كان أول لقاء لي به في خريف 1974 وقد أكمل الستين من عمره، كنت قد وصلت الى المكسيك استاذاً زائراً لتدريس الادب العربي في "كوليخيو المكسيك" وهو مؤسسة علمية رفيعة اقيمت في اميركا اللاتينية على نمط "الكوليج دي فرانس" لتكون معقلاً للفكر والثقافة والدراسات العليا في الجزء الأوسط والجنوبي من القارة الجديدة، قدمني له في كافتيريا الكلية التي جاء لزيارتها صديق مكسيكي مشترك يبحث في التاريخ الاسلامي القديم، كنت أجهز كتابي عن نظرية البنيوية، ولفت نظري ان هذا الشاعر الكبير قد أخذ يسهم في تشكيلها نقدياً بكتابه عن "ليفي ستراوس" الذي صدر عام 1967، فأخذت اسأله عن علاقته بالتيار الجديد، أجابني باقتضاب، لأنه كان شغوفاً حينئذ بشيء آخر كان متلهفاً لمعرفة المزيد عن التصوف الاسلامي، حدثته باستقصاء عن فتوحات ابن عربي، كان يعد كتابه عن الشاعرة المتصوفة الرقيقة "سورخوانا دي اينيس"، وكان معنياً بما تسرب اليها من فكر صوفي عربي اسلامي، أسر لي الصديق بعد ذهابه انه في إجازة قصيرة، فهو يحاضر عن علم الجمال في "هارفارد" بعد ان اعتزل الحياه الديبلوماسية واستقال عام 1968 من منصبه كسفير للمكسيك في الهند احتجاجاً على قسوة الحكومة وعنفها الدموي في معاملة تظاهرات الطلاب استعداداً للدورة الاولمبية او كأس العالم في المكسيك. فتنني هذا الشاعر المفكر العظيم ببساطته وكلماته المقتصدة، كان أدب اميركا اللاتينية حينئذ قد انفجر عالمياً بدوي صاخب في جنس آخر هو الرواية، لكن أوكتافيو باث يمثل لي الجناح الآخر المعادل العارم في قوته ايضا وهو الفكر الشعري. كنت اتصور ان النقد يمثل خطراً على الشاعر الخلاق، وأن ارتفاع درجة الوعي النقدي يهدد الموهبة الإبداعية، يمنحها مزيداً من الضوء الحارق المدمر لغرفة التحميض التصويرية في الشعر، لكن ها هو شاعر المكسيك الكبير يقدم الاستثناء الخارق للقاعدة كما قدمه من قبل في الثقافة الانكلوساكسونية صديقه اللدود "إليوت"، كان باث قامة فارعة في الفكر المبدع بشقيه المتنافرين. وعندما امعنت في قراءته بعد ذلك وجدت لديه نموذجاً فريداً في التحام الآفاق، كان مصاباً بحميّا النقد العظيم ويرى فيه سر الحداثة وشعرية العالم. يقول اوكتافيو باث: "إن الروح النقدي يمثل الفتح المذهل للعصور الحديثة. فحضارتنا تتأسس بالتحديد على فكرة النقد، لا شيء مقدساً أو لا يمكن المساس به أمام الفكر، باستثناء حرية الفكر ذاتها، فالفكر الذي يرفض النقد، خاصة نقد ذاته ليس فكراً. من دون النقد، أي من دون الصرامة والاختبار لا مكان للعلم، وبدونه لا يوجد فن ولا أدب، بل يمكنني ان أقول إنه من دون النقد لا يوجد مجتمع صحي سليم. إن النقد هو المصل الوحيد المضاد لطاعون القرن العشرين، طاعون النظم الشمولية، إن الإبداع والنقد في عصرنا هما الشيء نفسه، لم يعد الكاتب خادم الكنيسة او الدولة او الحزب او الوطن او الشعب او أخلاق المجتمع. إنه خادم اللغة، لكنه لا يخدمها في الواقع إلا إذا وضعها موضع المساءلة. فالأدب الحديث قبل كل شيء، وفوق كل شيء إنما هو نقد للغة". من الواضح ان باث يتحدث عن الروح النقدي العام في الفكر والمواقف الاجتماعية والانسانية، لكن النقد الأدبي، خاصة في العالم الثالث هو البؤرة المحركة لهذه الدوائر العريضة، هو الطاقة الموجهة لاستراتيجية الحياة العامة. والطريف ان اختيارات باث كانت مضادة في جملتها