يتناول هذا الكتاب موضوع الزمن، وما يرتبط به من طقوس وأعياد تتكرر كل عام، عصر التنوير، وما اعقبه من ثورة صناعية، حددت عبر ثلاثة قرون حساسية خاصة تجاه الزمن. هذا التنوع الواسع في الموضوعات والافكار حول الكتاب الى معرض مترامي الاطراف، يضم بين اروقته نتاجات شتى، يجمعها عنصر اساسي هو الزمن، من وجهة نظر نخبة من الباحثين والكتّاب الغربيين، مثل الناقد الفني جون بيرغر، واستاذ الفيزياء الحديثة ديفيد بوهم والشاعر بيتر ريدغريف. يقول محرر الكتاب كريستوفر رولينس في تقديمه: "تتميز الحضارة الغربية بكونها فصلت بين الجسد والعقل، وهذا يرجع على الاقل الى عصر التنوير وديكارت. املنا هنا ان نجد الوسائل التي تمكننا من التحدث عن الزمن الذي يبني جسراً بين الاثنين، اي توحيد عالم الافكار مع عالم البيولوجيا، العالم الشعوري مع العالم الروحي. لذلك نجد ان على كل المشاركين في هذا الكتاب وضعوا مناقشاتهم حول الزمن مستندة الى الحقيقة الانسانية، بصيغة اخرى: وضع التجربة المعاشة حول الزمن قبل التفكير الفلسفي المجرد. يقيم جون بيرغر في فرنسا، منذ فترة طويلة، ومن كتبه المهمة في حقل النقد الفني "طريق الرؤية" و"نجاح وفشل بيكاسو"، اضافة الى اصداره روايات ومجموعات قصصية. وفي هذا الكتاب، يشارك بفصل كبير يحتوي على حكايتين ومقاطع تأملية تدور كلها حول الزمن: "ان يولد المرء يعني ان يدفع الى الزمكان. مع ذلك فنحن نختبر الامتداد الزمني قبل الامتداد المكاني. الرضيع يعيش الدقائق قبل ان يعيش الامتار. الطفل يحسب الغياب الوقتي للام بوحدة قياسية زمنية خاصة به. دورات الزمن: الجوع، الرضاعة، الاستيقاط، النوم، تصبح مألوفة للطفل، كوسائط للحركة". يمرّ معظم الاطفال بتجربة الضياع في الزمن قبل المرور بتجربة الضياع في المكان. "الغضب والبكاء اولاً ثم المكافآت التي يجلبها الزمن للطفل الرضيع، تحدث قبل ان يقوم المكان بتقديم مكافآته. على العكس من ذلك نجد الامر بالنسبة الى الحيوان، اذ انه حال ولادته يبدأ بكسب المكان، وهذا يحدث خصوصاً للحيوانات المجترّة. فالكسب المكاني يستمر طيلة حياتها، في حين يظل الطفل لفترة طويلة نسبياً معتمداً على الآخرين جسدياً، في الوقت نفسه، يكون خلال هذه الفترة اكثر حرية حيث يضع الاسبقية اثناءها للزمان قبل المكان. "الوضع البشري مرتبط بنمو الارادة المبكرة. الارادة تنمو ببطء، مع تطور القدرة على الوقوف والتحدث وتسمية الاشياء التي يرغبها الطفل… اثناء الطفولة المبكرة تختار الارادة اشياء قليلة جداً من الاشياء الغريبة المعروضة امامها… هذه الاشياء القليلة المعزولة عن بعضها تكون مرتبطة بالرغبة او بالخوف، وهذه الاشياء بدورها ستخلق شعوراً بالتوقع. وبذلك تدخل الى عالم الزمن". يضيف جون برغر، خاتماً مقالته ان الحياة المعاشة هي موضوع للروي بطرائق مختلفة، ومتكررة، عبر الدين والشعر، والامثال الشعبية، والاسطورة، والتأويل الفلسفي