام" حيث بات الحسين ليلته الأخيرة الى قصر رغدان حيث دخل امامهم للمرة الأخيرة. ومع كل محطة كان رجال الأمن يجدون كل الصعوبة في رد الجموع عن الموكب، الذي ما ان يمر، حتى تتبعه الجموع لترافقه الى نهاية الرحلة. قرابة الساعة الواحدة ظهراً كان المنتظرون عند مداخل القصور ينشدون بلا انقطاع "لا اله إلا الله والحسين حبيب الله"، ثم يقطعون بهتاف آخر "قولوا الله قولوا، الله يغفر لملكنا". كانت الكلمات الأخيرة تصل الى مسامع الصحافيين الاجانب كأن فيها شيئاً عن "اميركا"، فيستفسرون... خلال الانتظار مرّ جميع الملوك والرؤساء الى الداخل، الموكب الاميركي هو الأكبر، اربعة رؤساء لم يفوتوا الرحلة. كذلك جميع رموز الدولة في بريطانيا. حتى الرئيس الروسي لم تمنعه حاله الصحية من المجيء. والموكب العربي الأكبر هو السعودي. كان الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ولي العهد السعودي، اول الزعماء الذين وصلوا الى عمان بعد ساعات قليلة على اعلان الوفاة. وكان لقاؤه مع العاهل الأردني الجديد حميماً ومؤثراً، كذلك عناقه مع سائر الأمراء ابناء الحسين. وبث التلفزيون الأردني مراراً مشاهد للقاء الأمير عبدالله والملك عبدالله والذي كان اشبه بلقاء عائلي. وكان لافتاً ارتياح الشارع الأردني عموماً الى التجاوب العربي مع الحدث، كأنه كان يتوقع استجابة مختلفة. بلغت الدموع ذروتها مع اقتراب هليكوبتر الأمن العام من مداخل القصور. لم تعد الجموع تسيطر على مشاعرها، ولم يعد رجال الأمن قادرين على كبح تدافع الجموع الى وسط الطريق. اصبح الموكب الأحمر على بعد امتار، وبصعوبة كبيرة شق طريقه الى القصر، واندفع الجميع في ركابه، رجالاً ونساءً واطفالاً ورجال امن وكاميرات وأعلاماً وصوراً ولافتات. هرولة على وقع الدمع والحزن، لكنها هرولة عشرات الآلاف التي تقع فيها ضحايا تدوسها أقدام المندفعين من بعيد. على رغم الارتباك كان على رجال الأمن ان يرفعوا الضحايا الى خارج الحشد. حصلت حالات اغماء كثيرة، وكانت سيارات الاسعاف بعيدة. اصبح الهم الأكبر لرجال الأمن ان يحولوا دون اندفاع الشعب الى الداخل لئلا ينهار برنامج التشييع. استدعيت قوات اضافية. لحظة راح الشيخ احمد هليل يردد "رحمة الله وبركاته عليكم اهل البيت" كانت الدموع في مآقي رجال العائلة المحيطين بالنعش. وما ان بدأت المواراة حتى دوت طلقات المدفع وانطلق رصاص الحرس للتحية، انتقل الحسين الى رحمته. لم يعد من هذا العالم. الرئيس السوري حافظ الأسد كان اول المعزين، وهو توقف طويلاً للحديث مع الملك عبدالله، ثم مع الأمير الحسن. الرئيس المصري حسني مبارك كان شديد التأثر خلال القائه النظرة الاخيرة على الجثمان. لقاء الملك عبدالله وجميع زعماء دول الخليج العربي كان لافتاً، فالجميع يعرفه منذ زارهم قبل اسابيع. اما الاسرائيلي الوحيد الذي عانق الملك عبدالله وسائر الأمراء فهو اسحق موردخاي. طبعاً كان بنيامين نتانياهو في التشييع أمس، لكن شيئاً في داخل كل أردني كان يقول ليته لم يأت.