قد يكون من أكثر الأمور ضرراً على الحركة الوطنية والإستقلالية الكردية، وهي غير الحركة الإنفصالية والإرهابية الغالبة والظاهرة اليوم، الإرث الذي خلفه عبدالله أوجَلان وترعاه قيادة حزب العمال الكردستاني وقواعده المقاتلة. وهذا من مراوغة التاريخ وحِيَله. فالرجل الذي يتعرَّفُه أكراد كثيرون وجهاً بارزاً، وربما الوجه الأبرز، لنازعهم القوي إلى الاستقلال بهوية تاريخية وثقافية قد لا تستقل بهوية سياسية ناجزة في وقت منظور، هذا الرجل هو نفسه من حمل السياسة الكردية اليوم، وفي مناسبة خطفه واعتقاله، على ركوب أغلاط وهفوات أودت به، وقد تودي بحركة الشعب الكردي الوطنية. ففي الأشهر الأربعة الأخيرة، بين إقدام السلطة السورية على إخراج أوجلان من سورية والبقاع اللبناني وبين تسليم الأمن الكيني اللاجىء الى الطائرة الخاصة التركية بضاحية نيروبي، سنحت فرصة ثمينة لتولي قضاء دولة أوروبية، هي ألمانيا، النظر في قضية زعيم الحزب الكردستاني من غير إغفال الوجه الحقوقي، والوجه الوطني، من المسألة الكردية التي يقوم أوجلان شر عَلَم عليها، وشر ممثل لها. وكانَ انتقاله من إيطاليا، حيث أوقف، الى ألمانيا، حيث أصدرت السلطات القضائية مذكرة توقيف في حقه بناءً على تهم بالإبتزاز والترهيب والقتل اقترفتها منظمته بألمانيا وكان ضحاياها أكراد من تركيا، وحيث كان يسعه التعويل على مقاضاة عادلة وسوية، أمراً يسيراً ومحتملاً. ولكن ما حال دون انتقال الزعيم الكردي إلى ألمانيا هو خوف ألمانيا شرودر من الإضطرابات الداخلية التي قد يتوسل بها قوم أوجلان وأهله، وهو بينهم في ألمانيا، إلى إرهاب السلطة السياسية الجديدة، وبعثها تالياً على التدخل في عمل القضاء الألماني، وتقييد استقلاله. ووقع احتمال مقاضاة أوجلان في ظرف سياسي دقيق، فالحلف الإشتراكي - الديموقراطي والبيئي يستهل ولايته، بعد عقد ونصف العقد من ولاية سلف كبير هو الديموقراطي المسيحي هيلموت كول، وفي رأس برنامجه تجنيس أربعة ملايين من العاملين الأجانب والمقيمين بألمانيا. والشطر الأعظم من هؤلاء أتراك مسلمون. وتجنيسهم المقترح، بناءً على إقامتهم وعملهم وولادتهم على الأرض الألمانية، ينتهك السُّنة الألمانية، وهي ناطت الجنسية ب"حق الدم" التحدر من أصل ألماني وليس ب"حق الأرض" الإقامة والولادة. فكان الحلف السياسي اليساري يتوقع تحفظاً منظماً وعفوياً عن ضم العدد الكبير من الألمان الجدد نحو خمسة في المئة من السكان، ومعظمهم غير أوروبي ولا مسيحي. وفي هذا ما فيه من دواعي القلق على دوام الثقة الانتخابية في الحكومة الجديدة والطرية العود السياسي. وصادفت قضية استرداد عبدالله أوجلان من إيطاليا، حيث أودعته الشرطة السياسية الروسية وهي تلقته بدورها من السلطة السورية، صادفت انشغال السياسة الألمانية الداخلية بالخلاف الحاد على قانون التجنيس ولم يلبث الحلف أن سدد ثمن مشروع القانون خسارة انتخابية، فرعية، في أوائل شهر شباط/ فبراير، وتلويح اليمينين، المعتدل والمغالي، به فزاعةً ناجعة. فكانت المصادفة هذه اختباراً سياسياً حاسماً لشجاعة الإشتراكية - الديموقراطية الألمانية، من وجه، ولنضوج الحركة الوطنية الكردية، من وجه ثان. والحق ان الإشتراكية - الديموقراطية الألمانية أخفقت في اختبار الشجاعة هذا. ولم يسعفها على النجاح فيه عزوف الإتحاد الأوروبي كله عن معالجة مسألة الهجرة إليه معالجة متضامنة، ومستشرفة، لا تقتصر على مراقبة "فضاء شينغين" مراقبة بوليسية خالصة، ولا أسعفها ابتداء تداول اليورو، العملة الموحدة الجديدة، تداولاً حسابياً ودفترياً مع مطلع العام الجاري. وكان في مستطاع الحركة الوطنية الكردية ان تمدّيد العون والمساعدة للحكم الألماني الجديد، وأن تخرجه من عثرته، وهي عثرة شجاعة وعثرة إحجام أوروبي مزمن، وأن تخرج نفسها وأوجلان، في المرتبة الثانية، معها أخيراً، من ورطة الظرف السياسي الدقيق ومصادفته. وتتمثل يد العون هذه بقدرة الحركة الوطنية الكردية على طمأنة ألمانيا، حكومة وطاقماً سياسياً وشعباً، الى قبول أكراد ألمانيا، وأوروبا عموماً، بمقاضاة أوجلان أمام قضائها، من غير تحفظ، ولا اقتناص الفرصة السياسية والديموقراطية ذريعة الى الإضطراب والترهيب. فلو قدرت الحركة الوطنية الكردية على طمأنة الألمان، وهي ضيف عليهم، إلى التزامها قوانين البلد المضيف في أثناء محاكمة "العم" "آبو"، لقُدِّر ربما للرجل الذي تمحضه كثرة من الأكراد تكريماً لا يستحقه، النفاذ من العملية المهينة التي أوقعته في شباك القوات الخاصة التركية. ولكن ما حصل هو خلاف المعالجة السياسية. فكانت التعبئة الجماهيرية الهوجاء والخرقاء، وتهديد الدول الأوروبية الديموقراطية الضامنة مقاضاة نزيهة وعلانية فاعلة، رد الجواب الكردي على خير الحلول الممكنة وأفضلها وأكثرها مؤاتاة للقضية الكردية. ويتحمل إرث مؤسس الحزب الكردستاني تبعة ثقيلة عن التهوّر الجماهيري، وعن رميه ب"آبو"، وهو لا يؤسف عليه، وبشطر من القضية الوطنية الكردية، وهذه لا تخصّ الأكراد وحدهم، في يد سياسة لم تترفَّع عن التشفي، وقد يكون عسيراً عليها، الترفع عنه. وينبغي الإقرار بأن تراث أوجلان هذا ورث هو بعضه عن سياسات مشرقية عربية كان بعضها فاعلاً في نشأة حزبه وحركته المسلحة، ورعى بعضها الآخر انتهاج الحزب الطريق التي انتهجها. ومن اليسير تعرُّف مصدر هذا النهج، بل الطريقة، في سوابق فلسطينية وخمينية وناصرية وشعبوية قومية عربية وشيوعية، ما زالت تزعم لنفسها القدرة على رعاية قضايا التحرر، وهي ترسف في أثقل القيود. وأثقل القيود الثقيلة هذه التنصل من جهالة سياسية تنيخ على العقول، وتتصور بصورة ألوية النصر المعقودة والمرفرفة. ولعلّ قضية أوجلان فرصة جديدة تحصى في فرص الرشد الضائعة. * كاتب لبناني.