طالب رئيس المركز الاستشاري للاستثمار والتمويل وكيل وزارة المال السعودية السابق الدكتور عبدالعزيز الدخيل بلاده بانشاء منظمة جديدة للدول المنتجة للنفط تكون للسعودية فيها الريادة والقيادة بهدف تصحيح مسار اسعار وكميات النفط المتداولة. كما طالب الدول المنتجة للنفط الاعلان رسمياً عن وفاة "اوبك". وقال الدخيل في حوار مع "الحياة" ان ما يحدث في سوق النفط الآن ليس حدثاً وقتياً او مفاجئاً وانما يخطط له منذ آخر السبعينات. وفي ما ياتي نص الحديث: ما هو تقويمك لما يحدث الآن في سوق النفط؟ - نحن امام مشكلة ليست مؤقتة او ظرفية، بل مشكلة تتعلق بالبنية التحتية للسوق النفطية ولها جذور تاريخية. فمنذ بداية تصدير النفط والشركات الغربية، خاصة الاميركية منها، مهيمنة على سوقه، تنتج ما تشاء من كميات وبأسعار تناسب مصالحها من دون النظر الى مصالح الدول المنتجة. وفي عام 1948 كانت شركات النفط الغربية تمارس ضغطانزوليا على اسعار النفط العالمية. ولأن فنزويللا كانت آنذاك اكثر الدول تضرراً فانها هرعت الى الخليج معلنة ضرورة ان نتكاتف في وجه تلك الشركات، فكانت السعودية اول المؤيدين والمؤازرين لها حتى تم تشكيل "اوبك" التي انتزعت دفة القيادة والسيطرة على السوق النفطية لجهة الانتاج والتسعير من الشركات الغربية ووضعتها في يد الحكومات المنتجة... وهكذا بدأت مسيرة تصحيح الاسعار حتى وصلت الى ثلاثين دولاراً للبرميل. ولكن "اوبك"، للأسف الشديد، لم تحسن الصنع وتجاهلت قوى السوق مما حدا بالدول الصناعية بقيادة اميركا الى تكوين جبهة مضادة ومؤسسات وآليات جديدة تمكنها من استعادة دفة القيادة والسيطرة مرة اخرى على سوق النفط مكرسة قدراتها الاقتصادية والسياسية والعلمية والمعلوماتية. وهذا ما حدث وما نعيشه اليوم، اذ فقدنا السيطرة على سوق النفط وبدأت اسعاره تنخفض طبقاً لمصالح الدول الصناعية. ولكن المحللين يقولون ان قانون العرض والطلب هو الذي يتحكم في الاسعار؟ - هذا تحليل بسيط وسطحي للمشكلة فنحن لا نعيش في سوق حرة مفتوحة تنساب فيها السلعة انسياباً حراً وتحكمها سياسة العرض والطلب، كما يدعون، ومن هذا المنطلق فهو طلب مقيد وموجه من الدول الصناعية. وعلى سبيل المثال، تفرض الدول الاوروبية واميركا ضرائب كبيرة على استهلاك المواد النفطية وتدعم مصادر الطاقة الاخرى مثل الفحم والذرَّة الاكثر خطورة وتلويثاً للبيئة. ما يقلل من الطلب على النفط وخاصة العربي منه. اما لجهة العرض وهو الاهم، فهناك دعم كبير تستنزف فيه أموال طائلة لزيادة مصادر انتاج الدول الصناعية من النفط خاصة أميركا والنروج وانكلترا في بحر الشمال على رغم ان كلفة انتاج النفط فيها توازي اضعاف كلفة انتاجه في الشرق الاوسط. وهناك كذلك تسخير لطاقات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتوجيه الدول النامية الى زيادة انتاجها من النفط خاصة في افريقيا واميركا اللاتينية والدول الشيوعية السابقة، في الوقت نفسه الذي تعمل فيه الدول الصناعية على بناء مخزون استراتيجي وايجاد ما يسمى ب "النفط العائم"، اضافة الى منظمة الطاقة الدولية التي تسيطر عليها اميركا. وفضلاً عن ذلك فان الدول الصناعية اقامت آليات في السوق ظاهرها يعمل ضمن منظومة السوق الحرة فيما هي في الحقيقة آليات موجهة لابقاء المعروض من النفط في مستوى أعلى من حجم الطلب ليبقى السعر ثابتاً عند حدوده الدنيا. أليس من حق الدول الصناعية ان تدافع عن مصالحها؟ - مؤكد ان لكل فريق الحق في الدفاع عن مصالحه ولا ألوم الدول الصناعية على ما فعلت وأضيف ان ما فعلته كان معلناً، ولكن اللوم يقع على الدول المنتجة لتناحرها في ما بينها وإغراق نفسها بكثير من الالتزامات المالية بالصرف على مشاريع استهلاكية غير ضرورية وعلى التسلح. وكان من الممكن ان تقوم تلك الدول بكل ذلك وفق خطة طويلة الامد لكنها اختصرت الزمن فكبلت نفسها بالتزامات جعلتها في امس الحاجة الى الانتاج بصرف النظر عن أثره على سعر النفط. بعد هذا التشخيص كيف يمكن ل "اوبك" ان تعيد التوازن إلى السوق؟ - قبل الحديث عن العلاج لا بد من التأكيد على ثلاث حقائق: اولاً: ان استراتيجيات دول "اوبك" في الستينات اختلفت عنها استراتيجياتها اليوم والدليل ان فنزويللا التي كانت تسعى الى ارتفاع السعر هي نفسها اليوم التي تغرق السوق وتهبط بالسعر. ثانياً: ان ما يحدث في السوق ليس ظاهرة وقتية وان العلاج لن يتم بالاجراءات البسيطة قصيرة الاجل، من خفض يتم لمئة الف برميل هنا واخرى هناك. ثالثاً: ان الخلل الحقيقي في السوق هو في انتقال مركز القيادة المتحكم في سعر النفط من الدول المنتجة الى الدول الصناعية المستهلكة اذ لا بد من الدخول في منتدى اصحاب القرار والمساهمة في صنعه. والحل؟ - الحل الوحيد هو في اعلان وفاة "اوبك" كمنظمة وقيام منظمة جديدة بزعامة السعودية. كيف ذلك؟ - كما قلت آنفا ان "اوبك" الآن هي ليست "اوبك" التي انشئت في الستينات بمعنى ان آلياتها اصبحت لا تتلاءم وآليات ومؤسسات سوق النفط الحالية، وان اي محاولة لاصلاحها من الداخل محكوم عليها بالفشل. ومن هذا المنطلق لا بد من انشاء منظمة جديدة بقيادة السعودية ومن يتحد معها على الاهداف والوسائل لأنها المالكة لأكبر احتياط نفطي واكبر قدرة انتاجية في العالم. كما يمكن ان تنضم اليها الكويتوالامارات، والعراق بعد ان يتعافى من أزمته وكل من يريد الانضمام الى المنظمة الجديدة ذات الاهداف والآليات الجديدة، ولتخرج هذه المجموعة من نظم ا"وبك" القائمة على اتخاذ القرار الجماعي ومبدأ الموافقة الكلية الى اوبك جديدة تحكمها آليات حديثة وتقودها السعودية. وفي تصوركم ما هي آلية انشاء المنظمة الجديدة؟ - اولاً: ان تعلن الدول المعنية الخروج من "اوبك"، لا من اجل إلغائها في شكل مطلق ولكن من أجل ان تولد اوبك جديدة من رحم تلك الأم التي أدت واجبها وبات عليها ان تعتزل بعد ان تخطاها الزمن. هذه الخطوة في حد ذاتها كفيلة بأن تحدث هزة قوية في السوق الدولية معلنة عن قدوم فريق جديد. ثانياً: ان تطالب مجموعة المؤسسين للأوبك الجديدة بقيادة السعودية، جميع المنتجين الالتزام بالحد من الانتاج ضمن منظومة للاسعار تراعي قوى السوق ومصلحة المستهلكين والمنتجين معاً مع التأكيد على ان السعودية وفريق القيادة في منظمة اوبك الجديدة سيقومان باغراق السوق وخفض الاسعار الى ادنى حد لها ما لم تلتزم جميع الدول المنتجة للنفط بمعادلة الانتاج. واذا لم تأخذ الدول كلام السعودية على محمل الجد.