في عدد 11 شباط فبراير 1999 وفي صفحة "أفكار" من جريدة "الحياة" كتب عبدالرزاق الصافي مقالاً تحت عنوان "سؤال يسبق المتغيرات: هل العراق مؤهل للديموقراطية؟" تركز على محاولة الدفاع عن "المعارضة" باعتبارها الطرف المؤهل لقيادة عملية التحول الديموقراطي، بالضد من الرأي الذي يقول بأن مسألة الديموقراطية غير ممكنة إلا بشرط تجدد الحركة الوطنية العراقية وظهور حركة وطنية مناسبة للظرف وللمرحلة التاريخية الراهنة. لأن الكاتب يناقش مسألة نظرية بوسائل سياسية مباشرة تصل احياناً الى مشارف الدعاية يتطلب الأمر مساءلة الأصول والأسس للرد على كل قضية تطرق لها ما يفرض علينا الاطالة. لهذا سنركز مناقشتنا على قضية واحدة من القضايا التي أوردها، ونقصد ما ذكره بخصوص القوى العلمانية العراقية ودورها في التحول الديموقراطي، فهو يذكر أولئك الذين يعتقدون: ان موضوعة الديموقراطية تهم العلمانيين، كما لو أنهم هم وحدهم الذين "يثنونها - كذا" والأصح على ما نخمن "يبنونها" ويدعون اليها وعليهم المعول في بنائها وهذا غير صحيح". ونحن ممن يرون هذا الرأي، ويؤمنون به وكتبوا مؤكدين عليه مراراً. ويهمنا ان نرد بناء عليه على اعتراض السيد الصافي عليه لأسباب نحسبها على علاقة مباشرة بالتفاصيل الحساسة للشكل الذي ستتخذه الديموقراطية المنتظرة من الناحية التطبيقية في عراق الغد. ولا داعي للعودة الى الأمثلة التي ذكرها الكاتب وهو يحاول اثبات عدم صحة اقتصار مسؤولية بناء الديموقراطية على العلمانيين دون سواهم، لأنها في غير محلها، ولا يصح من أحد ان يكون من رأيه اليوم بأن العلمانيين ليسوا هم سادة الاستبداد والديكتاتورية بلا منازع، وان سواهم من القوى الدينية مثلاً لا يحسبون في خانة دعاة الديموقراطية. والدليل في العراق بالذات لا يتمثل في حركة المشروطة الايرانية التي يذكرها الكاتب ولا في انعكاساتها وحسب، فالحركة الاسلامية لها مع التجليات الديموقراطية تاريخ أبعد وأعمق وأكثر صلة بخصائص العراق وبتطوره الوطني. ونظام "الاجتهاد" الذي هو بلا شك نموذج خاص ومثالي لبنية مؤسسة وطنية كانت هي التي تقود النضال الوطني في العراق على مدى أكثر من قرن، ولم يتحقق لها التطابق الضروري مع المزاج والتكوين الوطني الا بالتشكل في القرن الماضي على أسس نظام فريد جوهره التعددية والوحدة والاختيار الحر. ان هذا النظام لم يتجل في طريقة اختيار "المجتهد الأكبر" وفي "التقليد" أي تعدد مصادر الفتوى والقيادة، بل شمل نظام التدريس وعموم الحياة وادارتها، فكانت "النجف" نموذج "دولة مدينة" ديموقراطية هي صورة عن قاعدتها وبحرها العشائري الزراعي المقاتل المشاعي والمساواتي والديموقراطي. المسألة لم تطرح أبداً على هذا الصعيد بل طرحت من زاوية "الأداة المحركة" أو النواة المطابقة تكويناً وبنية والقادرة حسب التاريخ والشروط على لعب دور المحفز، وهذا أمر يعود الى قراءة في الخصائص. ففي العراق كما لاحظ المرحوم زكي خيري لم تلعب البورجوازية الوطنية كما الحال في مصر والهند دوراً قيادياً في العملية الوطنية، ولم ينشأ لدينا حزب مثل "الوفد" أو مثل "المؤتمر الهندي"، والحزب الليبرالي الديموقراطي الذي قام في العراق منذ أوائل الثلاثينات قام على أسس "شعبوية" حملتها وثيقة تأسيسه النظرية الأولى وانتهى الى حزب "اشتراكي ديموقراطي" كما قرر زعيم الحزب كامل الجادرجي في وثيقة أخرى كتبها قبيل وفاته، بعد صراع طويل خاضه طيلة حياته الحزبية من أجل بلورة توجه فكري واضح للحزب الوطني الديموقراطي. لكل شعب خصائص تميز ثورته الديموقراطية وحركته الوطنية، ففي فرنسا تلعب القوى الجذرية والاشتراكية الديموقراطية دور الأداة المحركة للعملية