للتيارات الكاسحة الايديولوجية الموجهة للمثقفين في اميركا اللاتينية، لقد عرف كيف ينجو بروحه من عدوى اليسار الشيوعي إبان ذروته عند منتصف القرن، وقد كانت السوريالية بالنسبة إليه البورة التي وجد فيها موقعه الصحيح بشكل مبكر منذ الثلاثينيات كان عاشقاً منذ صباه للحرية، فلم يستطع ان يتبلع نموذج الدكتاتورية الستالينية وانفصل عن الحركات اليسارية، التي اجتاحت اميركا اللاتينية، كما استشعر بالدرجة ذاتها نفوراً طاغياً من الجبروت الرأسمالي العاتي وايديولوجيته الدينية في الجناح الاميركي. فوجد مكانه الأمثل في التيار السوريالي الذي يقول عنه بعشق حقيقي: "إن السوريالية لم تكن مجرد مذهب جمالي أو شعري أو سياسي، بالرغم من أنها مثلت كل ذلك، بل كانت موقفا حيويا، نوعاً من النقد للعالم المعاصر. وفي الوقت ذاته محاولة لاستبدال قيم المجتمع الديموقراطي البورجوازي بقيم جديدة هي العشق والشعر والخيال والمغامرة الروحية والرؤية، وكل هذا من معالم الحداثة التي تتجلى فيها اصداء كبار الرومانسيين وما كتبته من شعر يمثل جزءاً من هذا التيار". ومن الطبيعي ان تتقادم السوريالية بالنسبة لشاعرنا، فقد كانت تمثل مرحلة من حياته الابداعية، لكنه كان حريصاً على ان يبدو وفياً لهذه المرحلة. وفي "منتخبات الشعر السوريالي" التي أصدرها جان لويس بدوين وهي تمثل المجموعة الرسمية للموجة الثانية من السورياليين التشكيليين والشعراء، نجد فيها اسماء بيكاسو وبيكابيا ونيسار مورو واوكتافيو باث وأرابال. وقد كتب بدوين تاريخ الحركة السوريالية بعد عام 1939 فأكمل كتاب موريس نادو وأزاح وهماً نقدياً عن انتهاء السوريالية مع بداية الحرب العالمية الثانية. ويقول اوكتافيو باث عن ذلك "خلال الحرب وإبان الاربعينيات كتب بريتون قصيدتين من اهم اعماله، وكذلك كتاب سورياليون آخرون يذكر منهم شاعر لبناني كبير كان بريتون شديد الاعجاب بأعماله ويعتبره من افضل الشعراء الفرنسيين المعاصرين وهو جورج شحادة". ويرى باث ان المشهد تغير بعد الحرب وطغت عليه الوجودية الفنية، إلا أنها كانت حركة ايديولوجية شديدة الفقر، في تقديره، من الوجهة الفنية والشعرية. "من الذي يستطيع اليوم ان يقرأ مسرح سارتر أو رواياته. لقد حاول الادب الملتزم ان يكون تاريخيا، لكنه شاخ قبل التاريخ، وما يبقى من هذه المرحلة ليس هو الادب الملتزم، ولا الادب الماركسي الذي كتبه اراغون او إيلوار. ما بقي منها هو أعمال بيكيت وجينيه وكامو ومجموعة من الشعراء الوثيقي الصلة بالسوريالية" هكذا يصرح اوكتافيو باث في حواراته الفكرية الممتعة التي يحدد فيها مواقفه ورؤيته وقراءته لحركة الادب والمجتمع والثقافة المعاصرة. شبكة الانتماءات بوسعنا ان نتحدث عن عدد من الوشائج القديمة والحديثة، الطبيعية والثقافية، التي تربط اوكتافيو باث بعالمنا العربي من ناحية وبالعالم الغربي من ناحية أخرى. ولعل اعرقها يتمثل في هذا المزاج المهجن المختلط لكل مكسيكي من الهنود الاصليين والأسبان الوافدين، وما كان يحمله هؤلاء الاسبان - بالرغم من التحريمات الكنسية والامبراطورية - من دم اندلسي متدفق، واعراق موريسكية كانت تفر من اضطهاد محاكم التفتيش الى العالم الجديد. وقد أثبتت الدراسات الانثروبولوجية التي كان اوكتافيوباث شغوفاً بها وأغرته بالكتابة عن ليفي ستراوس - القطب البنيوي البارز - ان العمارة والرسم والثقافة