لا خلاف على ان قصور بني نصر او بني الأحمر، او ما بقي منها، في الحمراء، على قمة تل السبيكة في غرناطة آية من آيات فن العمارة العالمي الاكثر شهرة. ولا خلاف كذلك على ان هذه القصور قد دخلت المخيال الفني والثقافي العالمي من اوسع ابوابه لتحتل مكاناً هاماً في خانة مثالية وفريدة مع معادلاتها من معجزات التاريخ الانساني المعماري، كالأهرامات مثلاً او الأكروبوليس في اثنيا او تاج محل في آغرا في الهند، هذه التي تجاوزت مضمار المعنى المعماري والفني والشكلي والتاريخي واستحوذت لسبب او لآخر على معنى او معان رمزية او تصعيدية او حتى اسطورية اضحت دالة عليها وممثلة لها في اذهان الناس وقلوبهم وأحاديثهم وكتاباتهم. ولربما كان دخول العديد من الأوابد في هذه الخانة الرمزية مساغاً بسبب من عظمتها او ضخامتها او ابداعها الهندسي والتشكيلي. فكل من الاهرام والاكروبوليس معجزة هندسية بحد ذاتها ما زالت الآراء تتضارب عن كيفية عمارتها. وكمّ العمل الانساني المنظم الهائل الذي احتاجه بناؤها. تاج محل ما زال ممشوقاً بكمال يحيّر العيون بتناسقه وتناسب اجزائه. من اي زاوية نظر المرء اليه، يجد كل عنصر فيه متآلفاً مع العناصر الأخرى، فلا شطط ولا خلل بصري او منظوري. ولربما امكننا ايضاً ان نفهم لماذا دخلت هذه الأوابد المخيال العالمي بسبب مما انتهت الى التعبير عنه والدلالة عليه من المشاعر والأفكار الانسانية الكبيرة والأساسية. فالأهرام ما زالت تمثل قمة التحدي الانساني للموت والرغبة بالخلود التي وإن نجحت فراغياً وحجمياً وزمانياً في البقاء في وادي النيل طوال هذه القرون فهي قد رسّخت استحالة تجاوز تراجيديا عجز الانسان الابدي امام قانون الفناء والزوال. والأكروبوليس بمعابده المختلفة قد انتهى بعد قرون عديدة لأن يمثل لأوروبا عصر التنوير اولاً ومن ثم للعالم لاحقاً حضارة اثينا الاغريقية بكل ما خلفته من نظم جمالية وفلسفية وسياسية ما زالت فاعلة في فكرنا وسلوكياتنا حتى الزمن الحاضر وما زالت تُعرف في لغات العالم بأصولها الاغريقية كالفلسفة نفسها والديموقراطية وعلم الجمال. وأما تاج محل فهو قد حل في الافئدة محلاً عاطفياً ورومانتيكياً مميزاً: فهو بنظر الغالبية العظمى من الناس رمز الإخلاص في الحب وإنشودة لوعة شاهجهان المنحوتة من حجر ورخام حزناً على فقد محبوبته ممتاز محل التي اختطفها الموت منه وهي تلد له ابنهما الثالث عشر كما يقال. ولكن اين موقع قصور الحمراء في هذه المجموعة؟ عمرانياً ومعمارياً لا يمكننا الكلام فعلاً عن أبهة او عظمة او ضخامة او اعجاز، بل وحتى انه لا يمكننا الكلام، على الاقل في الوضع الراهن للقصور التي فقدت بعض محتواها والكثير من محيطها العمراني والمعماري، عن تخطيط تشكيلي وفراغي كامل متكامل. اما تاريخياً او دلالياً، فانه لا يبدو ان لهذه القصور كبير تأثير كرمز لمفهوم هام او فكرة انسانية واجتماعية جوهرية. فلا هي تمثل مثلاً انسانياً اعلى ولا هي علم دولة سيدة او مجتمع قادر. ولا هي رمز لمنعة او قوة او عزة او ما شاكلها من الرموز الامبراطورية المعهودة في عمارات الممالك والدول المشهورة العظمى. قصور الحمراء كما تقوم اليوم دقيقة ورقيقة. صغيرة وضعيفة: مجموعة من الباحات المتصلة والمتواصلة المحاطة بقاعاتها وأروقتها التي تتكئ على جدران قلعة الحمراء الشمالية رائية للبعيد الاخضر في التلال المحيطة وتختبئ خلف قصر كارلوس الخامس المهيب الذي اكل من جنوبها بعض القاعات والباحات. وهي اليوم تبدو منعزلة، ووحيدة. وغير مكتملة او بالأحرى مبتورة، فما ان