والعلمي، لكن ما حدث في القرن التاسع عشر ان الفكر البرغماتي صادر كل طرائق الروي وحصرها بطريقة احادية مستندة الى قوانين الطبيعة الميكانيكية، لكن الحالة هذه شهدت تحولات جذرية حالياً، اذ اصبح البحث العلمي في العقود الاخيرة يتجه الى دعم فرضية ان الكون وفاعلياته الكثيرة تشبه فاعليات الدماغ اكثر مما هي آلة". في فيزياء الكم، على سبيل المثال، يصبح الذاتي عنصراً متداخلاً في ما هو موضوعي، ففي مستوى معين، تبدأ مراقبة الالكترون، نفسها، بالتأثير على حركته ايضاً. من جانبه يطرح ديفيد بوهم استاذ الفيزياء النظرية في كلية بيربك، تصوره عن الوحدة التي تجمع الاشياء، اللحظات ببعضها، وفق مبدأ قريب من مبدأ وحدة الوجود عند ابن عربي: "انا ابدأ من وجهة النظر التي تأخذ الكون ككل مقسم بشكل نسبي الى كليات جزئية، والكل جزئي الاولي هو اللحظة، لكن هذه اللحظة قد تكون ذات نوعية مختلفة من حالة الى اخرى: اذ قد تكون سيمفونية مكوّنة من حركات عدة وكل حركة هي لحظة ايضاً. او قد تكون اللحظة في التاريخ عمرها مئة عام، بينما نجد ان اللحظة بالنسبة الى جسيم ذري قصير جداً… اللحظات اشياء نسبية، وكلها مرتبطة بعلاقة مع بعضها، اضافة الى ان كل لحظة محتوة في لحظات اخرى، وهي بدورها تحتوي لحظات غيرها… اللحظة الحاضرة على سبيل المثال تحتوي او تتضمن كل لحظات الماضي". يطرح دافيد بوهم في كتابه "النظام المترابط" Implicated Order رؤية للوجود مستندة الى فيزياء الكمّ، ونظرية النسبية، معمماً النتائج العلمية التي تحققت في هذين الحقلين على ميادين اوسع: "تحكم التفكير النيوتوني - المحدد بمبدأ السبب والنتيجة او مبدأ العلة - بالعلم والتكنولوجيا في الغرب لمدة ثلاثة قرون، مستهلماً الفلسفة الديكارتية كحجر اساس للفيزياء، لتنتقل الى الكيمياء والبيولوجيا والسيكولوجيا وحقول اخرى. وهذا قاد الى ان يسيطر هذا التفكير على الثقافة الغربية ككل لكن هذا القرن شهد ثورتين في الفيزياء، ادتا الى اقصاء هذه السطوة وجعلها محددة ضمن مجالات معينة، نظريات اينشتاين في النسبية، رفضت الطبيعة المطلقة للزمن الخطي، في الوقت نفسه افترضت نظرية الكمّ كوناً آخر لا يكون فيه لمبدأ العلية السطوة المطلقة". يقول احد الحكماء البوذيين: "في سماء اندرا هناك شبكة من الآلئ مرتبطة بطريقة، تجعل من ينظر الى واحدة منها قادراً على رؤية الكل منعكساً فيها، وبالطريقة نفسها، كل شيء في الوجود، ليس قائماً وحده بل هو يتضمن كل ما في الوجود". وعلى اصداء هذه الفكرة يقول بوهم في كتابه "النظام المترابط": "كل شخص يتضمن شيئاً ما من روح الآخر في وعيه". يعتبر بوهم الزمن هيئة حلزونية، كل لحظة من الحاضر تتضمن كل لحظات الماضي، وكل لحظة في المستقبل ستتضمن الماضي والحاضر. في حين يعتبر نيوتن الزمن سلسلة عمليات في خط واحد، كل لحظة تعقبها اخرى، وكل لحظة هي نفسها لكل الكون. "افترض ان الآن هي اللحظة نفسها