"حانة القرد المفكر" عنوان غريب أليس كذلك؟ لكن الغرابة التي يستدرجها الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف، تستند دائماً الى أمور مهجوسة ومحسوسة وهي غرابة من يعرف طعمها ونكهتها، ولا تتأتى هنا دون سند. وفي هذه المجموعة لا يزال الشاعر سعدي يوسف جوّاب آفاق وجوالاً في الجغرافيا وصائد صور ولقطات ومشاهدات، عبر عبوره وتنقله في العالم. تتكشف المجموعة الجديدة لسعدي يوسف عن بنى تعبيرية شفافة، تستقطرها العذوبة والرهافة، ويميل النسق الدلالي في غالبية قصائدها الى رموز مفتوحة، بلورية المنحى، غير مستغلقة، صافية، حاملة وظائفها ومعانيها داخل السياق المعماري للقصيدة. إذ يتقن الشاعر محاورتها في الشعر، مانحاً إياها تلميحات مومضة، براقة، ذات نزوع يشي بحمولات رؤيوية عديدة كقوله في قصيدة "رؤيا": "سوف يذهب هذا العراق الى آخر المقبرة سوف يدفن أبناءه في البطائح، جيلاً فجيلاً ويمنح جلاّده المغفرة لن يعود العراق المسمى ولن تصدح المقبرة" هكذا يرى سعدي يوسف الى وطنه بعين منفية، أدمنت الغربة، عين بعيدة عن ليل الطغاة الذي أمسى مقبرة، إذ لن يعود ذلك الوطن المسمى، عراق التاريخ والنور والحضارات، بل وطن الجبانة، الذي باتت الصحارى موئلاً ومنتبذاً لأبنائه الميتين جيلاً بعد جيل. إن سعدي يوسف عبر نتاجه الطويل وغربته المديدة، يتبدى هنا محترف منفى، يغوص في أعماقه، لكيما يعثر على النادر فيه من رؤى وأحلام، من عذابات وتهاويل يجيش به المنفى. فسعدي يوسف له خيال يحسن صقل الرؤى ويبرع في تقديم مكونات جديدة عنها، وها هو في قصيدة "السفارة" يستفيد من التراث الرافديني، موظفاً الميثيولوجي لصالح اليومي، أو مؤسطراً المرئي ليضحى اسطورة واقعية. "ثم تدخل - عبر الممر المكهرب، عبر العيون التي صوبته جيداً - باب عشتار ها انتذا تهبط الدرجات لتلقاك ارشكيجال التي تبتسم ها انتذا تتلفت في السر... باب يرد وراءك في لحظة: أنت تهوي، عميقاً، بوادي الذين أهانوا وهانوا..." تنطوي المجموعة على قصائد قصيرة وأخرى طويلة. فالقصائد القصيرة بدت في المجموعة غاية في التكثيف والاختزال والتقطير الصوتي، بينما تحفل في المقابل بإيقاعات ثرية، رخيمة، رهيفة، منبورة المطالع والخواتم كقوله: "سافري في الفيافي لتخفي السفار... سافري في الفيافي التي ليس فيها اعتبار سافري ولا تسرفي في انتظار". من هنا تحفل مجموعة سعدي يوسف الجديدة، بمهارات وسطوعات جمالية أسرة، متنوعة، تكمن فيها براعات سعدي يوسف المعهودة التي يطالعنا بها بين آن وآن. فثمة قصائد طوال، وعلى حد علمي، فمنذ عقد تقريباً لم يكتب سعدي قصيدة طويلة لها وقعها وتأثيرها في الجو الثقافي، لكن في هذه المجموعة هناك ميل للإطالة والتذكير بروح تسعى الى بث ما يهدر في الصدر وينطوي على جيشان لا تسعه أسطر قليلة، هناك أيضاً المهارات وما تختزنه من مفاجآت وأسرار وسبل لا يمكن عرضها إلاّ في جهد مكرّس في قصيدة طويلة، وفي هذا المسعى تبرز هنا قصيدة "تهويم المسافر" و"رباعية الميناء" و"الجفاف". فالقصيدة الأولى هي حقاً تهويمة، أو اغفاءة في عالم حلمي يبحر فيه الشاعر، عبر جسر ما، محاولاً الظفر بالضفة الثانية. القصيدة تتبدى بمقاطعها الخمسة مثل سيناريو فيلم سينمائي. فالمشهد عامر وثري بالرؤى والهواجس والعناصر وأشياء الطبيعة، فضلاً عن العناصر الموسيقية والحوار المتداخل في نسيج القصيدة. ان القصيدة ليست إلا محاولة لعبور الجسر من ضفة الى ضفة أخرى، أي من عالم الى عالم مختلف تماماً، يحلم فيه المسافر، يحلم بعتبة الاجتياز هذه، بيد أن هذا العبور المحلوم ليس سهلاً، إذ ثمة حراس وموانع ومحظورات وراء الجسر تحصي خطى العابرين، وسعدي في تهويمته هذه يلجأ الى الترميز، فالمسافر يستعين برؤى رمزية لتأسيس هذا البنيان وتعميره بالصور المثيرة والرموز المنطوية على ظروف زمانية ومكانية تعطي بالتالي مردوداً دلالياً. فالقصيدة يسودها عالم مضبب، شفاف يميل الى الامحاء أو العمى احياناً، لأنه قرين الحلم والأطياف والذاكرات المنخورة، فالوقت صباحاً وثمة جسر وعابر وحيد وروائح سفر وأريج قرى ومدائن، لكن الحلم الموعود يكمن في العبور الى الضفة الأخرى، وهي ضفة غامضة غير مأمونة الجانب وعاقبتها قد تكون وخيمة على العابر المسافر الذي استبدّ به الحنين: "إني امرؤ غافل وغبي وأحفظ عهدي وأحفظ للناس ما كان عندي لهذا سأخطو على الجسر، أولى خطاي" ثم يبتدىء المشهد الآخر في النقلة الثانية، تبتدىء الحوارية بين امرأة عمياء تلاقيه في منتصف الجسر لتسائله: "- أين تمضي أنا أعبر الجسر - لكن الى أين؟ أمضي الى الضفة الثانية" وحين تنتهي الحوارية تكاد تكون صامتة بين أعميين في ضباب. يبدأ العابر بالعبور، فالضباب فجأة يتكشّف عن وردة، والضفادع تتراءى في الجرف والقصب المتطاول يبدو خفيفاً مندّى، يسمع العابر تهليلة حتى يكاد أن يرى في البعيد بيوت القرى. وحين يهمّ العابر في استكمال خطواته لعبور الجسر "خطوة، خطوتان، ثلاث خطى" بعدها تواجه العابر كلمة قف! ثم صمت يملأ المكان. هنا ينهار الحلم، ينهار حلم المسافر، انها الحقيقة تنهار لتتكشّف عن رعب ماثل يؤطر المكان ويتجسّد في كلمة واحدة، مانعة جازمة، تقضي على تهويمة المسافر الحالم بالعبور الى أرضه الأولى ومهاد الطفولة. "أما حانة القرء المفكّر" وهو عنوان المجموعة الشعرية، فهي حانة يونانية يبدو أن سعدي يوسف أمّها شأنه مع حانات أخرى من حانات العالم.