يدخلها المرء حتى يجد نفسه قد ولج عالماً خاصاً قائماً بذاته من دون اي ممهدات او تحضير: بدءاً من باحة المكثوار او المشورة وسقيفتها المتواضعة التي تليها باحة قمارش او باحة الريحان مع قبة قاعة عرشها الرائعة او قمة عرشها اذا قبلنا بالاشتقاق الذي اقترحه بعض الباحثين الإسبان المعاصرين لاسم قمارش الى باحة الاسود بنافورتها الشهيرة المحمولة على اثني عشر أسداً حجرياً وقاعتيها المتقابلتين المقرنصتين المقببتين البديعتي الزخرفة، قاعة بني سراج وقاعة الأختين. وتحها باحة الداراكسا الحميمية التي ربما كان اسمها تحريفاً لعبارة دار عائشة، اميرة مجهولة ربما كانت واحدة من زوجات محمد الخامس حكم 1354 - 1359، 1362 - 1391 اهم بناة الحمراء. ومن حول هذه الوحدات الأربع المتراصة على بعضها البعض تنتشر بقية مدينة الحمراء الملوكية التي احتفظت بالقليل من ماضيها التليد بما يكفي لتذكيرنا بأن المحيط العمراني لهذه القصور كان مختلفاً وعلى الأغلب مكملاً لعمرانها وحدائقها وربما مقللاً من دهشة وحدانيتها وتفردها الفنيين والمعماريين الحاليين. وأما تاريخياً، فما الذي يمكننا قوله عن هذه القصور؟ لا جدال في ان تاريخ ملك بني الأحمر في غرناطة وريفها تاريخ محزن وتراجيدي. فهذه الإمارة التي اقامها محمد بن يوسف بن نصر، او ابن الأحمر، عام 1238، في الجزء الجنوبي الشرقي من الأندلس قضت قرني عمرها الطويلين وهي تجالد في سبيل البقاء جزيرة اسلامية منعزلة وسط عالم كاثوليكي مسيحي اسباني متحمس للإنقضاض عليها وابتلاعها وطي صفحة الوجود الاسلامي في الأندلس مرة واحدة ونهائياً. تلك حقاً مسؤولية كبيرة لم تتمكن امارة غرناطة من القيام بها وحيدة في عالم يتغير ويتبدل من حولها وتبعد فيه صلاتها بمحيطها الطبيعي عبر البحر في المغرب جنوباً او سلطنتي المماليك والعثمانيين شرقاً. ولم يسعَ سلطنة بني الأحمر الاستمرار في اواخر سنيها إلا بالمداورة والمراوغة، تتحين الفرص لاستخلاص معاهدة او ايجاد حليف مسلماً كان ام مسيحياً. ولم يكن الوضع السياسي الداخلي بأحسن من الوضع الخارجي: مؤامرات وانقلابات واغتيالات وصراع دائم على سلطة يزداد الطمع فيها مع تقلص رقعة سيادتها. ويكفينا بلسان الدين ابن الخطيب، وابن خلدون، وابن زمرك - وكلهم اقام في الحمراء نفسها سنيناً عدة - شهوداً على تردّي الحال السياسية في كتاباتهم وفي تقلب ظروف حياتهم من وزراء مرموقين الى اعداء مغضوب عليهم وأحياناً منفيين بل وأحياناً مقتولين. ولكن السياسة والحرب شيء والاقتصاد شيء والثقافة والفن شيء آخر على ما يبدو. فهذه الإمارة الصغيرة الضعيفة والمعزولة والمنقسمة على نفسها عاشت عصراً اقتصادياً ذهبياً وأنتجت أروع الأمثلة الفنية والأدبية والفكرية في أحلك ساعات وجودها السياسي والعسكري والديني. وفي النهاية مضت الى حتفها - ربما كغيرها من تلك الحضارات التي سادت ثم بادت - وهي تنسج حضارة مرهفة، ذوّاقة، ومرفّهة رغماً عن قعقعة السلاح المتربص حولها ودموع المهاجرين المسلمين الفارين اليها من ارجاء الاندلس الذي تهاوت مدنه واحدة واحدة وطقطقة لعاب الطامعين بها من اخوة وأعداء. وخلال هذه المحن كلها يمكننا اليوم ان نتصور كيف كان سادة المدينة من دعة الخاطر او ربما قصر النظر او ربما الواقعية في التعامل مع ظروفهم الى حد ان ملوكاً متعاقبين منهم - خاصة يوسف الأول حكم 1232 - 1354 وابنه وخليفته محمد الخامس - قضوا وقتاً طويلاً في تجميل الحمراء وإعادة تخطيطها بما يوافق اهواءهم او الاذواق السائدة في محيطهم. وكأن ذلك لم يكن كافياً