بالنسبة اليك واليّ والى شخص آخر في استراليا، مع ذلك فان تجربتنا للزمن نسبية، في لحظة ما يكون صعباً ان نحدد ما نعنيه ب الآن اذا كنت مستغرقاً كلياً بشيء ما. الآن قد تستمر دقيقة واحدة قبل ان تدرك ان وقتاً ما مضى، وفي الاحلام، زمن طويل الى ثوان. سلسلة الزمن تبدو كأنها متداخلة مع بعضها. الماضي يبدو كأنه الحاضر". يعمم ديفيد بوهم نظرية "عدم اليقين" المأخوذة عن فيزياء الكم ليجعلها شاملة للتجربة الانسانية. هذا المبدأ يحدد بأننا لا نستطيع ان نعرف سرعة الالكترون داخل الذرة وموقعه في آن واحد. بصيغة اخرى، عندما نتمكن من تحديد سرعة الالكترون، نعجز عن تحديد موقعه، بالعكس اذا عرفنا موقعه فلن نستطيع تحديد سرعته. "اذا حاولت ان تتابع فكر ما في ذهنك، فانها تذهب الى مكان آخر، واذا حاولت تحديد موقع تلك الفكرة فانها تغيّر زخمها". وكأن المراقبة نفسها لها تأثير ايضاً على ما تراقبه. وهذه الفكرة تبدو مماثلة لما هو مطروح في فلسفة الشينتو اليابانية: في اللحظة التي افكر بنفسي يفلت العالم من اصابعي، وبالقدر الذي افكر بالعالم تختفي الأنا عني. يقول ديفيد بوهم: وصلنا الى فكرة الترابط بين الاشياء من خلال الفيزياء الحديثة، مع ذلك فان هذه الفكرة تشكّل عنصراً اساسياً لفلسفة الثقافات الشرقية ودياناتها لآلاف السنوات… فيزياء الكمّ جعلتنا اكثر تحسساً للشرق، وانا اظن ان التصوّف والحكمة الشرقية بدآ يتسربان الى الحضارة الغربية من خلال باب الفيزياء: سيكون من المبالغ فيه القول ان الفلسفة الشرقية وفيزياء الكم متماثلتان، لكن الاحساس بالوقت وسلسلة العمليات والعلاقات متماثلة". ولا يقتصر التغير في التعامل مع الزمن على ميكانيكا الكمّ، بل هي تتعداها الى نظرية النسبية، اذ لم تمض سوى ثلاثة قرون وخمس وعشرين سنة، منذ ان بدأ نيوتن ادخال الزمن في معادلاته التي تصف حركة الاجسام، قبل نيوتن كان المكان وحده موضوعاً للمعادلات، فالاغريق انشأوا هندسة بزوايا ومسافات ومقاييس، ووضعوا معادلاتهم من دون ان يكون للزمن اي حضور. مع نيوتن اصبح الزمن ذا خصائص نوعية، وكأنه شيء قائم هناك خارج عنا. بتجريد الزمن عن التجربة الشخصية، وايجاد الطرائق التي تحوله الى عنصر قابل للاستخدام في المختبرات يكون نيوتن قد صاغ الزمن المطلق الحقيقي والرياضي، ومع نشوء الرأسمالية وتطور الصناعة، اصبح للزمن النيوتوني المحدد باللحظات المتماثلة المتلاحقة في خط ثابت معناه وحضوره في الحياة اليومية للماكنة وللعامل وللرأسمالي على حد سواء. يعرّف بول ديفز، استاذ الفيزياء الكاتب العلمي، الزمن المطلق بهذا المثل: "تصور ان هناك ساعات مثالية معلّقة في مواقع مختلفة من الكون فانها ستقرأ الوقت نفسه في كل لحظة… الآن نعرف ان ان ذلك خطأ. اذ مع نظرية النسبية التي وضعها اينشتاين في بداية هذا القرن، اصبح الزمن ذا طابع شخصي، بمعنى ان الزمن محدد بسرعة الشخص نفسه، وبالتالي فالساعات المعلّقة