في معظم مراحل تاريخها بدت روسيا على خصام مع القوانين والدساتير. فهي دولة الحجم والقوى والاستبداد الامبراطوري مما سبق له أن ساهم في تفسيخ القيصرية ومن بعدها الاتحاد السوفياتي، وربما ساهم الآن إذا ما قيّض تعميم الحالة الشيشانية في تفسيخ روسيا نفسها. مارتن نيكولسون، الخبير والديبلوماسي البريطاني السابق في روسيا، يرى أن عبور هذه الأخيرة إلى القرن الواحد والعشرين سيكون مرهوناً بالعلاقة بينها وبين جوارها الاقليمي، فيما ترتهن العلاقة هذه بالقدرة على اكتساب وعي دستوري بقيت سابقاته ضعيفة. ففي دراسة صدرت عن "أدلفي بايبرز" وحملت عنوان "نحو روسيا الأقاليم"، اعتبر نيكولسون أنه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، ونظام الدولة الروسية في تحوّل. إلا أن مسألة حكم البلد، وكيفية ذلك، لا بل قابليتها للحكم أصلاً، تبقى بلا جواب. فقد تطور نظامها الفيديرالي عبر سلسلة من المساومات بين الحكومة المركزية وإدارات الأقاليم، وكانت النتيجة إطاراً دستورياً ضعيفاً تنعكس فيه عناصر وهن مديدة ومتوارثة. أما التوازن بين السلطتين السياسية والاقتصادية فيبقى مضطرباً، رغم اختلاله، في آخر المطاف، لمصلحة الأقاليم. وباستثناء الصراع والحرب في شمال القوقاز، فإن تبادل الجذب بين المركز والمناطق ظلّ يتسم بالتفاوض والسياسة أكثر مما بسفك الدم. فقادة المناطق، على رغم ميولهم الانفصالية، لا زالوا بالغي الاعتماد على المركز تبعاً لحاجتهم إلى الدعم المالي والسياسي، بينما غايتهم الحصول على الاستثمارات الخارجية أكثر منها الحصول على اعتراف الخارج بهم كدول مستقلة. وبدورها، لا تواجه روسيا تحديات خارجية تهدد وحدتها وترابها الوطني، ولا تُبدي قواها الأمنية أية نعرة انفصالية. غير أن استقرارها الداخلي إنما تم تحصيله على حساب صحتها الاقتصادية والسياسية. ويبدو ان ذاك الاستقرار قصير الأمد فيما تدهور صحتها تلك طويل الأمد. وفي غضون ذلك، وفي غياب إطار دستوري واضح، توصّلت نُخب المناطق والمصالح التي تتمثّل بها إلى تصليب سلطاتها، وإاعقة خطوات التطور الديموقراطي لروسيا كما للمناطق، فضلاً عن تخريب أسس الاصلاح الاقتصادي، والحظر الراهن ليس أن تتبع روسيا طريق الاتحاد السوفياتي وتتجزأ هي الأخرى. بل ان تكفّ الدولة فعلياً عن الوجود والتأثير في موازاة تصارُع النُخب المركزية والمنالطقية على عوائد البعد المتناقصة. والحال أن العلاقة بين المركز والأطراف تعوزها إعادة التعريف في ساحتين أساسيتين: أولاً، انشاء نظام واضح ومحدد للعلاقات المالية كي يشجّع على نشوء اقتصادات مناطقية شفافة تُبنى قياساً بالسوق استجابة لها. ثانياً، عقلنة عملية تفريع السلطة المركزية وتعاظم سلطات الأقاليم، على أن يتم ذلك من داخل سياق دستوري دقيق. فروسية، البلد الأكبر مساحة في العالم، تتطلبّ نظاماً فيديرالياً ما. والموديلات الأوروبية لتفريع سلطة كانت مركزية، على ما رأينا في المانيا واسبانيا، لا تبدو قابلة للانطباق على التركيبة الروسية وخصوصيتها. غير أن هذا الإلحاح يضع روسيا والأقاليم في مناخ اختباري لم يثر إلا القليل من اهتمام العالم الخارجي الذي اقتصر انتباهه على البؤرة الانفجارية في القوقاز. والمناخ المذكور لن يقلّ أهمية عن مرتكزي الاصلاح الآخرين في ما بعد الدولة السوفياتية: نظام انتخابي تعددي محل سلطة الحزب الواحد، وتطوير اقتصاد سوق محل ملكية الدولة والتخطيط المركزي. وهذه جميعاً مهام يرتبط نجاحها بنجاح التفريع الفيديرالي وبلورة أطره الدستورية. وما يلاحظ ان يلتسن الذي اختار، ولو