من كان الدكتور غاشيه الذي تخصّص صالات "القصر الكبير" في باريس معرضاً عنه يستمّر حتى نهاية نيسان ابريل المقبل، وكيف تمكّن هذا الطبيب الريفي من تأسيس إحدى أهمّ مجموعات الفن الإنطباعي في نهاية القرن التاسع عشر؟ تقدّمه الرواية كصديق حميم لفنانين كبيرين، فنسانت فان غوغ وبول سيزان، لكن الوجه الآخر من الرواية يفسح عنه كمزوّر بارع ومجمّع متنبّه وماهر. كان غاشيه طبيبا للأمراض العقلية وكانت أطروحته تعالج موضوع الكآبة، وبعد أن درس وعمل في باريس استقرّ في الريف، في منطقة اوفير -سور - واز التي تبعد 30 كيلومتراً عن العاصمة. وخلال إقامته الباريسية، أدخله صديقه الفنان أمان غوتييه الى الأجواء البوهيمية وعرّفه على المقاهي والفنانين الذين حافظ غاشيه على علاقات جيّدة معهم. وعندما استقرّ في أوفير -سور - واز، خصّص الطبيب في منزله الكبير محترفا وراح يدعو الفنانين- الاصدقاء للعمل. ففي شتاء 1872 زاره بول سيزان وأصبح غاشيه أول مجمّع لأعماله. لكن صداقات غاشيه كانت تشمل أيضا بيير اوغوست رينوار وكميل بيسارو، وعند نصيحة هذا الاخير أرسل ثيو فان غوغ، تاجر اللوحات المعروف آنذاك، أخاه فنسانت الى اوفير-سور-واز كي يهتّم به الدكتور غاشيه، المختص بالأمراض العصبية. وكان فنسانت غادر المستشفى في جنوبفرنسا التي أدخل اليها على أثر إصابته بنوبة جنون حملته على قطع إذنه. وفي 20 أيار مايو 1890، وصل الفنان عند الطبيب واكتشف في منزله عددا من المجموعات، أبرزها لوحات سيزان وبيسارو لكنه كتب الى أخيه ثيو قائلا: "يبدو لي غريب الأطوار. يظهر، بالفعل، وكأنه مريض ومضطرّب مثلي. لكن، خبرته كطبيب تساعده في المحافظة على التوازن". وبعد فترة، تغيّرت نظرة فنسانت إذ أرسل الى أخيه كلمة يقول فيها: "وجدت في الدكتور غاشيه صديقا حقيقيا، بل بشكل ما، أخاً جديداً. نشبه بعضنا كثيرا، في المظهر وفي الأخلاق ...". وكان غاشيه يهتم بفنّ وعمل فان غوغ أكثر من جنونه، وكان يمر عليه في الفندق الصغير الذي كان يسكنه، مرتين او ثلاثاً في الأسبوع كي يرى آخر أعماله. وكانت تلك المرحلة مكثّفة جدا عند الفنان الذي كان يرسم دون توقف ويخرج لوحة او لوحتين في النهار الواحد. وأما فان غوغ، فكان من جهته يزور غاشيه غالبا ويتناول الغداء عنده وينظر الى اللوحات التي كان ينجزها غاشيه في أوقات فراغه. والطبيب الذي كان مزوّرا محترفا كان يستخدم اسم بول فان ريسيل، وبما أن ابنه كان مزوّرا أيضاً عمل الإثنان على نقل كل اللوحات الموجودة في مجموعة الأب. ويقدّم معرض "القصر الكبير" اللوحات المزوّرة الى جانب اللوحات الأصلية، إضافة الى عدد من التحليلات وضعها "مختبر أبحاث متاحف فرنسا" على ثماني لوحات لبول سيزان وثماني لوحات لفنسانت فان غوغ. وأظهرت النتائج أن اللوحات التي خضعت للتحليل لم تكن مزوّرة، لكنها لم تعطِ جوابا نهائيا حول موضوع يثير الحساسيات من أشهر طويلة في أوروبا وأميركا واليابان، وهو كيفية أصالة أشهر لوحات فان غوغ. وهذه ليست المرّة الاولى تتعرّض فيها لوحات فنان كبير لشكوك وتساؤلات، أمثال رامبرانت ودالي ورودان وجياكوميتي... ولكن في حالة فان غوغ، الرهان يبدو ضخما إن تذكرنا بأن لوحته "السوسن" بيعت عام 1987 ب 320 مليون فرنك فرنسي 55 مليون دولار وبعد ثلاث سنوات بيعت واحدة من اللوحتين التي رسمها فان غوغ لصديقه الطبيب، "بورتريه الدكتور غاشيه" الى مجمّع ياباني ب 470 مليون فرنك فرنسي 82 مليون دولار ونالت مع ذلك لقب "أغلى لوحة في العالم". مع شهرة فان غوغ، اشتهر الدكتور غاشيه، وأما مجموعاته فبرزت في منتصف القرن العشرين بعد أن قدّم ابنه، بين 1949 و1954، ثلاث هبات من لوحات والده الى المتاحف الوطنية الفرنسية... لكن غموض الطبيب لا يزال قائما ويبدو أن سرّه لم يفش عنه كليا.