أصيب خليل ع. بخيبة امل مريرة وهو يتسلم وثيقة سفره الخاصة باللاجئين الفلسطينيين وقد كتب فيها الى جانب "المهنة" كلمة "بدون". فقد رفض الموظف المختص الاعتراف به طبيباً الا اذا ابرز افادة من نقابة الاطباء اللبنانية في بيروت. وخليل لاجئ فلسطيني سافر الى اسبانيا حيث درس الطب وتخصص في جراحة المسالك البولية وعاد الى لبنان واجتاز امتحان الكولوكيوم الحكومي بنجاح. وهو يعمل جراحاً في جمعية الهلال الاحمر الفلسطيني متنقلاً بين مستشفياتها وعياداتها في عين الحلوة والبرج الشمالي والرشيدية. ويحظر عليه، بموجب القوانين اللبنانية، الانتماء الى نقابة الاطباء اللبنانيين او العمل خارج المخيمات على رغم ان بعض المستشفيات اللبنانية يستعين به لاجراء عمليات جراحية بأجور منخفضة عن التسعيرة المعتمدة، مستغلاً عدم امتلاكه رخصة عمل. ويدرك خليل انه بذلك قد يعرّض نفسه للمساءلة القانونية على غرار ما وقع لزملائه الاطباء الفلسطينيين في البقاع الذين انشأوا مركزاً طبياً خاصاً بهم في سعدنايل، فأوقفتهم الشرطة بناء لدعوى من نقابة الاطباء واحيلوا الى المحكمة بتهمة ممارسة الشعوذة ! والقيام بأعمال غير مرغوبة ؟. منذ اسابيع توفيت المواطنة الفلسطينية فاطمة العلي في مخيم الرشيدية بعد صراع طويل مع داء السكري أفقدها احدى ساقيها، ولا زال ضريحها حتى الآن كومة من التراب على غرار العديد من الاضرحة التي لا زالت من دون بناء. فاجراءات الجيش عند مدخل المخيم تمنع على الفلسطيني ادخال اية كمية من مواد البناء من حجار واسمنت وكلس ودهان وبلاط. كما يحظر عليه ادخال "كل ما له صلة بالبناء" كالاسلاك والمصابيح الكهربائية وانابيب المياه والزجاج والمغاسل والحنفيات وغيرها. ومنذ اشهر نشرت صحيفة "السفر" البيروتية خبراً قالت فيه ان احد ابناء المخيم احيل الى المحكمة بعد ان اوقف "متلبساً بالجرم المشهود" وهو يحاول "تهريب" علبة دهان وزنها كيلوغرام واحد الى داخل المخيم. وتساءلت الصحيفة ساخرة متى صنف القانون اللبناني الدهان من المواد المحرّمة والممنوع تداولها؟ واين في لبنان، ما عدا مخيم الرشيدية، يحاكم المرء لانه يحمل علبة دهان وزنها كيلوغرام اشتراها من احد المحلات التجارية في مدينة صور ليدهن بها بعض نوافذ منزله على اعتاب فصل الشتاء؟ بعد ان امضى حوالى خمس سنوات في الخارج يعمل لاعالة عائلته في مخيم برج البراجنة قرب بيروت، عاد الى لبنان المواطن الفلسطيني ج. ن. ليقضي اجازة الصيف وليجدد وثيقة سفره. لكنه فوجئ باحالته الى استجواب في احدى الدوائر الامنية دام لاكثر من ثلاثة اسابيع "اتهم" خلاله انه حصل في مكان اقامته في الخارج على جنسية البلد المضيف وانه يحمل جواز سفر آخر الى جانب وثيقة سفره الممنوحة له من السلطات اللبنانية. وقد ابلغ بضرورة التنبه الى ان مثل هذا الامر سيقوده الى فقدان الوثيقة اللبنانية والى شطب اسمه من سجلات اللاجئين الفلسطينيين لدى وزارة الداخلية في بيروت. علماً ان القانون اللبناني يتيح للمواطنين اللبنانيين الحصول على جنسية اخرى من دون ان يعرضهم هذا الامر لفقدان جنستيهم