نظرياً إلى حدّ بعيد، اعتماد الاصلاح الراديكالي لأنظمة روسيا السياسية والاقتصادية، فإنه لم يُحدث أي تغيير في النظام السوفياتي السابق للجمهوريات والمناطق. وهكذا استقرت العلاقة بين هذه الأخيرة وبين موسكو على توازن قوى رجراج وعرضة للتفاوض الدائم. ومع أن محاولة أشد رصانة وحزماً في عقلنة البنية الفيديرالية المهلهلة، كانت لتمارس بعض الضغوظ على التركيبة الداخلية والوطنية الروسية، إلا أن تحقيق الاستقرار والتوافق عبر الاغفال عن حلّ المشكلات هو ما لا يؤمن إليه كثيراً. وفي ظل غياب إطار تنفق عليه للقواعد والقوانين، غدت عمليات الخصخصة نفسها أسيرة مصالح النخب المركزية والمناطقية. وهذا مع العلم ان النخب المذكورة، فضلاً عن تصارعها في ما بينها، ليست وريثة تقليد رأسمالي حديث أو تجربة سياسية ودستورية ناضجة. وهذا مجتمعاً أحبط الاصلاح الاقتصادي في الصلب المجتمعي والذي من دونه، ومن دون التأسيس عليه، يستحيل وضع أي برنامج للاصلاح قابل للتطبيق على نطاق وطني. فالحرية التي تمتع بها قادة الأقالية في إدارتهم وتسييرهم لمناطقهم كيفما عنّ لهم، صار عبئاً على نمو الديموقراطية في تلك المناطق، كما حال دون نشأة أحزاب سياسية وطنية. ومع ظهور علامات على نشئة أحلاف انتخابية وطنية - مناطقية، تبقى السياسة مشخصنة إلى أبعد الحدود. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أيضاً حجم روسيا وتنوعها، تأكدت صعوبة التوصل إل ى نظام حزبي على مدى وطني. ثم ان العلاقة الوثيقة بين سلطات الاقاليم والوحدات العسكرية المحلية لا تتساوق، إلى الأمد البعيد، مع أي من المهتمين: اندماج القوات المسلحة وتدالج الدولة الروسية. أما على المدى القصير، فإن التحالفات غير الرسمية بين الوحدات السياسية والعسكرية، فلن تُستخدم من أجل فرض ضغوط سياسية على المركز. ذاك ان القادة السياسيين للأقاليم والقادة العسكريين المحليين يجمع بينهم الاهتمام باعتصار العوائد المالية من المركز أكثر مما تجديه عسكرياً، بينما يعني التنافس بين نُخب الأقاليم فشل أي محاولة لبناء عمل منسّق. وعلى أية حال، فإن التوصل إلى خطط آيلة إلى حكم ذاتي أكبر وإلى تصليب البنى الأمنية للمناطق تحتاج إلى رساميل كافية كي تضمن عدم انقلاب الأحلاف غير الرسمية إلى عوامل إقلاق وفوضى. إن روسيا في أمسّ الحاجة إلى شكل ما من البنية الفيديرالية، غير ان هذا التفريع للسلطة ينبغي ان يجري من داخل إطار قانوني شفّاف. فالنظام الحالي القائم على مداولات ثنائية بين المركز والأقاليم هو، في أحسن أحواله، غير كافٍ وتعوزه الفعالية، وفي أسوأها تمهيد لمركزية مشوبة بالفوضى وإنعدام السيطرة. وفي الأحوال كافة، وبالنظر إلى حالة يلتسن السياسية والصيحة، يُرجحّ للتغيير الجدي إذا ما كان سيحصل، ان يحصل بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في تموز يوليو 2000: وسيحتاج الرئيس الجديد، في المدى القصير، إلى أن يدعم إصلاح العلاقات المالية، وهذا سيجعل من الملحّ إصدار تشريعات فيديرالية جديدة تغطي الخزانة والضرائب وتكون أنفذ من الاتفاقات الثنائية المشوبة بتفضيل اقليم على آخر. فتأسيس اقتصاد يتمتع بالشفافية والترابط على مستوى المناطق، هو ما سيفضي إلى استئصال الأسباب الجذرية للفساد، مؤدياً من ثم إلى تشكيل قاعدة لدمقرطة السياسات المناطقية، كذلك سيضطر الرئيس الجديد لأن يوفّر الدعم الكافي، وعلى الأصعدة جميعاً، للسلطة الشرعية، فهذا ما سوف يسمح للمحاكم بالعمل في صورة مستقلة عن سلطات الأقاليم، وما سيسهّل السيطرة على الحكام