تدفعك المرأة الجزائرية، وربما تكون قد تجاوزت الثمانين من عمرها، بكتفها بعنفٍ، وهي تمشي في الشارع، لابسةً "الحايِكْ"، لباسها الشعبي الاسود الذي يغطيها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، ما خلا الوجه، وربما غطّى جزءاً من الأنف... تدفعُكَ ثم تواصل سيرها الحثيث متفجرةً، وهي تردد كلمات بالفرنسية، تعبّر بها عن انفعالها. فقد بلغت آثار ما دمّره الاستعمار الفرنسي من خلايا اللغة العربية في الجزائر، حدود هذا الجيل بالذات من الجزائريين، وهو جيل متقدّم في العمر، ناهيك عن الناشئة والاجيال الجديدة. لعله، من اجل ذلك، أُثِر عن الشاعر والروائي الجزائري الراحل، مالك حداد، صاحب "الحمامة المطوّقة" و"الأسلاف يزدادون ضراوةً" و"رصيف الازهار"، وسواها من الروايات والمجموعات الشعرية، وكان يكتب بالفرنسية مرغماً غير مختار، بسبب جهله للعربية... أُثِرَ عنه قوله، مشيراً الى ولده الفتى الذي حرص على تعليمه العربية بأصولها: "إن هذا هو انتقامي من الفرنسيين". وهي اشارة رمزية، الى ان العربية دخلت في تلك البلاد، الى هذا الحد الهائل من الاستفزاز والانتقام وتوكيد الذات. نعرف ان ثمة محاذير كثيرة، في هذه الايام بشكل خاص، لربط الهوية الوطنية برمتها، في بلد من البلدان، بلغة واحدة هي اللغة الأم. فالمسألة أكثر تداخلاً وأكثر تركيباً من هذا الافتراض الذي يظهر، على بساطته وبداهته، وكأنه لا يجادل فيه. ان مفاهيم الحداثة، وما بعدها، وانتقال التقنيات والثقافات من بلد لآخر بقوة التطور وضرورته وآليته، وصعود لغة من اللغات العالمية، هي الانكليزية اليوم، وقبلها كانت الفرنسية، الى مرتبة اللغات السائدة في جميع ارجاء العالم، في التعامل التجاري والخدماتي من جهة، والتعامل العلمي والثقافي من جهة ثانية، كل ذلك يجعل من المناداة بلغة واحدة في البلد الواحد، شكلاً من اشكال الانطواء على الذات، ونوعاً من التحجّر امام رياح العصر والمستقبل... بل لعلّ تعلّم أكثر من لغة اصبح عنصراً من عناصر التطور الحديث، يظهر في الثقافة، مثلما يظهر في التجارة والمعاملات.. الا ان جميع هذه الافتراضات في واد، ومشكلة الجزائر مع اللغة في واد آخر. ان الجزائر اليوم، بحاجة الى اللغة العربية لتثبيت هويتها التي تكاد تتمزّق بين أكثر من هوية ولغة واتجاه، اكثر من حاجتها للتعدد اللغوي الذي هو من سمات الثقافة الغنية المعاصرة. ويأتي اغتيال المغنّي البربري "معتوب الونّاس"، الذي كان من دعاة الأمازيغية، متزامناً مع اعلان التعريب الرسمي الشامل في الجزائر، ليكشف عن بعض الاحشاء المستورة للحرب الاهلية الدائرة هناك بضراوة لا مثيل لها... حتى ليصحّ السؤال: هل الصراع على اللغة قادر على انتاج حرب مخيفة ومحيّرة وغامضة بحجم الحرب الاهلية الدائرة في الجزائر اليوم؟ علينا بادىء ذي بدء، وقبل ان نظهر تحفظاً تجاه هذا السؤال، الا نستهين بشأن اللغة. انها باختصار، هي الانسان.. بل لعلّ الانسان، بتعريف آخر "حيوان اللغة". وهي اداة وجود وشكل وجود للكائن البشري بل هي وجود كامل له. والصراع على اللغة أنتج تاريخياً مساراته الثقافية، كما أنتج حروبه المشهودة، وشهد تنقّل الثقافات من خلال تنقّل اللغة من مكان لآخر. لقد بقي العرب في اسبانيا اربعمائة عام، وأبدعوا فيها حضارتهم العظيمة من شعر وفكر وفلسفة وعمارة وغناء، ثم هزموا، وكان من أبرز نتائج الهزيمة، انحسار اللغة العربية، وحلول لغة الفاندال الوطنية مكانها. كما ان العربية بالذات، كانت في القرن الرابع للهجرة، العاشر للميلاد، لغة الحضارة السائدة في معظم بلاد العالم المعروف يومذاك، برغم تفكك الدولة المركزية العباسية وانفراط الامبراطورية العربية الاسلامية الى دويلات وإمارات متعددة. فالتفكك السياسي لم يؤثر على سيادة اللغة المنتصرة، وكان يستطيع ان يتزوّد بها المسافر، على ما يقول آدم ميتز في كتابه "عصر النهضة العربية"، من افريقيا الى الهند، ومن آسيا الى جبال البيرته وتخوم أوروبا، من دون الشعور بالغربة في هذه الاقطار الشاسعة من الخريطة