اللبنانية، والآلاف منهم المقيمون في دول افريقية واميركية يحملون جنسية بلد الاغتراب ويحتفظون في الوقت نفسه بجنسيتهم الاصلية. تلك امثلة وصور عن معاناة اللاجئين في لبنان الذين استبشروا اخيراً مع ولادة العهد الجديد خصوصاً انه استهل ولايته بالغاء القرار 478 الذي قضى بفرض التأشيرة المسبقة لسفر الفلسطينيين. الا ان وقوف الحكومة عند هذا الاجراء الوحيد - على اهميته - وتمسكها بباقي الاجراءات الظالمة الاخرى نشرا في صفوف اللاجئين بداية موجة من التشاؤم وخيبة الامل. وتثير مثل هذه الاجراءات انتقادات واسعة ليس فقط في صفوف اللاجئين الفلسطينيين بل لدى الاوساط العربية والدولية المهتمة بقضايا اللاجئين، الامر الذي يحرج ممثلي الحكومة اللبنانية كلما اثير هذا الامر في الملتقيات الدولية وفي ورش عمل مراكز البحث المعنية بالقضية الفلسطينية. حتى ان وكالة الغوث الاونروا المعروفة بمواقفها المتحفظة وبحرصها على علاقة "محايدة" مع الدول المضيفة للاجئين اضطرت في تقريرها السنوي الاخير الى انتقاد سلوك الحكومة اللبنانية واجراءاتها الامر الذي اضطر ممثل لبنان في اجتماع رئاسة الوكالة في عمان نهاية شهر ايلول سبتمبر الماضي لتقدم مداخلة مطوّلة اعترض فيها على ما جاء في تقرير الاونروا محاولاً في الوقت نفسه شرح ما اعتبره الاسباب الموجبة لمثل هذه السياسة المتبعة من قبل حكومته. ومع ان الحكومة اللبنانية تبرر اجراءاتها على انها تهدف الى صون المصالح العليا لبلادها وقطع الطريق على خطر توطين اللاجئين في لبنان فان الفلسطينيين يشكون من ان الحكومة تمارس ضعطها على الضحية - اي على اللاجئين - وليس على الجانب وصاحب مشاريع التوطين كاسرائيل والولايات المتحدة. كما يشكون ان معظم هذه الاجراءات، ان لم تكن كلها، لا علاقة لها على الاطلاق بمسألة التوطين وخطره. فما الصلة، على سبيل المثال، بين مجابهة التوطين ومنع الفلسطينيين في مخيمات صور من بناء اضرحة موتاهم او ترميم منازلهم او استبدال المصابيح المعطلة فيها او غيرها من الادوات الصغيرة؟ وما الصلة بين مجابهة التوطين ومنع الفلسطيني المقيم في لبنان منذ النكبة من العمل في حوالى 60 مهنة او اكثر؟ وكيف يعتبر الفلسطيني مزاحماً للبناني في عمله، وعلى ارض لنان الآلاف من غير اللبنانيين عرباً واجانب يقيمون فيه ويعملون بموجب اجازات رسمية؟ وما الصلة بين مجابهة التوطين وبين منع اللاجئ الفلسطيني من الاستفادة من الخدمات الاستشفائية المجانية - على قلتها - التي توفرها مستشفيات وزارة الصحة اللبناية - بينما يستيفد من هذه الخدمات اللاجئ في سورية والاردن ومصر ودول مضيفة اخرى؟ ويسود المخيمات قناعة ان اجراءات الحكومة اللبنانية - المندرجة على انها لمجابهة التوطين - انما تهدف الى الضغط على اللاجئين في المخيمات لمغادرة لبنان الى دول مضيفة اخرى، لتخفيف عدد اللاجئين فيه حتى الحدّ الادنى. وبحكم الحكومة اللبنانية بذلك قناعة ان التوطن بات امراً واقعاً، وان مجابتهه تتم بفرض وقائع معاكسة من بينها دفع اللاجئين - تحديداً الشباب منهم - نحو الهجرة الى الخارج. ووفقاً لاحصاء