Philippe Labarde et Bernard Mares. Preface: Serge Halimi. Ah dieu! Que la Guerre Economique est Jolie. Alben Miche, Paris. 1998. 280 Pages. "يا الهي كم ان الحرب الاقتصادية جميلة"، أو"انتفاضة المثقفين ضد فكر آحادي يمثل مصالح رأس المال العالمي". كان يمكن لهاتين العبارتين ان تشكلا معا عنوانا طويلا لرواية تحكي مغامرات نهاية القرن - او نهاية الالفية - التي تحركها علاقات القوى بين مصالح حدث لها ان تعرت في نهاية الامر، أو عنوانا لحكاية الصراع الذي تخوضه الغالبية العظمى من سكان العالم ومن انتدبوا انفسهم لتمثيل ما تبقى من مصالح هزيلة لهؤلاء، ضد فعل ايمان الليبرالية الجديدة والناطقين به. الحقيقة ان الليبرالية الجديدة - وقد استفردت باللعبة - باتت مظفرة وكلية الهيمنة منذ اللحظة التي انهار فيها النموذج السوفياتي. اما حركة تطورها وتصاعدها فانها تتم بوتيرة هي من التسارع بحيث تتسبب في طريقها بانهيارات وعواصف لم يسبق لها مثيل. ومن هنا فإن اشخاصا مثل فيليب لابارد وبرنار ماري - من محرري مجلة "شارلي ايبدو" -، يحذون حذو عدد من المثقفين الغاضبين ومن بين هؤلاء صحافيون مثل سيرج هاليمي واغناتسيو رامونيه، وجامعيون ملتزمون من طراز بيار بورديو، وروائيون مثل فيفيان فورستر وميشال هوسون فيخوضون المقاومة ضد "الوباء الليبرالي". وفي اطارهذه المقاومة يصدر لابارد وماري في 1998 كتابا عنوانه "يا الهي كم ان الحرب الاقتصادية جميلة"* مستعار من عبارة للشاعر ابولينير قال فيها: "يا الهي كم ان الحرب جميلة". والكتاب المذكور عبارة عن تأمل في مسار تطور المجتمع "النيوليبرالي" وتطور المصالح التي يعبر عنها ذلك المجتمع وترجمته الايديولوجية التي تعطي الارجحية للعنصر الاقتصادي وللعبة المال على العنصر السياسي والاجتماعي. تعالج هذه الدراسة المثيرة، وبطريقة تهكمية، انحرافات مجتمع اليوم وذلك بالانطلاق من المقارنة الصاخبة بين "حرب الاسواق" و"حرب الخنادق". وفي هذا الاطار يركز المؤلفان، في خط تفسيري واضح، على العولمة الاقتصادية والآثار التي تتركها على خطاب سياسي يدعو الى الصرامة الاقتصادية والى التقشف شرط الا يطبقا الا على مصالح الشعوب التي يضحى بها على مذبح مصلحة الاسواق المالية والمضاربين فيها. ويرجّح ان هذا الميل الذي يبديه بعض المثقفين الى سلوك درب المقاومة يعكس رغبتهم في ملء فراغ سياسي. أي انهم، بكلمات واضحة، يتطلعون الى الحلول محل معارضة اشتراكية - بالمعنى العريض للكلمة - وإسماع صوت مختلف في معارضته الحادة لليبرالية الجديدة" ومن نافل القول ان هذا المحل قد بات خاليا منذ بعض الوقت، اي منذ كف اليسار الاشتراكي عن لعب دور المعارضة لينخرط كليا في لعب ورقة الدولة المؤسساتية مع كل ما يعنيه ذلك من انخراط في العولمة وما يترتب عليها. في هذا المعنى قد يصح ان نقول انه تحول الى "يسار اشتراكي ليبرالي" تاركا على يساره مساحة كبيرة خالية. ولئن كان ثمة امل اليوم فإنه، حسب تعبير بيار بورديو، لا يمكن ان يكون الا في "توفير اسلحة النضال المفيدة لكل اولئك الذين يجهدون في سبيل مقاومة الوباء النيوليبرالي المستشري". وهكذا نجدنا، مرة اخرى، امام التعبير عن الرغبة في اصلاح مجتمع يستنفد نفسه بنفسه، وفي تقويم وضبط انواع التجاوزات النيوليبرالية في اتجاه عقلنة ضروب التبادل والوصول الى عدالة اجتماعية حقيقية. من الواضح الآن ان تحرك المثقفين المعادي للنيوليبرالية ينمو ويتطور بحيث بات يجد له صدى كبيراً وأكثر من اعتيادي لدى قطاعات واسعة من الجمهور العريض" ومن هنا ما نلحظه