القديمة، لانه سيجد من يتكلمها في كل مكان. إن مسارات اللغة وتعرّجاتها، وحروبها وهزائمها وانتصاراتها، معقّدة ومتداخلة، كما هو واضح. فهل اعلان الدولة الجزائرية للتعريب الشامل والإلزامي لدوائر الدولة والمعاملات الرسمية، يعتبر تثبيتاً لهوية تلك البلاد، وانتصاراً للعربية؟. تصعب الاجابة الحاسمة بالسلب أو بالايجاب عن هذا السؤال، تجاه واقع لغوي متشابك ومعقّد تعيشه الجزائر اليوم. فالمشكلة لا تحل بقرار أو بمرسوم سلطوي. بل لعل القرار أو المرسوم، يتحولان في حمأة الصراع، الى عنصر اضافي من عناصر هذا الصراع، ويكونان بمثابة نقطة جديدة من الزيت تصب على نار مشتعلة. فالعربية في انحسار قويّ، والفرنسية تحوّلت مع الايام، من لغة استعمار واستلحاق، الى لغة ثقافة وصحافة وتعامل يومي، بنسبة واسعة. ان ابرز وأهم الكتّاب والروائيين والشعراء الجزائريين، كتبوا نصوصهم بالفرنسية، من امثال مالك حداد وكاتب ياسين ومحمد ديب ورشيد بوجدرة وسواهم. وعلى الرغم من انحياز بعضهم النظري للعربية كمالك حداد، الا ان آخرين مثل كاتب ياسين وهو لا يقلّ عن حداد إبداعاً وشهرةً، أعلنوا انحيازهم التام للفرنسية، ودافعوا عن هذا الانحياز، فقال كاتب ياسين ان كتابته بالعربية، ستجعله كاتباً غير مقروء بشكل واسع النطاق، أو محدود الانتشار، بعكس الكتابة بالفرنسية ذات الانتشار الواسع. وحين اختار في آخر ايامه ان يكتب مسرحياته بلغة اخرى غير الفرنسية، اختار الذهاب الى الارياف وكتابة نتاجه هناك بالعامية الجزائرية، وليس بالعربية الفصحى.. كما ان رشيد بوجدرة، صاحب "الحلزون العنيد" وسواها من الروايات المعروفة بالفرنسية، فشل في الانتقال للعربية والكتابة بها، على رغم محاولاته المتعددة. اما الامازيغية، فلغة محلية للبربر، سابقة على العربية والاسلام في تلك البلاد، وما زال أهلها يتكلمونها ويكتبون بها حتى اليوم، في مناطق تيزي أوزو حيث اغتيل معتوب الونّاس، وجبال جرجرة. فالاشتباك اللغوي في الجزائر اشتباك معقّد، حتى ان قرار السلطة بالتعريب الرسمي ظهر وكأنه خطوة مفاجئة وصادمة، على الرغم من ان هذا الامر كان الشغل الشاغل للجزائريين من اكثر من عشرين عاماً، بل من عشية الاستقلال، بل قبل ذلك بمدة طويلة، تعود الى استعمار فرنسا لتلك البلاد، وإدراك الفرنسيين ان أهمّ عنصر من عناصر تذليلها، وتحويلها، وطمس هويتها الوطنية، هو تدمير لغتها الأم العربية... جاء ذلك صريحاً ودونما التباس، في وثائق وزارة الخارجية والمستعمرات الفرنسية، التي نشرت بعد مرور ربع قرن على نيل الجزائر استقلالها، فقد كانت هذه الوزارة، في مراسلاتها الرسمية مع الحاكم العسكري الفرنسي للجزائر، تلحّ وتشدّد عليه، بضرورة إقصاء العربية وإحلال الفرنسية محلها، في الدوائر والدواوين والمدارس، وفي التعامل اليومي، باعتبار ان تدمير العربية في تلك البلاد، هو افراغ قسري لها من هويتها، لادخال هوية اخرى لها هي "الفرنسية" من خلال اللغة. كان ثمة ما يشبه الاغتصاب اللغوي. وكان هذا العمل أكثر فتكاً في تذليل الجزائر وارباكها، من العمل العسكري. فآثاره لا تزال متمادية حتى يومنا الحاضر، بعد خروج الجيوش الفرنسية بزمان، وتتكشّف يوماً بعد يوم، الأبعاد الخفية للمذابح الاهلية التي تدار هناك، بسادية جماعية، مدبّرة بلا ريب، انها تحتجب فيها الاسباب العميقة والصحيحة لحمامات الدم المراق، تحت ستار من اللامعقول أو التطرف الديني المجنون، المتمثل بذبح الضحايا المدنيين والتمثيل بهم والرفض على أشلائهم... بحيث تطيش العقول في تحليلها لما يحصل، ويخرج الدارسون والمراقبون للوضع الجزائري الراهن، بالاسئلة المحيرة اكثر مما يخرجون بالاجوبة. ان حجاب العنف السريالي يحجب خلفه الاسباب المنطقية للحرب الاهلية الدائرة في الجزائر.. الا انه، تبقى للجنون نفسه في هذه الحرب، اسبابه الخفية المنطقية.. فهل الصراع على اللغة، مثلاً، هو من أهم اسباب إراقة الدماء؟ وهل كان كاتب ياسين يهجس بدموية هذا الصراع، حين رأى مبكراً ان "معتوب الوناس" سيكون فدائي أغنيته؟.