، ماذا سيحدث؟ - هذا الامر متوقع، وعندما يحدث فانه يكون مبررا للسعودية ومجموعة القيادة الجديدة من الدول المتضامنة معها وذات الطاقة الانتاجية الكبيرة مثل الاماراتوالكويت على سبيل المثال في الوقت الراهن، والعراق وايران مستقبلاً، ان تقوما باغراق السوق وخفض اسعار النفط الدولية الى أدنى مستوياتها، وليكن ستة دولارات للبرميل الواحد. أليس هذا في مصلحة الدول المستهلكة؟ - هذا هو الظاهر اما حقيقة الامر فهي عكس ذلك.، لانه اذا انخفضت الاسعار الى مستوى متدن جداً ستتوقف جميع عمليات الانتاج في اميركا وبحر الشمال وحتى في بعض دول "اوبك" ذات الانتاج المكلف،، كما ستتوقف جميع المصارف الدولية عن تمويل اي مشاريع جديدة للبحث عن النفط. وبالتالي ستُشَل كل برامج الدول الصناعية وتهتز اعمال كل مؤسسات السوق النفطية الراهنة. ولكن هذه حرب نفطية كبيرة؟ - نعم ولكن أليس خفض اسعار النفط في شكل دائم الى أقل من سعره قبل عشرين عاماً هو ايضاً حرب من الدول الصناعية ضد الدول المالكة للنفط والمعتمدة عليه اعتماداً مصيرياً في بناء حاضر ومستقبل شعوبها، فاذا كان النفط بالنسبة لهم قضية استراتيجية فهو لنا قضية يتعلق بها مصيرنا ومصير أجيالنا المقبلة. إن هذا المشروع الذي اطرحه يعتمد على أمرين أساسيين: اولهما وجود الارادة السياسية القوية لدى دول القيادة وعلى رأسها السعودية، لاعادة تصحيح الوضع في سوق النفط، وثانيهما توافر القدرة على الحد من الانفاق خلال فترة الحرب السعرية التي لن تتجاوز ستة اشهر في اقصى تقدير. وهل تعتقد ان هذان الشرطان متوافرين؟ - بالنسبة للارادة السياسية، فانها ان لم تكن متوافرة الآن فلا بد ان توجد غداً اذا استمر حال النفط على ما هو عليه ، لأنه لا يمكن لأمة ان ترهن مصيرها الاقتصادي في يد الآخرين الى الابد. اما لجهة الحد من الانفاق فالامر لا يتطلب اكثر من ترشيد لبعض المصروفات وما بقي يكفي لمواجهة التحدي. أليس من الافضل اجراء حوار بين المنتجين والمستهلكين؟ - لا شك ان الحوار افضل. لكنني اعتقد ان "اوبك" طالبت اكثر من مرة الدول المنتجة الاعضاء وغير الاعضاء الالتزام بحصص معينة للحد من الفائض النفطي ومن تدهور الاسعار. كما وجهت "اوبك" الدعوة الى الدول من خارجها للتنسيق والتشاور ولكن كل هذه الجهود لم تثمر ولا اعتقد انها ستثمر. والسبب في ذلك ان "اوبك" في وضعها الحاضر تفتقر الى العاملين الاساسيين في معادلة التأثير والسيطرة على اسعار النفط وهما: القيادة، والقدرة على الفعل. فبدون قيادة قادرة على هز البنى التحتية للسوق النفطية الحالية التي تسيطر على آلياتها ومؤسساتها الدول الصناعية المستهلكة، ستبقى "اوبك" ذلك الاسد الورقي. ان التاريخ يعلمنا انه قبل اعادة هيكلة السوق لا بد من هزة سعرية قوية تزعزع اركان السوق القائمة. فهذا ما حدث في تكساس جنوبالولاياتالمتحدة الاميركية في بداية القرن العشرين، وما حدث بعد ولادة "اوبك" عام 1973، وما لا بد ان يحدث الآن اذا اردنا حلاً ناجعاً وطويل الاجل لهذه السيطرة من جانب واحد هو جانب المستهلكين للنفط الذين، من دون شك، لن يأخذوا في حسبانهم مصالح الدول المنتجة التي هي خارج معادلة السيطرة على السوق.