والادب والفنون، كل ذلك في فضاء اميركا اللاتينية كان مشبعاً بالطرز الاندليسة العربية ومفعماً بروحها. وكان باث يفخر بأنه ولد لأم أندلسية ورثت كل هذه الخواص، فلا غرو ان تمثل عرقاً اصيلاً لديه تعززه بقية العناصر المؤازرة. وعندما جاءت موجات الهجرة الشامية منذ نهاية القرن الماضي الى الأميركتين استزرعت في المكسيك عدداً ضخماً من العائلات العربية التي سرعان ما انتقل مجال نشاطها من التجارة الضرورية للرزق الي الحياة العلمية والثقافية بحيث اصبحت نوادي المهندسين المعماريين والرسامين والاساتذة ورجال الاعمال والاقتصاد والسياسة غنية بأبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجريين العرب وانضمت الثقافة الغذائية والموسيقية العربية الى "الموزايكو" المتنوع الخلاق لثقافة اميركا اللاتينية واصبح لها حضورها المقطّر في الوجدان الفني والابداعي، لكن القناة الثالثة التي اصبحت حاسمة في توجيه اهتمام باث وصبغ طريقته في التخيل والتفكير بالصبغة المشرقية المتلائمة مع تكوينه الأصلي جاءت عن طريق زياراته المتكررة للهند واليابان إبان سنوات تكوينه ونضجه الفني معا ومحاولاته في استلهام الآداب المشرقية في كتاباته وتجاربه الشعرية والحوارية، وجاءت إقامته الطويلة في الهند سفيراً لبلاده خلال الستينيات لتتيح فرصة الاستغراق في تشرب الفلسفات المشرقية، وكان لهذه الفترة تأثير ساحر وحاسم في نفاذه الى اعماق الحضارات القديمة الموازية لحضارة بلاده، عندئذ اصبح باث بحق مواطناً عالمياً يجمع في جوانحه بين ادق تفصيلات الثقافة الغربية التي يتخذ منها دائماً موقفاً نقدياً صارماً وتلك الوشائج الشرقية والعربية التي عرف كيف يحيا بها ويبعث جذورها الاندلسية العريقة. وليس من الغريب ان نجد باث شديد الوعي بهذه الجذور وامتداداتها وما يعنيه في شبكة انتماءاته الحضارية والابداعية العميقة فهو يقول رداً على سؤال حول مدى قربة اكثر من الشعر الفرنسي او الاميركي: من الأفضل عند الإجابة عن هذا السؤال ان اضع نفسي داخل الشعر الحداثي، فكثير مما كتبت كان محاولة للاندراج في هذه الحداثة، اعتقد ان هذه ضرورة يستشعرها جميع الشعراء وفي حالة شاعر مثلي من اميركا اللاتينية فإن هذه الضرورة تصبح أشد عمقاً، فالانسان في اميركا اللاتينية كائن يعيش في ضواحي الغرب وعلى هامش التاريخ وهو في الوقت نفسه يشعر بأنه جزء من تراث كان بحتقره الى عهد قريب، لهذا فإن كل واحد من شعراء اميركا اللاتينية يؤكد اصالته الاميركية بشيء من المبالغة في الوقت الذي يقدم نفسه فيه باعتباره جزءاً من التراث العالمي. التياران الشعريان الاساسيان في اميركا اللاتينية هما الحداثة والطليعية، ولهما طابع كوزموبوليتاني وأميركي معاً، وكل عمل ادبي من اميركا اللاتينية إنما هو امتداد للغرب واعتداء عليه في الوقت ذاته، وليست اعمالي في المحصلة الاخيرة سوى نتيجة مركزة لهذا الامتداد والاعتداءات على التراث الغربي بأكمله. هذه الشبكة من الانتماءات هي التي تجعل سؤال الهوية الثقافية والإبداعية مطروحاً بقوة في اميركا اللاتينية مثلما هو مطروح في عالمنا العربي، وهي التي تجعل نموذج باث في قدرته الفائقة على إقامة الالتحام الفكري بين الآفاق المختلفة، كي يكون عالمياً، في الوقت الذي يكون هو في ذاته، تجعله شديد الخصوبة والجاذبية خاصة وهو ينفر من الأيدلوجيات القامعة