من بداية انتظام الهجوم المضاد عليه. فالحرب الاقتصادية، بحسب لابارد وماري، تأتي لتفضح - بذكاء وقوة - تجاوزات وافراطات النظام الجديد الذي نعيش في ظله. والمؤلفان يشرحان لنا على مدى صفحات الكتاب، كيف ان بالامكان، عن طريق تمرس قوي في العمل الايديولوجي، اقامة التعارض والاستفادة منه، بين السلفي الذي هو في طبيعته معاد للاقتصاد، والتحديثي الذي لا يتوانى عن خوض المعركة الاقتصادية منحني الهامة امام الخطاب الليبرالي المعادي للدولة وتدخليتها. وفي خضم ذلك يحدثنا المؤلفان عن "دكتاتورية السوق" و"نزعتها الشمولية" ويشرحان الكيفية التي بها تدير دكتاتورية السوق شؤون المجتمع قابضة على خناق ومصائر المليارات من افراد البشر. بالنسبة الى المؤلفين يقوم دور السياسيين في ضمان الوثوق بالاسواق ولو ضحوا في سبيل ذلك بالشعوب التي انتخبتهم ومهما كان توجه تلك الاسواق. وعلى هذا بات يمكن القول إن الزمن اليوم هو زمن "افقار الامم جميعا وتحويلها الى عالم ثالث". انه الزمن الذي تمحي فيه دولة العناية وتدخليتها لصالح نمط دولتي اميركي اثبت حتى اليوم نجاحه. ولنلاحظ ها هنا ان العولمة تقدم في الخطاب الدعائي على انها "قدر لا مفر منه" وعلى انها رمز "للحداثة وللانظمة العصرية المتطورة". غير ان ما نشهده اليوم في حقيقة الامر - وحسب ما يقول مؤلفا الكتابين - انما هو العودة الى نمط متوحش من الرأسمالية. العولمة ليست اكثر من عودة الى شريعة الغاب والفلتان وسيادة اللاقانون اي الوضعية التي كانت الرأسمالية تعيشها ما قبل الحربين العالميتين. ان المسألة الاساس هي مسألة كنس دولة العناية من زوايا الارض كافة بعد ان كانت هذه الدولة تحمي الضعفاء وتساند المعوزين وترجّح كفة الطبقات الوسطى. والمثل الاعلى، بالنسبة الى النيوليبرالية يكمن في الغاء الضرائب المباشرة والتأمينات الاجتماعية ومواثيق العمل. الدولة، باختصار، هي العدو، الا حين تتولى تمويل عمليات المضاربة ضامنة عن طريق المساعدات ارباح الشركات الكبرى ومستقبلها. وهنا في سبيل التوكيد على هذا كله يطالعنا المؤلفان بنظرة تفحصية الى التعابير التي لا يتوقف عن استخدامها آباء الصرامة الاقتصادية الطيبون: "تقشف"، "توازنات كبيرة من الضروري تحقيقها"، "تضحيات يجب بذلها"، "ضرورة الحد من الانفاق غير المجدي"... وهي كلها عبارات ومصطلحات تعكس رغبة المسؤولين في اعطاء الافضلية للوثوق بالسوق عبر التضحية بالشعوب ومصالحها. وفي النهاية يختتم لابارد وماري نظرتهما التأملية بكيل اسمى آيات المديح الى المقاومة والى مبدأ الاستنكاف عن خوض الحرب الاقتصادية، مفسرين كيف ان الحلول موجودة وكيف ان في الامكان تجاوز النيوليبرالية، بل الاستغناء عنها. ان موقف هذين المؤلفين لا يعكس في نهاية الامر - على غرار مواقف غيرهما من المثقفين المقاومين - اكثر من صيحة غضب في وجه منظومة صار لها استقلالها الذاتي الذي يؤمن لها القدرة على الاشتغال ذاتيا وباسم الجميع. إنها صيحة "كفى!" يطلقها المؤلفان في وجه سلطة السوق التي باتت تتحكم بمصير الانسان الفرد خارج اطار اية رقابة وفي غياب اية معارضة جدية. غير ان اقل ما يقال في موقف هذين المؤلفين انه موقف مبدئي لا اكثر، بالنظر الى انه من غير المؤكد ان مقاومتهما - ومهما كانت قوية - تكفي للتصدي للقوة الهائلة والاستثنائية التي يمتلكها النظام العولمي الجديد. اشخاص كثر يناضلون اليوم في سبيل الوصول الى نوع من العقلنة للنظام الاقتصادي العالمي المذكور، او على الاقل في سبيل الحد من تجاوزاته وافراطاته. وهم على هذه الدرب