الديموقراطية، وفي الولاياتالمتحدة لا دور يذكر لليسار، وفي بريطانيا ما يزال اليمين المحافظ له وزن في الحياة السياسية، وفي مصر ذهب الملك فاروق الى الخارج عام 1952 على وقع طلقات المدفعية المودعة بينما سحل العراقيون ملوكهم واجتثوا جذورهم وركائزهم الاجتماعية والسياسية كما يلاحظ حنا بطاطو. وهذه حقائق وليست أمراضاً عارضة يمكن التخلص منها بادعاء ليبرالية بلا ضفاف ولا تستند للحقائق الملموسة ولحكمة التاريخ التي لا مصدر سواها لبناء المستقبل. ولسوف تستثير قضية الديموقراطية نقاشات، وتستوعب تجارب كثيرة في بلد مثل العراق، بخصائص تاريخه وواقعه الراهن وبارتباط هذه القضية بالمهام الوطنية والتحررية المتعاظمة حدتها، بينما يشهد هذا البلد والعالم تجدداً وحشياً شرساً للسيطرة الامبريالية، وهي تطبق اليوم على العراق متخذة شكل سياسة تدمير وابادة شاملة، مما يفرض حكماً انزال هذا الشعار من سحر العمومية نحو الحيز المعاش والملموس في التجربة والتاريخ الوطنيين. ولم يكن من باب الصدفة ان تتخذ القوى العلمانية الجذرية دور القيادة في العملية الوطنية في تاريخ العراق المعاصر، واستوعبت هذه القوى خلال ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن كل الزخم الوطني والشعبي، واختزنت مجمل التجارب والهموم والتضحيات والأخطاء والهزائم والانتصارات ومحاولات الفوز وكوارث سوء التقدير وعدم تطابق النظر والحقائق المعاشة كما عاشت طويلاً مع العجز والتراجع، وهي تغوص اليوم ومنذ قرابة أربعة عقود وسط أزمة مديدة تظل تتفاقم، ومع كل ذلك فإن هذه القوى ما تزال تشكل الثقل الرئيسي في حمل التطلعات الوطنية وتجسيدها بأكثر صورها صدقاً وبجملة تلوناتها وتعقيدات عناصرها. عرف العراق ثلاث فترات وثلاثة أشكال من القيادة الوطنية خلال العصر الحديث. كانت الأولى عشائرية قبلية، والثانية دينية، والثالثة عصرية علمانية. وكان القاسم المشترك بينها جميعاً، غلبة الطابع الجذري المساواتي والدينامي المقاتل مع النزوع العملي والديموقراطي على بنيتها، ويعود مصدر طغيان تلك الخصائص الى قوة النواة المحركة الحاسمة في توليد القيم الوطنية الموكولة للوحدة المشاعية الزراعية المحاربة ولطبيعة بنيتها، الحرة والجذرية، وهذه هي التي سيدت أخيراً في الفترة الأولى نموذج ومثال الزعيم الوطني القبلي الأول "حمد آل حمود" ضد نموذج "شيوخ الحكومة" المتعاونين مع السلطات، كما انها هي التي فرضت نظام الاجتهاد ومثال "السيد الشيرازي" منذ لقائه الشهير في النجف بالشاه عباس ورفضه استقبال الحاكم الايراني الزائر أو قبول منحة مالية منه أو زيارته في مقر اقامته كما فعل رجال الدين الآخرون، فلم يلتقه الا في الحضرة عند قبر الإمام علي حافياً ليتقدم عليه قائماً بالزيارة والدعاء وحسب. أو منذ دوره في المجاعة التي حلت بالنجف، ومن ثم مواقفه في تحريم التنباك وهي الفتوى التي تحدت الاحتكار الاجنبي وأودت بحياة الشاه عباس، أو مواقفه من الوحدة الوطنية ضد محاولة الحاكم الانكليزي التدخل في شؤون المسلمين واثارة النعرات الطائفية بين العراقيين عندما تعرض ابن الشيرازي لاعتداء بالضرب في سامراء من قبل بعض الأشخاص. ومن المصدر ذاته وليس من نشوء "البروليتاريا العراقية" أو البورجوازية الوطنية أو الصغيرة استمد الحزب الشيوعي والحركات القومية الجذرية والحزب الليبرالي الشعبوي مكانتها وسماتها. فالبروليتاريا والتغلغل الرأسمالي كانا أسبق في مصر والهند ومع ذلك لم تلعب القوى العلمانية والجذرية هناك دوراً حاسماً كذلك الذي لعبته في تاريخ العراق المعاصر، ثم ان العراق كان في العشرينات والثلاثينات يعاني من تخلف مريع يستوجب وجود