شكّلت الثقافة الإسلامية عاملاً رئيسياً في استمرار وجود الأمة الإسلامية وفي تدعيم كيانها، وفي حمايتها من المخاطر الخارجية والداخلية، وفي أداء دورها الحضاري، فكيف تكوّنت هذه الثقافة الإسلامية؟ وماذا كان دورها في الماضي والحاضر؟ وأفرزت الثقافة الاسلامية علوماً متعددة نشأت حول عاملي بناء الأمة: القرآن والسنّة من أجل تعميق فهمهما، وحفظ مبادئهما من أي اختلاط أو ضياع، وتقنين القواعد المساعدة على حسن استنباط الاحكام منهما، فمن العلوم التي أفرزتها الثقافة الإسلامية لحفظ القرآن الكريم وفهمه الفهم السليم: علم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم التفسير، وعلم المكّي والمدني، وعلم القراءات، وعلم الرسم القرآني... الخ. ومن العلوم التي أفرزتها لحفظ السنّة الشريفة: علم الجرح والتعديل، وعلم مصطلح الحديث، وعلم الرواية والدراية، وكتب المسانيد والصحاح... الخ. وامتد اهتمام الثقافة الإسلامية إلى اللغة العربية التي هي لغة القرآن ولغة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد علم النحو والصرف، وعلم البلاغة، وعلم فقه اللغة، وعلم البديع والبيان، ووجدت المعاجم لحفظ مفردات اللغة، كما ابتكرت الثقافة الاسلامية علم أصول الفقه الذي يعالج الخاص والعام، والمطلق والمقيّد، ويحدد عناصر القياس... الخ. ومما يؤكد رسوخ الثقافة الإسلامية في كيان المجتمع الاسلامي ان المنعطفين الكبيرين اللذين تعرض لهما كيان الأمة الثقافي وهما: دخول المنطق، ودخول التصوف، لم يمرا إلا بعد أن وضعت الثقافة الإسلامية عليهما بصمتها بصورة من الصور، فلنرَ ذلك. المنعطف الاول: دخول المنطق أدخل الغزالي المنطق إلى البناء الثقافي الإسلامي بعد أن بيّأه بعناوين إسلامية فأصبح يسمى القسطاس المستقيم، وأخذت البراهين اسماء إسلامية فأصبح القياس الحملي يسمى ميزان التعادل، وأصبح القياس الشرطي المنفصل يسمى ميزان التلازم، والأهم من ذلك ان ما أخذه الغزالي من ارسطو هو الأقيسة المنطقية وليست فلسفته عن الكون والحياة والانسان، وقد أراد ان يستبدل القياس المنطقي بالقياس الاصولي على أساس أن القياس الاصولي ظّني في رأيه في حين أن القياس المنطقي يقيني ويعطي علماً. المنعطف الثاني: دخول التصوّف عمّق المتصوفة مضمون العبادة عند المسلمين مقابل الفقهاء الذين قننوا صورة العبادة عندهم، وقد بنوا كيانهم على جوهر العبادات التي فرضها الإسلام: كالخوف والحب والرجاء والتعظيم والخضوع... الخ، وتميزت كل فرقة منهم باعتماد جانب من جوانب تلك العبادات، ففرقة تبني كيانها على الخوف من نار الله وعذابه، واخرى تبنيه على حب الله، وثالثة يستغرقها الجوع من اجل الارتقاء في عبادة الله، ورابعة تركز على لوم الذات عند الوقوع في المعصية وتقريعها من اجل تصفية النفس الخ… لكن الاهم من ذلك هو ان المتصوفة ابقوا الجانب الفلسفي من التصوّف والذي يقوم على اتحاد الانسان بالله، او حلول الله بالانسان، او اكتشاف الانسان لوحدة الوجود والذي يتعارض مع التوحيد ابقوه في اطار الاسرار، وهي القاعدة التي اتبعها كل المتصوفة وتواصوا بها، وهي: "ان من يبيح السر الفلسفي يهدر دمه. ليس من شك بأن هذا التصرف من الفرق المتصوّفة ابقى جمهور المسلمين يتعاملون مع الجانب السلوكي من التصوّف دون الجانب الفلسفي من جهة، وجعل التصوّف يظهر وكأنه غير متعارض مع الثقافة الاسلامية عند المسلمين من جهة ثانية. اذن لقد لعبت الثقافة الاسلامية دوراً مهماً في احتواء المنعطفات الكبرى التي تعرضت لها الامة في الماضي مما ادى الى استمرار وجودها واستمرار فعلها الحضاري. والآن: ماذا كان دورها في العصر الحديث ازاء مشروع النهضة؟ وماذا كان موقفها ازاء الفكر القومي؟ يمكن ان نرصد في هذا المجال الظواهر التالية: 1- تعثّر مشاريع النهضة: تعثرت مشاريع النهضة التي قادتها الاحزاب القومية خلال القرن العشرين، والارجح ان احد الاسباب الرئيسية لفشلها هو تنكّرها لثقافة الامة، ونستطيع ان نمثّل على ذلك بالتجربة الديموقراطية المصرية التي اتيح لها بعد الحرب العالمية الاولى الفرصة الكاملة للنجاح لتوفر ظروف محلية ودولية: محلية متمثلة في قيادة تاريخية كقيادة سعد زغلول، ودولية ممثلة برعاية انكلترا لها البلد الديموقراطي العريق، ولكنها تعثرت لانها تنكرت لابسط مقومات التاريخ المصري وهو انتماء المصريين الى الامة الاسلامية، فانطلقت الديموقراطية المصرية من اعتبارهم امة فرعونية، وتعثرت لانها تنكرت لكلية ثقافة الامة، وكانت دعوة طه حسين الى نقل الحضارة الغربية حلوها ومرّها في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" نموذجاً واحداً فقط من نماذج التنكر لهذه الثقافة، وهناك امثلة اخرى لا مجال لنقلها في هذه العجالة. 2- قلة جماهير الاحزاب القومية: يلاحظ المتتبع لاحوال الاحزاب القومية بشكل عام والعربية بشكل خاص قلة جمهورها، فقد كان اعضاء حزب البعث في العراق عندما قام بانقلاب عام 1968 لا يتعدى 150 عضواً يملكون آلة طابعة واحدة، ولا يتجاوز مجموع اعضاء حركة القوميين العرب بعد عشر سنوات من التأسيس في اقطار عربية عدة مئة عضو، فبماذا نفسّر ذلك؟ وماذا كانت نتيجته؟ نفسر ذلك بعدم تواصلها الثقافي مع جماهير الامة، وبخاصة اذا قارنا تلك الاحزاب مع الحركات الاسلامية التي جيّشت الآلاف في عداد اعضائها خلال فترة بسيطة في اكثر من بلد عربي، وربما كان جمال عبدالناصر الاستثناء الوحيد في مجال كسب الجماهير، لكنه يؤكد التعليل السابق ولا ينفيه، وذلك لأن جمال عبدالناصر تواصل مع ثقافة الامة بشكل اكبر من الاحزاب القومية، وماذا كانت نتيجة ذلك؟ كانت نتيجته معاناتها الغربة التي ادت الى علاقات متوترة مع جماهير الامة. 3- انتقال الاحزاب القومية الى الفكر الماركسي: تبنّت معظم الاحزاب القومية النظرية الماركسية في الستينات مع اختلاف في حدة التبني، وكان القوميون العرب اكثرهم تطرفاً في هذا المجال، ويمكن ان نقول بأنهم حولوا انتماءهم القومي الى انتماء ماركسي، فبماذا نفسر مثل هذا التحول الكلي من وضع فكري الى آخر؟ التفسير الاقرب الى الصواب هو ضعف ارتباطهم الثقافي بواقع المنطقة، والا لو كان هناك ارتباط متجذر بخيوط المنطقة الثقافية لما امكنهم هذا التحول السريع وكأنه استبدال ثوب بثوب. 4- عودة التيار الديني: اضطرب المحللون في تعليل ظاهرة بروز الاسلام في السبعينات في عدد من الدول العربية والاسلامية مثل: الجزائر، مصر، تركيا، فلسطين الخ… فبعضهم عللها بأنها ردّة فعل على نكسة 1967 لأن الناس يلجأون الى الغيبيات عندما يواجهون احداثاً جساماً، وبعضهم علّلها بأنها من صنع الحكام الذين اطلقوا العنان للتيار الاسلامي لمواجهة خصومهم الشيوعيين واليساريين، وبعضهم علّلها بأنها نتاج الظروف الاقتصادية السيئة التي يعيشها العالم الثالث، ولكن هذه التعليلات تبقى قاصرة عن تشخيص هذه الظاهرة التشخيص الدقيق ما لم تضع في الاعتبار رسوخ الثقافة الاسلامية في المنطقة، وان تلك الظاهرة جاءت تعبيراً عن تواصل القيادات الاسلامية مع جماهير الناس من خلال تلك الثقافة الراسخة.