الكتاب: الإنسان والجدار المؤلف: بدر عبدالملك الناشر: دار المدى - دمشق - 1997 تبدو علاقة الإنسان بالجدار، كما يطرحها الباحث بدر عبدالملك في كتابه "الإنسان والجدار"، على درجة عالية من التعقيد والغنى الشديدين، والدافعين إلى تأمل هذه العلاقة التي تكاد تكون غائبة عن الكتابة العربية، على رغم حضورها، في صورة ما من صور الحضور، في الكتابة الغربية التي استطاعت توظيف هذا الموضوع لدراسات وأبحاث وإبداعات في مجالات شتى، وإن اقتصرت على ما هو قائم في تلك المجتمعات التي تبيح دراسة ظواهر قد لا تبيحها مجتمعاتنا بكل ما فيها من "تابو" وانشغالات ذات طبيعة ما تزال متخلفة إلى حد كبير. كتاب بدر عبدالملك يضع بين أيدينا مادة بحثية تصلح لعشرات الأبحاث في مجالات تبدو متداخلة ومتعالقة، في الوقت الذي يمكن أن يكون كل منها مجالاً مستقلاً للبحث. فقد جهد عبدالملك في تقديم صورة بانورامية شاملة ودقيقة إلى حد بعيد عن علاقة الإنسان بالجدار، منذ إنسان الكهوف الأول، فتناول أشكالاً من الجدران تجعل من علاقة الانسان بها أمراً "لغزاً" محيراً أشد الحيرة، ويمكن تلخيصه في كون هذا الانسان قد جاء من جدران الرحم المظلم، وهو يمضي في النهاية إلى جدران قبر لا يحتوي سوى الظلمة الأبدية. وما بين هذين العالمين الغارقين في الظلمة تمتد مسافة تغمرها عوالم شديدة الاظلام، وجدران شديدة القدرة على إقامة الحواجز، بأنواعها وألوانها المختلفة، بين بني البشر. يبدأ الباحث من المفهوم اللغوي والجدار التاريخي، ويختم بالدلالات الاجتماعية والنفسية للجدار... وما بين البدء والختام يقف المؤلف، في فصول تتناول "جماليات الجدار" و"كرافتي الجدران" و"الجدار البشري"، و"الجدران المقدسة" و"الجدار السياسي". وتحت كل واحد من هذه العناوين يحشد قدراً هائلاً من القراءات التي تراوح بين التعمق حيناً والتحليل الموسع ولكن السريع - بل المتسرع - حيناً آخر، الأمر الذي قد يبرره إلى حد ما توزع مادة البحث على حقول واهتمامات عدة. ما يعني أن ما يستحق الاشادة في هذا البحث الضخم نسبياً حوالى 500 صفحة، في الأساس ومن حيث المبدأ، هو فكرة البحث الأولية ابتداء، ثم الجهد المبذول في جمع المادة البحثية من مصادر ومراجع ونشريات وصحافة وأشكال من الأدب والفن عموماً، ومن لغات عدة، حتى يمكن القول إن مجرد تنسيق هذه المادة في أبواب محددة هو جهد كبير، إلا أن هذا لا يعني ان البحث يخلو من عمليات الربط والتحليل والاستقراء لظواهر شديدة الأهمية. على العكس، فعمليات الاستقراء التي نجدها في مجال ظاهرة مثل "الكرافتي" - مثلاً - تقدم صورة لبحث ناضج على صعيد التعريف بهذا النشاط الإنساني الذي يظهر شكلاً من أشكال العلاقة بين الإنسان والجدار. الشكل الذي يعبر عن استثمار الجدار وتوظيفه في مجالات عدة. فتحضر في هذا البحث إمكانات الباحث الذي يستحضر أقدم نص كرافتي من "الكتاب المقدس" دانيال، الاصحاح الخامس فيعلقه مفتاحاً لبوابة هذا الفصل. ثم يروح يتتبع ظاهرة الكتابة على الجدران عبر التاريخ وصولاً إلى النماذج الحديثة والمعاصرة، كما تتجسد في "حرب الجدران" في لبنان، وفي "الانتفاضة" الفلسطينية. في واحدة من خلاصاته التي يبدو أنها جاءت نتاج جولة ميدانية لجمع شعارات الجدران في لبنان الحرب الأهلية، وبعد حشد مجموعة هائلة من الشعارات المتناقضة/ المتصارعة، ولكن المتشابهة، الصادرة عن مواقع متضادة، وبعد التأمل فيها، يقول المؤلف: "لقد وقفت طويلاً أقلب النصوص، فوجدت نفسي أمام انقلاب في مفاهيم اللغة والمعنى. ففي حرب أهلية بين الشعب، من هو الشهيد؟ ومن هو الخائن؟ ومن هو الضحية؟ ومن هو الوطني؟ فللجميع اللحن نفسه. والفضاء والذاكرة، أليس في كل بيت لبناني شهيد وخائن؟ إذا ما قلبنا المفاهيم؟". وفي بحثه المتعلق بالجدار البشري، يغوص المؤلف كاشفاً عن جدران وأسوار يقيمها الإنسان - الأمم والدول والفئات والاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية - ويحافظ عليها بما يجعلها شديدة الشبه بالمعازل العنصرية والاثنية حيناً، أو بالسجون والزنازين حيناً آخر، الأمر الذي يعتبره المؤلف أخطر أنواع "جدران العزلة والتفرقة والتفاوت، جدران الكراهية والتفوق والتعالي"، ويذهب الانسان أحياناً كثيرة إلى حد تحويل الماء والتراب، العنصرين الأبرز من عناصر الحياة، إلى جدران تحجز وتفصل وتحد، إذ "ان السياسة والتوسع تقلب مفاهيم الماء... وتتحول الجزر ذاتها إلى قوة معزولة وضعيفة امام قوى هجومية، توسعية...". وعلى رغم "المثالية" التي تحكم هذا التصنيف للعالم، وهي مثالية يرفضها الواقعيون بالضرورة، فإنه التصنيف الأكثر بدئية وطبيعية لو كان العالم غير ما هو عليه من صراعات تفجرها القوى العظمى من أجل السيطرة، وتتمثل لها القوى الصغرى الباحثة عن مكان لها تحت شمس هذه الحياة. وهو ما تلمح إليه الدراسة عبر اشارات سريعة. ويمس الباحث، مسّاً رقيقاً، الجوانب الشعورية المتعلقة بمعتقدات بعض الشعوب ومقدساتها، في تناوله موضوع "الجدران المقدسة"، خصوصاً ظاهرة المقدس المبالَغ في تقديسه والذي لا ينبع من جوهر الاديان بقدر ما هو نابع ومتحول من الأعراف والتقاليد ومرفوع إلى قوة روحية وقدسية ذات رسوخ يثير الرهبة والحب والاحترام من جهة اتباعه. هل في الامكان ازالة هذا القدر الهائل من الجدران الطبيعية والمصطنعة؟ لئن كان ممكناً، وإن بصعوبة، تجاوز الحواجز والجدران الطبيعية، فإن الجدران التي تنجم عن المعتقدات والفوارق الاجتماعية والعرقية. وعلى مستوى المجتمع الواحد أحياناً، تتراكم وتترسخ مرسخة حال العزلات والصراعات الحادة، ما يبدو معه ان من المستحيل اختراقها وهدمها. والأصعب من ذلك في استحالته - حسب الباحث - هو انغلاق الإنسان في سجنه الداخلي، ككائن حساس ومعقد مسجون داخل التقاليد والأقنعة والمعايير... الخ.