المتفردين والمزاجيين. أما المحاكمتان العليا والدستورية فينبغي أن تتمتعا بالدعم السياسي تمحضه السلطات المركزية حتى حين تكون قراراتهما معاكسة لما هو مرغوب ومطلوب. وسيضطر الرئيس الجديد، على المدى البعيد، لأن يباشر حواراً جدياً يطول مستقبل الفيديرالية. وهذا ما لن تقتصر فوائده على مساعدة المركز في تصميمه على بلورة سياسة للأقاليم لا تزال غائبة، بل سيطمئن سياسيي الأقاليم إلى دور لا بد ان يلعبوه في صياغة تلك السياسة. وعلى حوار كهذا ان يحاول تكييف وقولبة السياسات التي تطورت منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في تسوية دستورية جديدة. بيد أنه لا بد، من أجل جذب سياسيين المناطق والأقاليم، من تفحص الحلول الموقتة التي تقدم التغيير الدستوري كأنه قابل للاستغناء عنه، ومن مراجعتها، وهذه العملية ينطوي فيها رفع دور الأقاليم في صنع القرار المركزي، بما في ذلك اعتماد ممثلين دائمين لها في مجلس الفيديرالية ومقره موسكو. لقد سبق القول بعدم وجود أخطار خارجية على وحدة روسيا وتماسكها، وان العناصر الخارجية ليست حاسمة التأثير في ما يتعلق بإصلاح البنية الفيديرالية للبلاد. لكن انعدام الاستقرار في الدول المجاورة لروسيا، وبالأخص كازاخستان وأوكرانيا، يمكن أن يدمّر العلاقة بين المركز والمناطق. وفي المقابل، وبالنظر إلى ميزان العلاقات، يمكن الحديث عن طاقة استراتيجية واضحة وغير مستنفدة. فإذا بدا من السعب التغلب على انفصال الأمر الواقع في الشيشان وإعادة الروابط إلى ما كانت قبلاً، بقي أن خطر الحالة الشيشانية على استقرار روسيا ككل لا يتعدى الحدّ الأدنى، غير أن أية محاولة من الدول الواقعة في الجنوب لاستغلال ضعف روسيالا في شمال القوقاز، ستضاعف صعوبات احتواء المشكلة. وفي الشرق الأقصى المنهك والمتخلف اقتصادياً، ستحتاج السلطات المركزية والمناطقية معاً إلى اتخاذ خطوات تخلق بموجبها بيئة صالحة للرساميل الأجنبية، لا سيما ايجاد درجة من الاستقرار السياسي في بريمورسكي كراي وعاصمتها فلاديفو ستوك، إذ أنها مدخل أوكرانيا على اليابان، والتغلب على مقاومة المناطق للعمالة الأجنبية، فتزايد التجارة عبر حدود روسيا - الصين، والاستثمار الياباني واستغلال احتياطي الغاز في ساخالين، ستساعد كلها على انعاش المنطقة. وما دامت العلاقات السياسية والتجارية قد تحسنت بذاك الجوار عموماً، صار في وسع المنطقة مماشاة تجارب الانفراج والتعاون التي شهدتها بقاع آخر من العالم. وإذا ما توسع الاتحاد الأوروبي ليضم بولندا وليتوانيا، غدا من الضروري وضع ترتيبات جديدة في ما خص كاليننغراد التي تفصلها ليتوانيا عن روسيا، وهي مقر الاسطول البلطيقي وميناء روسيا الوحيد على البلطيق، عند ذاك لا بد، مثلاً، من موازنة الحركة الحرة من المنطقة وإليها مع ما تستدعيه حماية الحدود الخارجية لبلدان الاتحاد الأوروبي. إن الدولة الروسية تعيش، أو يفترض أن تعيش، مخاض إعادة تأسيس نفسها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ومع مرور قرابة عقد على ذاك الحدث، تراجعت سلطة المركزز، ولن يكون في وسع أي حاكم سلطوي يأتي إلى الكرملين أن يعيد بناء دولة مركزية قوية. وفيما تستعيد الأقاليم شخصياتها الفردية والمتنوعة، ربما كانت "روسيا الأقاليم" مشروعاً قابلاً للولادة والبلورة، خصوصاً ان الروس يعيشون بأعداد كبيرة في معظم تلك الجمهوريات - الوحدات الإدارية، لكن هل يتغلب وعي دستوري يجمع بين الوحدة والخصوصية في موازنة دستورية أم يتكرر السيناريو السوفياتي في روسيا نفسها؟ * كاتب ومعلق لبناني.