مصدر تقليدي راسخ وغني تستند البنية السياسية والفكرية الناشئة اليه وتستمد منه ملامحها وسماتها الغالبة. ان مكانة وعمق جذور الحركة الوطنية العلمانية مظهران لا يمكن تفسيرهما وردهما الا الى الخصائص الذاتية للتاريخ العراقي، فهنا يكمن الأساس قبل الشروط الجديدة الطارئة، وهنا نفهم كيفية تفاعل تلك الخصائص مع المستجدات العالمية والانعكاسات الاقتصادية والثقافية المختلفة. لكن هذه القوى كانت غارقة وحتى الآن، لأسباب تتعلق ببنيتها وظروف نشأتها وطنياً وعالمياً تحت ثقل أولوية الانتماء الحزبي باعتباره هو الانتماء الوطني، وهذا كان أهم الأسباب التي حالت دون تمكنها من اقامة نظام مطابق للخصائص التعددية للعراق. والآن وبعد الأزمة المديدة وجروح الاحتراب والديكتاتورية والعدوان الأميركي الحالي فإن ضرورات ملحة أصبحت تفرض على القوى الحية ان تبدأ بالتأسيس لمفهوم "المشاركة الوطنية" المستندة الى اعلاء الانتماء الوطني فوق الانتماء الجزئي الحزبي أو غيره، وان تضع هذا الأخير في مجرى الزخم الشامل للعملية الوطنية التي لا أمل بالخروج من الأزمة ومن احتمالات الكارثة الناجمة عن العدوان والديكتاتورية، من دونها. وهذه العملية هي بلا أدنى شك علمانية، ودينية ومن كافة القوى التي يتشكل منها المجتمع العراقي تحقيقاً لديموقراطية مضمونة بمبدأ الشراكة الوطنية والوحدة. اخطأ ويخطئ أولئك الذين يفصلون المهام التحررية الوطنية عن قضية الديموقراطية، فيقفون في الطرف القصي المعاكس للرأي الذي تتبناه السلطة حين تنفي الحاجة الوطنية للديموقراطية باسم مواجهة العدوان بينما هي تمنع الشعب عن أن ينظم صفوفه وطاقاته بما يتناسب وشروط المقاومة وأبعادها، هذا في حين يقترح هؤلاء مفاهيم عائمة منفصلة عن الشروط الملموسة والتاريخ، ويذهبون لحد تسليم الراية لقوى طارئة غدت تمارس الابتزاز على القوى الحية وهي بلا دور ولا أساس تاريخي أو اجتماعي، ولا نقصد بالطبع القوى الدينية التي تمثل عنصراً حيوياً في التكوين الوطني. القوى العلمانية مؤهلة لقيادة العملية الديموقراطية والوطنية، اذا تغيرت هي وتغيرت موضوعاتها، وهناك اليوم عمل يساوي بالحد الأدنى في أهميته وخطورته، مهمة التأسيس التي اضطلع بها رواد الحركة الوطنية في العشرينات والثلاثينات، ان لم تتفوق عليها خطورة، لأنها تنصب لا على تطوير بنية الحركة الوطنية بما يتناسب وشروط حقبة الاستعمار وقيام الدولة "الحديثة" بل على مطابقة هذه الحركة مع الخصائص الأساسية للوطنية العراقية، كما تجلت في التاريخ وفي مجرى التجربة الحديثة الممتدة على مدى أكثر من ثلاثة قرون. ان استخلاص القيم الأساسية للعملية الوطنية يعني أولاً الخروج على نمطيات المفهوم الذي ظل يرهن الأولوية الحاسمة في تحديد التاريخ العراقي الحديث للارتباط بالسوق الرأسمالية والانتقال من الانتاج الطبيعي للانتاج للتصدير.. مع كل ما يتصل بذلك من مفاهيم الوطنية وتاريخها الفعلي وقواها، وبالأخص المدى الذي يشتمل عليه هذا التاريخ المحبوس داخل سور حديدي لا يتعدى ما وراء ثورة العشرين وقيام الدولة "الحديثة". ولا بد في هذا السياق من تعيين العناصر الحية والأساسية، والمحركة، وترك غيرها من العناصر الطارئة، ليس اليوم فقط بل على مدى عموم لوحة التاريخ العراقي الحديث بفصوله التي تستغرق أكثر من ثلاثة قرون غزيرة وثرية. انها مهمة للنضال وليست مجرد تقرير واقعة تاريخية، ونحن نعرف ان السيد عبدالرزاق الصافي لا ينتمي الى صنف الأفندية الذين يفوتهم لوقت طويل نبض الحقيقة في بلادهم، وهو سوف يجد حتما في هذا الذي نقوله الشيء الكثير مما يتطابق وتحسساته الفكرية والسياسية. * كاتب عراقي مقيم في باريس.