في مواقع مختلفة من الكون ستقرأ اوقاتاً مختلفة على رغم ضبطها على وقت واحد في البداية". "الزمن النيوتوني يعمل بشكل دقيق في مجالات واسعة، مثل اللحاق بالقطارات ومتابعة برامج التلفزيون، وحتى السفر الى القمر على ظهر سفينة فضاء، لكنه يبدأ بالوقوع بأخطاء فادحة اذا اردنا استخدامه في تجارب متطورة مثل الاتصالات بواسطة الاقمار الصناعية، او توجيه الطائرات… عندما يكون اي جهاز يتحرك بسرعة قريبة للضوء، فان افكار نيوتن في الزمن تقع في اخطاء جسيمة، وليكن هذا الجسم اي شي: ساعة مثالية، سفينة فضاء او جسماً ذرياً". كان افتراض اينشتاين نسبية الزمن والمكان ناجماً عن الازمة التي وصلت اليها الفيزياء مع الضوء، عندما افترضوا وجود وسط تنتقل به موجات الضوء سمّوه الاثير، ولكن عندما حاولوا قياس سرعة الارض مقارنة بأثيرها المحيط بها وجدوا انها لا تتحرك! وجاء الحل في عام 1905 من قبل اينشتاين عندما طرح افتراضاً سهلاً جداً وعسيراً على التقبل في آن واحد: سرعة الضوء ثابتة ولا يمكن تبدلها، بالمقابل فان الزمن والمكان نسبيان، وان لا وجود للأثير اطلاقاً لان الضوء ينتقل عبر جسيمات سماها الفوتونات. وفق نظرية النسبية، تصبح الفرضية التالية صائبة تماماً: اذا سافرت بصاروخ تقترب سرعته من سرعة الضوء، وتركت أخاك التوأم على ظهر الارض ثم عدت بعد مضي خمسة اعوام عليك، يكون الزمن الذي مرّ على اخيك هو عشرات الاعوام. الزمن، مع تزايد السرعة، يبدأ بالتمدد وكلما اقتربت سرعة الجسم من سرعة الضوء التي لا يمكن تجاوزها كلما تباطأ الزمن في ذلك الجسم. الزمن يتمدد ايضاً مع تزايد جاذبية الكوكب او النجم الذي نحن فيه، فاذا وضعت ساعة فوق سطح الشمس واخرى فوق سطح الارض فالزمن الذي يمر على سطح الشمس سيكون ابطأ مما هو عليه فوق الارض، لزيادة الجاذبية على سطح الشمس عما هي عليه فوق سطح الارض. واذا افترضنا ان نجماً فقد كل طاقته وتحول الى ثقب اسود، فان كثافته ستتزايد اضعاف ما كانت عليه سابقاً، بسبب تقلص النجم تقلصاً هائلاً بعد نفاد طاقته الحرارية، وهذا ما يجعل الزمن فوقه اكثر بطأ مما هو عليه فوق الارض. في حال ارتفاع كثافة النجم او الكوكب الى درجة عالية مقاربة الى اللانهاية، فان الزمن آنذاك سيتوقف عن الحركة وتتشكل الفواصل بين الزمن والمكان، وهذا ما يحصل في الثقوب السوداء! الاستنتاج الذي اصل اليه، ان الافكار العلمية التي طرحها هذا العصر ما زالت بعيدة عن الجمهور الواسع، وكأن التفكير النيوتوني والهندسة الاقليدية ما زالا متحكمين في الوعي العام. نحن في بداية ثورة هائلة في مجال الاتصالات، ولا بد ان القرن المقبل سيكون الميدان الذي تهضم فيه افكار القرن العشرين. الشيء الاساسي الذي نجده اليوم هو الشك العميق الذي يسود الاوساط العلمية بما ترسخ من قناعات في الكثير من الحقول خلال القرن التاسع عشر، اضافة الى ما نشاهده اليوم من انفتاح واسع على ثقافات الشرق…