منذ اللحظة التي أصبحت فيها الدولة العثمانية طرفاً في الحرب العالمية الأولى، كان من المنطقي لبريطانيا العظمى، الدولة المعنية أكثر من غيرها بمناطق الشرق الأوسط الخاضعة للهيمنة التركية، والدولة التي وضعت اسطنبول نفسها في مواجهة معها خلال تلك الحرب، كان من المنطقي لها أن تبدأ على الفور تحركاتها على جبهات المناطق العربية لتحاول انتزاع أكبر قدر من الأراضي والنفوذ من العثمانيين، وصولاً - في ما بعد - إلى تعبئة قطاعات عريضة من العرب ضد السلطنة. والحال ان خريف العام 1914 كان حافلاً بمثل تلك المحاولات، وإن كان البريطانيون رأوا ان التركيز يجب أن يكون على منطقتين أساسيتين، هما مصر والعراق، علماً بأن فرنسا - حليفة بريطانيا - كانت بدأت تتحرك في سورية وما حولها. بالنسبة إلى مصر، سيكون التحرك في شكل "ثورة في القصر" عمد الانكليز - المهيمنون أصلاً على معظم مقدرات هذا البلد - خلالها إلى إطاحة الخديوي عباس الثاني باعتباره مناصراً للأتراك أكثر مما يجب في نظر الانكليز وابداله بعمه حسين كامل الذي اعطي لقب سلطان. وعلى هذا النحو تمكن الانكليز من فرض نفوذهم في مصر كاملاً. لكنهم، قبل ذلك، كانوا تحركوا في اتجاه العراق، الذي كان يخضع مباشرة للنفوذ العثماني. ففي العراق لا يقوم الأمر في ثورة قصور، بل يجب أن يكون هناك احتلال مباشر، أي معارك قتالية حقيقية. ومن هنا حرك الانكليز قوات لهم استقدموها من الهند، بعد أيام قليلة من اعلان الحرب بين الباب العالي والحلفاء. وهذه القوات التي انزلت في ميناء الفاو يوم 14 تشرين الثاني نوفمبر 1914، أي بعد أقل من أسبوعين من إعلان الحرب، تمكنت يوم 23 من الشهر نفسه، من الانطلاق من الفاو التي تقع في عمق الخليج العربي/ الفارسي، لاحتلال البصرة والسيطرة عليها نهائياً، كخطوة أولى وأساسية على طريق تحرك طويل سيقود الانكليز لاحقاً إلى بغداد، وسيؤدي إلى طرد الأتراك من ذلك البلد. وكان التحرك في العراق استجابة لرأي مكتب الهند، ضد رأي مكتب القاهرة والمكتبان كانا يتوليان شؤون الاستعمار البريطاني في هذه المنطقة من العالم، وكان بينهما صراع وتنافس، لا بد من الإشارة هنا إلى ان المنطقة العربية دفعت ثمنه غالياً، وكان في خلفيات التطورات السلبية التي عرفتها أوضاعها بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن هذه حكاية أخرى. أما حكاية ذلك اليوم، فتقول إن القوات البريطانية تمكنت من احتلال البصرة من دون اطلاق رصاصة واحدة. أما القوات التي قامت بالعملية، فكانت تابعة لطابور المشاة السادس عشر، والفرقة السادسة، وهي كانت ترابط أصلاً في بومباي. وقبل التحرك من الفاو إلى البصرة، كانت هذه القوات أقامت حزاماً أمنياً مكثفاً من حول آبار النفط التابعة ل"شركة الزيت الانكلو - فارسية"، وهي شركة بريطانية بالطبع. وبالنسبة إلى الانكليز كان الاستيلاء على البصرة تحت شعار "حماية الطرق البحرية المؤدية إلى الهند - جوهرة التاج البريطاني في ذلك الحين". والحقيقة ان بريطانيا كانت تبدي - في تلك الآونة - خوفها من أن تقوم السفن الحربية التابعة للأسطول الألماني بالتدخل في مناطق الخليج، ومن هنا كانت رغبتها في السيطرة على الفاو، ثم - أهم من ذلك - على البصرة، تنبع من "اضطرارها" للسيطرة على هذين المرفأين لكي ترابط فيهما القطع التابعة للبحرية الملكية البريطانية بشكل يجعلها قريبة، وجاهزة دائماً للتدخل في منطقة الخليج كلها حتى مضيق هرمز. غير ان هذه الاستراتيجية التي أعلنت أول الأمر وظلت مقنعة حتى حين انتشرت القوات البريطانية في مدينة البصرة وما حولها، سرعان ما تبدت مزيفة، أولاً لأن أحداً لم يرصد وجوداً، أو محاولة وجود، للقطع البحرية الألمانية في تلك المنطقة من العالم، وثانية - وخصوصاً - لأن القوات البريطانية، سرعان ما راحت تتحرك شمالاً في اتجاه بغداد، ما يعني ان المسألة لم تعد مسألة السيطرة على موانئ وحماية طرق بحرية، بل السيطرة على العراق كله واخراج الأتراك منه. وهذا ما تم للانكليز في نهاية الأمر بالطبع، ليصبح احتلال البصرة خطوة أولى على طريق الحلول محل العثمانيين، لا مجرد اجراء احتياطي هدفه حماية الطرق البحرية الصورة: هنود في القوات الانكليزية، في مواقع قرب البصرة.