يذكرّني انتشار كلمة "العولمة" في اعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي بانتشار كلمة "التنمية" في أعقاب الحرب العالمية الثانية. كان من الممكن أن يستخدم اللفظ الأجنبي المقابل "للتنمية" من حين لآخر قبل الحرب، أو المقابل للفظ "العولمة" قبل سقوط الشيوعية، لكن الانتشار والرواج لم يصبحا حليفي هذا اللفظ أو ذاك إلا في ظل تلك الظروف الجديدة التي عرفها العالم في الحالين. والشبه بين الحالين يلفت النظر ويدعو الى التأمل، إذ قد يكشف لنا عن حقائق تتعلق بمفهوم "العولمة" قد تكون غائبة عنا. ففي الحالين اقترن انتشار المصطلح الجديد بحلول قوة عظمى، هي الولاياتالمتحدة محل قوى عظمى أصابها الوهن أو الانهيار، هي بريطانيا وفرنسا في الحالة الأولى، والاتحاد السوفياتي في الحالة الثانية. وفي الحالين استخدم المصطلح الجديد لتبرير أو تسهيل عملية بسط نفوذ الدولة العظمى الجديدة على مناطق جديدة في العالم أو لترسيخ نفوذها في مناطق كان لها نفوذ فيها من قبل. اقترن الترويج للتنمية بالترويج للمعونات الاجنبية، وعلى الأخص الاميركية، وقد استخدمت هذه المعونات في معظم الأحيان لزرع هذا النفوذ أو ترسيخه. واقترن الترويج للعولمة بالترويج لمقولة "نهاية التاريخ" التي لا تقول في نهاية الأمر أكثر من أن النظام الاقتصادي الاميركي هو افضل النظم، في كل زمان ومكان، وبمقولة نهاية عصر الايديولوجيات، وهي مقولة لا تعني في الحقيقة أكثر من أن الايديولوجية الاميركية هي الأحق بالحلول محل كل الايديولوجيات الأخرى. واقترن الترويج للتنمية أيضاً بالإيحاء بأن هذه الظاهرة الجديدة التنمية هي ظاهرة إيجابية تماماً، ومن ثم غُض البصر عما تتضمنه من تغريب متزايد من ناحية، ومن تفاوت متزايد في الدخول، من ناحية أخرى. وأما العولمة فهي أيضا تقترن بالإيحاء بظاهرة إيجابية تماماً وبصرف النظر عما تتضمنه من افتئات على الاستقلال القومي. في كلا الحالين يُصوّر الأمر أيضاً على أننا بصدد ظاهرتين حتميتين تتجاوزان إرادة البشر. فالتنمية حتمية بسبب ما سمي ب "ثورة الآمال الكبيرة"، أي تطلعات الملايين من سكان العالم الثالث الى اللحاق بمستوى المعيشة في الغرب، بينما الحقيقة هي أن هؤلاء الملايين لم تكن تزيد تطلعاتهم، ولا تزال، في أغلب الأحوال، على الحصول على مياه شرب نظيفة والحصول على الحد الأدنى من الغذاء والكساء والمسكن. والآن تصوّر العولمة على أنها بدورها ظاهرة حتمية بسبب تحوّل العالم الى "قرية واحدة كبيرة"، بينما الحقيقة أن الذي يرى العالم وكأنه قرية واحدة كبيرة ليس إلا الشركات متعددة الجنسيات، أما الجزء الأكبر من البشرية، فلا يزال يعيش في "قرى كثيرة وصغيرة". * كاتب وجامعي مصري