اشرفت عليه بعض الدوائر المختصة في مخيمات جنوبلبنان، ظهر ان لهذه الهجرة انكاساتها الاجتماعية شديدة السلبية على السكان، ففي مخيم الرشيدية مثلاً 7 نساء مقابل كل رجل بكل ما لهذا الامر من تداعيات اجتماعية خطيرة. وعلى رغم تأكيد المراجع الفلسطينية في لبنان ان مجابهة التوطين واجب مشترك فلسطيني - لبناني، يفترض ان يقوم على اساس من التعاون والتنسيق بين الطرفين وليس على قاعدة استفراد طرف بالاجراءات، الا ان الحكومة ترى من جانبها ان الوجود الشعبي الفلسطيني على ارضها "مسألة لبنانية بحتة" وان اجراءاتها بحق اللاجئين تنبع من حقها في السيادة على ارضها. ومع ذلك تشدد المراجع الفلسطينية في لبنان ان حرصها على السيادة اللبنانية يشكل دافعاً رئيسياً لرفض التوطين - الى جانب التمسك بحق العودة كدافع رئيسي آخر - وان الحوار بين المسؤولين اللبنانيين وبين الممثلين المحليين للاجئين في لبنان لا يمس بالسيادة اللبناية، بل يعززها بالتزام الفلسطينيين بالقوانين اللبنانية والعمل تحت سقفها. ويلتقي هذا الموقف مع دعوات اطراف لبنانية وازنة للحوار بين الحكومة اللبنانية وبين منظمة التحرير الفلسطينيين الممثلة لكل الفلسطينيين. من بين هذه الدعوات ما يكتبه الصحافي والسياسي اللبناني المعروف غسان تويني صباح كل اثنين في افتتاحية "النهار" البيروتية. وهو يرى ان رفض الحكومة اللبنانية فتح حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية - ايا كان السبب - لا يخدم المصلحة اللبنانية، وان النظر الى اللاجئين في لبنان كقضية لبنانية بحتة، لا يشارك الحكومة اي طرف آخر في تقرير مصيرهم، خطوة تخدم سياسة التوطين. لكن الحكومة اللبنانية ترسل بين فترة واخرى اشارات يفهم منها رفضها فتح مثل هذا الحوار. آخر تلك الاشارات صدور الغيبي باعدام سلطان ابو العينين مسؤول حركة فتح في لبنان بتهمة تشكيل عصابة مسلحة، والمتاجرة بالسلاح والاعتداء على الاملاك العامة. كما يبدو ان الزيارات المتكررة الى بيروت التي يقوم بها عضو اللجنة التنفيذ ية في منظمة التحرير فاروق القدومي - رئيس الدائرة السياسية - واسعد عبدالرحمن - رئيس دائرة شؤون اللاجئين - وان مباحثاتهما مع المسؤولين اللبنانيين لم تثمر ايجاباً حتى الآن، سوى تبادل المجاملات. ومع ذلك يسود اوساط اللاجئين قناعة راسخة بأن الحوار مع الحكومة اللبنانية وحده السبيل الى معالجة العلاقة بين الطرفين ووضعها في سياقها الصحيح على قاعدة ان لبنان دولة قانون وسيادة على اراضيها وعلى كافة المقيمين عليها. وهو امر لا يتعارض مع منح اللاجئين حقوقهم الانسانية بما فيها حق العمل والعيش الكريم على الاراضي اللبنانية، وهي حقوق اقرها ميثاق جامعة الدول العربية وقراراتها ووثائقها التي وقّع عليها لبنان بارادته المستقلة. كما انها حقوق اقرتها المواثيق والاعراف الدولية التي استوحى لبنان من سياقاتها قوانينه السائدة. اما مسألة التوطين فليست قدراً حتمياً، فضلاً عن ان مجابهته تتطلب تآزراً عربياً على غرار التآزر القائم بين لبنان وسورية في مسارهما التفاوضي الموحد مع اسرائيل.