يقفون ساعين لايجاد اواليات رقابة وضبط على الصعيد العالمي غايتها فرض ضرائب وامتثال، على عمليات التبادل المالي. ومن هؤلاء، على سبيل المثال، انصار الضريبة المعروفة باسم "ضريبة توبين" وهي ضريبة ينادى بفرضها على الارباح المتحققة خلال مبادلات اسواق القطع على الصعيد العالمي. في مثل هذا السياق يكون فعل المقاومة هو الرغبة في تأطيرالنظام الاقتصادي وضبطه لمنعه من الانحراف. ثمة هنا في مطلق الاحوال رغبة في الحد من الخسائر الاجتماعية الناتجة عن هيمنة الاسواق ورأس المال المالي عبر التخفيف من جبروت نظام لا يمكن اصلا احداث اي تأثير عليه لأن فرض اي تغيير عليه معناه التراجع عنه الى زمن سابق عليه. وهنا نلتقي من جديد بتلك الارادة الاولية التي كانت تميز الاشتراكية الديقراطية التي كانت ترغب ذات زمن في تغيير المجتمع عبر اصلاحه، اي عبر بعض الاضافات ذات النزوع الاشتراكي والقادرة على تأطير المجتمع وضبطه بعض الشيء. لكننا نعرف ان الامر انتهى بالاشتراكية الديمقراطية الى الاندماج في النزعة النيوليبرالية ما اوقف بالتالي فاعليتها و... الحاجة اليها. ان رد مقاومي اليوم ينتظم، في احسن الاحوال، من حول عدد من المطالب التي تتموضع عند المستويين السياسي والاقتصادي. انه رد سياسي ذاك الذي يتحلق من حوله عمل هذه الحفنة المقاومة الغاضبة من المثقفين. وهو يأتي هنا ليعوض عن غياب المعارضة السياسية في وجه فلتان رأس المال. غير ان المشكلة تكمن في ان هؤلاء المقاومين يموضعون انفسهم، ثقافيا، في مواجهة عملاق ليس ثمة ادنى شك في انه يواصل طريقه دون ان يأخذ معارضتهم له في حسبانه. ان هؤلاء المثقفين يجابهون اليوم الكوارث الاجتماعية الناتجة عن هيمنة دكتاتورية السوق، والازمات المتكاثرة كنتيجة لذلك كله، لكن هذه المقاومة ليست اكثر من مقاومة في فراغ. لقد فات اوان الرد الفعال. صحيح انه من الضروري من الناحية الايديولوجية ان توجد معارضة تقف في وجه التوتاليتارية الجديدة، ولكن هذه المقاومة لن تسفر عن شيء على الصعيد العملي. فالحال ان معارضة نمو رأس المال المالي والرغبة في التخلص منه امر هو من الطوباوية بحيث يضاهي تلك المعارضة التي حاولت، عبثا، ان تجابه رأس المال الصناعي في الماضي. لقد بات واضحا اليوم انه ليس في الامكان احتواء النظام العالمي الراهن، او السيطرة على المضاربات او ضبط العولمة وفرض الرقابة عليها وبالتالي العودة الى دولة العناية. باختصار لم يعد بالامكان اليوم الرجوع الى الوراء تحت طائلة المجازفة بأن يترسخ النظام القائم اليوم ليبقى لزمن طويل آخر مهيمنا على الاقتصاد المصرفي ككل. في كتاب له صادر حديثا بعنوان "عالم من دون شريعة" يبرهن البروفسور جان دي مايار على استحالة اقامة مؤسسات دولية للرقابة طالما ان النظام القائم اليوم سينهار إن هو حُرم من اموال التهريب والرشوة والجريمة المنظمة وعمليات تبييض الاموال. من هنا فإن الرغبة في اقامة قواعد للضبط ليست اكثر من تعبير عن الرغبة في ايجاد دواء، لن يكون سوى علاج سطحي لجرح بات شديد العمق وشديد الاتساع. اما الازمات الراهنة فإنها البرهان الساطع على لاعقلانية نظام يشتغل على المدى القصير ويعرف كيف يدير نفسه بنفسه اوتوماتيكيا. وفي الاحوال كافة فإن من يدفع الثمن هو المجتمعات والشعوب. وحسبنا للتيقن من هذا ان ننظر الى ما يحدث في المكسيك، في روسيا او في البرازيل، حيث يقوم البنك الدولي - الذي بات على اية حال ذا احتياطيات مالية يمكن لها ان تنضب منذ دأبت الولاياتالمتحدة على عدم دفع ما يترتب له عليها - بإقراض الاموال