احتفلت بودابست اخيراً بالذكرى الخمسين بعد المئة لأقدم جسرٍ حجريٍ ثابت يربط بين ضاحيتيها: بشت وبودا عبر نهر الدانوب. وكان الناس يعبرون قبل ذلك بواسطة القوارب أو العبارات أو على الجسور الخشبية العائمة. ويعود اول الجسور العائمة المؤقتة الى نهاية القرن الرابع عشر، وأنشأ الأتراك العثمانيون في عهد الباشا مصطفى الصقلي حاكم بودا العثماني بين 1566 و1578 جسراً عائماً بعد أن ربطوا سبعين قارباً الى بعض ليصلوا بين الناحيتين. وقد دُمر الجسر العائم هذا نهائياً بعد أن طرد المجريون العثمانيين من قلعة بودا في العام 1686. وربطت جسور عائمة أُنشئت لاحقاً الضاحيتين مع بعض، غير أن استعمال الجسر العائم اقتصر على الأشهر الدافئة، إذ تعين تفكيكه في أشهر الشتاء عند تجمد النهر وانسياب القطع الجليدية فيه، ويعني ذلك صعوبة الاتصال بين المدينتين خلال الشتاء. كما أن العبور على الجسر الخشبي كان محفوفاً بالخطر في أوقات الفيضان، وقد انهارت الجسور لهذا السبب مرات عدة. غير أن حركة المرور عبر نهر الدانوب اشتدت، سيما بعد أن اتحدت ثلاث مدن هي بودا وبشت وبودا القديمة قبل 125 سنة لتكوّن مدينة بودابشت المعاصرة مما تطلب انشاء جسور حجرية ثابتة. وتعود بداية قصة جسر السلاسل الى العام 1832 عندما زار السياسيان المجريان إشتفان سَيْتشَني وجورج أندراشّي انكلترا للتباحث مع المهندس آدم كلارك الذي صمم عدداً من الجسور على نهر ال"تايمز". وجرى الاتفاق سريعاً مع المهندس الانكليزي لبناء الجسر في المجر. غُرزت أول قائمة في النهر في 28 تموز يوليو 1840، وشدت أولى السلاسل الفولاذية بعد اندلاع الثورة المجرية ضد حكم هابسبورغ في 15 آذار مارس 1848 وأُنجز شدها في صيف ذلك العام، غير أن حرب الاستقلال المجرية أخرت إنجاز الجسر. وقد تبادل المجريون والنمسويون السيطرة على المدينة ثلاث مرات خلال بضعة أشهر، ومع ذلك أُنجز الجسر في العام اللاحق وجرى تسليمه للمارة بعد سحق الثورة المجرية بفترة قصيرة، في 20 تشرين الثاني نوفمبر 1849. وكان النمسويون المنسحبون قد حاولوا تفجير الجسر خلال الحرب التحررية لاعاقة تحرك الجيوش المجرية، لكن مسعاهم لم ينجح. غير أن ما فشل النمسويون في تحقيقه العام 1849 أنجزه الألمان المنسحبون أمام الجيش الأحمر السوفياتي في 18 كانون الثاني يناير 1945 عندما فجروا كل جسور بودابست وبضمنها جسر السلاسل. وكان منظر المدينة بعد الحصار مريعاً، فقد دمر الألمان جميع الجسور على الدانوب وتسبب قصف الحلفاء المتواصل للمدينة فبخسائر مادية وبشرية هائلة. وابتدأ العمر الثاني للجسر بعد قرن من إنجاز بنائه بالتمام، في 20 تشرين الثاني1949، فكان أول جسور بودابست المدمرة التي أُعيد بناؤها. يصل الجسر ساحة روزفلت في جانب بشت بساحة آدم كلارك في صوب بودا، ويتصل الجسر بنفق طويل يمتد تحت جبل قلعة بودا التي تحتضن القصر الملكي والعديد من الأبنية المهمة. ويزين مدخلي الجسر الذي يقرب طوله من 400 متر زوجان من الاسود. وتقول الرواية ان الفنان الذي نحت الاسود انتحر بعد أن تنبه الى خطأ وقع فيه فور انجاز التماثيل، فقد نسي أن ينحت ألسنةً في أفواه الاسود الفاغرة. ويعتبر الجسر والنفق ومنطقة القلعة والمناطق المحيطة بها من التراث الانساني العالمي وتتمتع بحماية منظمة اليونسكو. وبهذه المناسبة تبرعت شركة جنرال الكتريك تونغسرام بتبديل الاضاءة الفنية على الجسر، بحيث ينخفض استهلاك الطاقة الكهربائية بمقدار 75 في المئة عن نظام الاضاءة السابق. الاحتفال دام الاحتفال طيلة يوم السبت، من العاشرة صباحاً حتى ساعة متأخرة من الليل، بكثير من الموسيقى والمسيرات والألعاب والندوات الأدبية. واقيم معرضٌ للصور الفوتوغرافية تمثل حياة الجسر في متحف الفوتوغراف المجري، عرضت فيه 50 صورة اُختيرت من بين الآلاف التي بدأ جمعها منذ ظهور التصوير الفوتوغرافي. وبهذه المناسبة أيضاً طرحت شركة الاتصالات المجرية بطاقات هاتف تحمل صور الجسر، وأصدر البريد المجري سلسلة من الطوابع. وتمتع الجمهور بعروض جوية فنية قدمها ثلاثة طيارين فوق النهر، وجرى سباقٌ للقوارب في مياهه. وخلال ذلك اليوم الذي طردت فيه السيارات من الجسر ومحيطه وامتلكه السابلة، تحول النفق الى غاليري عرضت على جدرانه اللوحات المشاركة في مسابقة فنية أعلنتها بلدية العاصمة. أما الشرفة الواقعة فوق مدخل النفق فقد تحولت الى مقهى من مقاهي بودابست القديمة المندثرة، دعي اليه الشعراء والسياسيون والفنانون وعقدت فيه الندوات وتقاسمت الضاحيتان الفنون: فكانت حصة بودا الموسيقى وتعددت على خشبات المسارح التي أُقيمت هناك فرق الموسيقى، وقدمت ألواناً من موسيقى النحاسيات والجاز والموسيقى الجادة والشعبية والبوب وغيرها. أما بشت فحصلت على نصيبها من المسرح والأدب ومسرح الدمى العرائس والتمثيل الصامت، وجرى تقديم آخر المطبوعات التي تتحدث عن الجسر وعصره وبودابست منتصف القرن التاسع عشر.