فقد امتدت حركة العمارة المرفهة الى التلال المحيطة التي شهدت في القرن الرابع عشر اقامة مغان كثيرة للملوك والأمراء والسادة الأعيان، ربما كان اشهرها وأروعا الخينيراليفة او جنان العريف كما اقترح اصل الاسم بعض الباحثين المحدثين، درة التخطيط الحدائقي الاسلامي بجنانها المنظمة في مسطبات متراتبة على سفح التل المواجه للحمراء، تخترقها اروع الجداول والمسطحات المائية في تشكيلات تتناوب بين الساكن والفوار والمنسكب. فهل دخلت قصور الحمراء الخانة الرمزية بسبب من التعارض الظاهر بين رفاهيتها ودعتها ودقة صنعتها من جهة واستعار اوار حروب الاستعادة المسيحية من حولها من جهة اخرى؟ هل اضحت رمزاً للاستكانة والاستهانة واللهو والاستهتار اللذيذ والمسترخي في وجه قوى عاصفة لا وسيلة لها لمقاومتها او حتى للتفكير بتجاوزها سوى بالإلتهاء عنها والانغماس في متعة حسّية ونرجسية؟ ومن منظور آخر، هل نظر مستشرقو القرن التاسع عشر الى هذه القصور على انهاء الموئل الاخير للسحر الشرقي الغامض والمثير في اقصى الغرب من الغرب؟ هل رأوا فيها التجسيد الحقيقي والمدغدغ للغرائز الذي نسبوه لجباة القصور الاسلامية بحريمها المحرم وطقوسها المشتهاة؟ هل كان لهذه القصور ان تخلد في الأدب والفن العالميين لو انها كانت قائمة في القاهرة او مراكش او شيراز مثلاً؟ تلك اسئلة شغلت العديد من المفكرين والمؤرخين ابتداء من الثلاثينات من القرن التاسع عشر، ولكن الغالبية العظمى ممن عالجوها كانوا من الشعراء والروائيين والفنانين الرومانتيكيين الذين نسجوا تاريخاً اسطورياً دراماتيكياً حول قصور الحمراء وساكنيها، حوّلوها من خلاله الى ملعب لخيالهم وحساسياتهم ورغباتهم المعلنة منها والمرجوة. وأثروا مخيلتنا وذائقتنا نحن بقصص وأساطير وصور وأفلام وخواطر وأبيات شعر نترنم بها ونحلم على ايقاعاتها بحوادث سحرية لها مع الحقيقة اقل من رباط واه ولكنها مع ذلك جميلة ومثيرة ومعبّرة. فالتحليق مع الخيال والالتفاف على التاريخ هما اللذين سمحا لكتابات ارفينج واشنطن وشاتوبريان وأشعار ألفريد دوموسية وغابرييل لوركا وأخيراً نزار قباني ولوحات غوري وأوين جونس ولويس بإضفاء الوان مختلفة، بعضها قاتم وبعضها برّاق، على حوادث وقصص وأماكن كانت ستبدو محايدة وربما باردة لو انها ظلت فقط تاريخاً. وتقوقع التاريخ الموثق والمحايد وانكمش خجلاً وضعفاً عن تسيير دقة موقع الحمراء في وعينا ولا وعينا، وحلّت محله الاسطورة والقصة والقصيدة واللوحة والمنحوتة والحديقة المستوحاة من وحي عبق حدائق الحمراء والشعر المنقوش على حواف نوافيرها وإطارات عيونها وأفاريز جدرانها. ولا يمكننا حقاً الجزم بأننا الخاسرون بسبب من هذا التحول. ولكن كيف دخلت قصور الحمراء الخانة الرمزية المعمارية وهي اساساً قصور متواضعة وبقايا متهالكة من حضارة اسلامية بادت في الاندلس وما زالت اسبانيا المعاصرة تجاهد مع نفسها في سبيل التصالح معها والاعتراف بها كجزء من التراث الاسباني - كما ذكّرنا في الحمراء بالذات اخيراً كل من المستشرقين الإسبانيين المرموقين بدرو مارتينيز مونتافيز وكارمن رويز برافو - فيللاسانتي؟ هنا أود ان اقدّم رأيي: عاشت هذه القصور في الحقيقة وفي الخيال بسبب من روعة تصميمها المعماري ودقة تناسب وتناغم عناصرها التشكيلية والزخرفية والنباتية والمائية. اي ان هذه القصور استمرت بعد ذهاب ساكنيها لأنها فعلاً من دون اي اعتماد على عناصر الضخامة والعظمة والبذخ فهي لا تحوي اي معادن او احجار ثمينة او شبه ثمينة كمثيلاتها من قصور الملوك متألقة ومكتملة معمارياً بدقتها وأناقتها وهيافة زخارفها المنمنمة التي تغطي كل سطوحها الداخلية وتناغمها الرائع مع محيطها الطبيعي بل وتداخلها معه عبر نوافيرها وحدائقها ومطلاتها وعيونها التي ما انفكت تغذي قريحة المصممين والمعماريين والفنانين منذ اعادة اكتشافها في بداية القرن التاسع عشر وحتى اليوم. ان هذه القصور تحيا بسبب من جمالها الذي يمس شغاف الحس ويثير فيه الرغبة بالتحليق، بالتخيل، بالابداع، وبالمبالغة ربما. هذا الجمال المعماري هو ملهم كل المنشدين لوصف قصور الحمراء او لمقاربة تاريخها او بالأحرى لإعادة صياغته نثراً وشعراً وصورة وتصميماً بما يتلاءم مع تأثير هذه الروعة المعمارية على مشاهديها ومتذوقيها. وهذا الجمال المعماري هو ايضاً السبب في انخلاع الحمراء عن تاريخها الفعلي واكتسابها لتاريخ متألق، متوهج، وخيالي اسطوري. وهذا الجمال المعماري هو قطعاً السبب الذي دعا ملوك اسبانيا الكاثوليك للمحافظة على الحمراء في اول الامر، حتى بعدما دخل فرناندو وإيزابيل قصور ابو عبيد الله المستسلم والمنفي عام 1492 ولم يرغبا في سكناها لأنها تخالف مفاهيمهم في التقشف، او على الاقل الظهور بمظهره، فإنهما لم يزيلاها على الرغم من العداوة التي شعرا بها تجاه أسيادها السابقين. وحتى عندما اراد كارلوس الخامس في بداية القرن السادس عشر ان يؤكد على انتمائه لأوروبا عصر النهضة وأقام قصره الصلب والمتعجرف والجاثم بقوة في قلب الحمراء فانه لم يجد في نفسه كل الكبرياء او القسوة لإزالة جميع قصور بني الأحمر عدا تلك الأجزاء التي اعترضت قصره او التي حفظت ذكرى حية لملوك غرناطة المسلمين كروضتهم التي احتوت قبور بني الأحمر كلها مثلاً. وقام معماريوه بربط قصري قمارش والأسود بقصره الجديد كحدائق ومتنزهات، مما حافظ عليها لوقتنا الحاضر بحسب رأي أركيولوجي الحمراء الأول. وانه من دواعي العجب والتعجب حقاً ان يكون هذا الملك الكاثوليكي المتشدد هو المحافظ الوحيد على قصر اسلامي من العصور الوسطى اي قبل القرن الرابع عشر الميلادي، حيث اننا باستثناء القصور الأموية الصحراوية التي تدين ببقائها لعزلتها ووعورة مواقعها، فإننا لا نجد قصراً اسلامياً قروسطياً واحداً قائماً في اي بلد اسلامي معاصر! اما نحن العرب المعاصرون، فما الذي تعنيه الحمراء بالنسبة لنا؟ أغلبنا ما زال يذكر منها ضياعها كما لو انه حصل بالأمس. وما زال اغلبنا عندما يتكلم عن الحمراء او عندما يدخل قصورها - سائحاً بالطبع - فهو يتكلم عن الأسى الجاثم على الصدور منذ اربعة قرون كما لو انه ما زال طرياً او يبكي على الأطلال كما لو ان أثارها لما تعف بعد. ولكنا ومع كل التأوه والتألم على فقد غرناطة وقصورها، وربما بسببهما، نمرّ على روعة الحمراء العمرانية والمعمارية والرمزية مرور المتعجل، ونغفل النظر في ما تقوله لنا عن نفسها هذه العمارة المتكلمة والفصيحة شعرياً. وحتى اليوم ما زالت غالبية مساهمتنا في دراسة الحمراء هامشية ومترجمة، او حماسية وفخرية، او بكائية ورثائية. أما آن الأوان لنا ايضاً لكي نتصالح مع تاريخ الأندلس بحلوه ومرّه، وأن نسمح لذكراه المعمارية الماثلة في قصور الحمراء كما في جامع قرطبة او في مئذنة اشبيلية وغيرها الكثير بأن تنداح في ثقافتنا المعاصرة ومخيالنا عوامل خلق وابتكار وتواصل واندماج في الابداع العالمي التي سبقتنا هذه الأوابد الى ولوجه والتأثير عليه - كما فعل أدونيس وكمال بلاطة اخيراً في مشروعهما المشترك "إثنا عشر قنديلاً لغرناطة" - بدلاً من ان تبقى في مخيلتنا اساساً كبصلة مفرومة تحت الطلب؟