للحكومات المفلسة شرط ان تبقي على ما يسمى بالاصلاحات التي تقوم على مخططات وقف الدعم عن قوت الشعوب والتقشف في الميزانيات والخصخصة وما الى ذلك. ولسنا بحاجة الى التذكير طبعا بأن كل هذا يتناقض جذريا مع مصالح المجتمعات والشعوب. في مقابل هذا من المؤكد ان الرغبة في تجديد يستند الى الكينزية بالعودة الى دولة العناية والتدخل والدعم وتقديم الخدمات، بات امرا فيه قسط كبير من المجازفة، بل بات امرا مستحيلا" وذلك لأن على النظام المهيمن الآن ان يتابع تطوره مهما كانت هنات ذلك التطور وكوارثه. لا بد الآن من استمرار التناقضات القائمة داخل مجتمعاتنا المعولمة التي فُرض عليها نوع من السلم الاقتصادي القسري. اما السياسة التي تبدو اليوم ملائمة اكثر من غيرها فهي سياسة "ترك المجال لتعفن الاوضاع حتى اقصى درجات التعفن". فالحال انه ليس هناك امل في اية سياسة اخرى، بالنظر الى ان النظام الاقتصادي القادم يتعين عليه بمجمله ان يعيش تطوره الخاص حتى النهاية ودون ان تطوله اية ضربات ذات منحى إشتراكوي تحاول ان تؤخر مسيرته. بعد هذا كله افلا يمكننا ان نقول ان هذه المقاومة التي يمارسها اناس ذوو نفوذ لا يمكنها ان تمثل تحركا طليعيا؟ إذ، بشكل ملموس، ما الذي يمكن ان تكون عليه هذه المقاومة وما هي ادواتها؟ ان الحضور الايديولوجي والثقافي لا يكفي مهما كان حجم انتشاره وفاعليته. فالنضال الحقيقي لا يمكن ان يكون الا بالاسلحة نفسها، اي الاسلحة الاقتصادية. مما لا شك فيه ان العولمة في حد ذاتها تمثل مرحلة حداثة وتقدم. وهي خطوة الى الامام ضرورية لا يمكن لاحد ان يكون جادا في الاعتراض عليها من حيث المبدأ. ومنع منظومتها من الاشتغال معناه اضاعة الوقت من غير طائل. والمعركة خاسرة سلفا. صحيح ان العولمة تخلق اوضاعا عبثية وحالات مؤسية، غير ان على المجتمعات ان تدفع هذه الضريبة ثمنا للتطور. المهم اليوم هو ترك المنظومة تصل الى ذروتها، لا بذل الجهود للوصول الى ترياقات غير واقعية وغير مجدية، وهو ما يحاول ان يفعله اولئك المقاومون عبر التركيز على واقع ان هذا النظام ذهب ابعد مما كان يتعين عليه ان يذهب. ولكن الم تعلمنا دروس التاريخ ان اي نظام لا يمكنه ان يكتمل ان لم يصل الى ابعد ما يمكنه الوصول اليه؟ بالطبع ليس معنى هذا ان النقد الذي يقوم به المقاومون المثقفون غير مفيد، بل على العكس. فثقافيا وايديولوجيا، من المؤكد ان الاعتراض الذي يبديه لابارد وماري وأمثالهما، وكذلك تلقّيه من قبل الرأي العام، امر صحي وأكثر من صحي. فهو يغذي ويطور التناقضات التي يمكن ان توصل التأزم الى ذروته المنطقية: الازمة المدمرة التي ستأتي من خارج المنظومة الاقتصادية نفسها. اما الاسواق فإنها لن تتأثر بذلك كله، اللهم الا اذا اشتدت حدة الازمة وتحولت الى قطيعة بنيوية حادة. عند ذلك سوف تكون القواعد الكينزية على الرحب والسعة. ولكن ها هنا سوف يكمن خطر حقيقي: خطر ان نرى الاقتصاد المالي المزدهر وهو ينطلق من جديد على اطلال العنصر الاجتماعي. في مثل هذه الحال لن يتطلب الامر الوصول الى اقل من حل جذري تاريخي قطعي، وذلك لكي لا نجد انفسنا من جديد في مواجهة أزمات تتغدى من المضاربات ولا يستفيد منها سوى اصحاب الاموال ما يسفر عن كوارث اجتماعية ضخمة تهيمن على أربع زوايا الكون. اذا هل نقول بعد هذا كله ان الاوان قد آن للامعان في دفع نظام عبثي وظالم الى الانتحار عبر العمل على الوصول الى واقع آخر يكون اكثر منطقية وعقلانية؟ إنه لمن الواضح ان المثقفين يمكنهم ان يلعبوا، بعد، دورا في هذا التطور غير المضمون على اية حال.