بما فيها الايديولوجية القومية ذاتها، لكي يكون مبدعاً خلاقاً متنوع الأصول متعدد الانتماءات متحرراً من كل ما يعوق حركته الى المستقبل الانساني. أنشودة الحب والموت كان لأوكتافيو باث نظرياته الطريفة في الجنس والحب والموت، وكان يدافع عنها في كتاباته وحواراته بشغف وافتنان، فهذه المنظومة الثلاثية تمثل لديه معاريج السمو الإنساني ومحاور الإبداع الشعري ايضا، وربما كان الانصات الى صوته الغنائي وهو ينشد لهذه المنظومة أوفق للاقتراب من فكره وهو يتجسد لغة شعرية شيقة، حيث يقول في قصيدته الشهيرة "حجر الشمس": كل شيء يتحول وهو مقدس مركز العالم هو كل حجرة اول ليلة، اليوم الأول العالم يولد كلما تبادل إثنان القُبل قطرة النور بأحشاء شفيفة كأن الحجرة ثمرة المواربة تنفجر كشهاب مكفهر 00 00 الجدران اللامرئية، الأقنعة العفنة ما يفصل الإنسان عن الإنسان والرجل عن نفسه تتساقط في لحظة هائلة نستبصر وحدتنا المفقودة. الخذلان هو الانسان المجد ان نكون بشراً نقتسم الخبز والشمس والموت والدهشة المنسية لأننا أحياء. .. .. العشق نضال، إذا تبادل إثنان القبل يتغير العالم، تتجسد الأشواق الفكر يتجسد، ينبت جناحان على ظهر العبد، يصبح العالم واقعياً وملموساً، الخمر خمر والخبز يسترد مذاقه والماء عذوبته. العشق نضال، فتح أبواب لا يصبح شبحاً، رقماً مصفوداً في السلاسل لسيد بلا وجه العالم يتغير عندما يتبادل إثنان النظر والتعارف فالعشق ان نتعرى من الأسماء "دعني أكن عشقتك" كلمات "إليوسا"، وقد استجاب للقوانين واتخذها زوجة، فكانت جائزته أن أصبح خصيًّا في ما بعد وليس بوسعي ان أودع باث وهو ينشد للعشق والحرية والموت من دون أن تقودني حفريات الذاكرة الى أمرين، أحدهما هو صورة الموت عند الإنسان المكسيكي العادي، بله الفنان العظيم، فالموت لديه موضوع للجذل والاحتفال، ليس من قبيل الخلاص المسيحي من الآلام ولا الفرح الاسلامي بدار الخلود الباقية، ولكن لأنه الوجه الآخر للعشق الحقيقي، الأموات عندهم أحياء بالحقيقة لا بالمجاز. وكم كنت أدهش عندما أجد الناس في عيد الأموات ينصبون الشموع من المقابر الى المنازل كي تستنير بها الأرواح عند زيارتها للأهل، ويعدون الموائد الحافلة بلذائذ الطعام، ويعتقدون بمنتهى الصدق والجدية أن الأرواح تطعم منها وتنعم بصحبة الأحياء في عيدهم، الموت لدى المكسيكيين موضوع للبهجة والفرح لأنه ما يعطي الجنس والعشق معناهما الحقيقي، وهو لهذا يمثل الدرجة العليا في سلم الحب عند اوكتافيو باث. أما الصورة الأخرى التي لا أستطيع دفعها عن ذاكرتي في ختام هذه الكلمات فهي لقائي الأخير معه في مدريد بعد عشر سنوات من تعرفي عليه، كان "بنك استريور" ينظم معرضاً فنياً حافلاً، ودعا أوكتافيو باث لافتتاحه، وذهبت للقائه بصحبة شاعرنا العربي الكبير الذي كان مقيماً في مدريد خلال الثمانينات، عبدالوهاب البياتي، وجلسنا معاً عقب الاحتفال نتحدث عن الفن والشعر والتراث الحضاري لشعوبنا العريقة ومآسيها السياسية، كان يرى ان ثراء الروح وخصوبة الإبداع وحيوية الانسان هي التي تمثل رصيد الشعوب الحقيقي، وفجأة التفت الى احد المصورين وأشار اليه بأن يلتقط لنا صورة قائلاً: حتى أكون معكم دائماً، ولم نكن ندري أننا نطوي صفحة من هذة العلاقة الشخصية الوثيقة كي نفتح صفحات أخرى أشد تواصلاً ولذة من علاقات حميمة بفكره الشعري الذي لا يفيض.